مجموع الفتاوى/المجلد الأول/وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان


وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان

عدل

وأهل الجاهلية فيها نوعان: نوع يكذب بذلك كله، ونوع يعتقد ذلك كرامات لأولياء الله.

فالأول يقول: إنما هذا خيال في أنفسهم لا حقيقة له في الخارج، فإذا قالوا ذلك لجماعة بعد جماعة، فمن رأى ذلك وعاينه موجودا أو تواتر عنده ذلك عمن رآه موجودا في الخارج وأخبره به من لا يرتاب في صدقه، كان هذا من أعظم أسباب ثبات هؤلاء المشركين المبتدعين المشاهدين لذلك، والعارفين به بالأخبار الصادقة.

ثم هؤلاء المكذبون لذلك متى عاينوا بعض ذلك، خضعوا لمن حصل له ذلك وانقادوا له واعتقدوا أنه من أولياء الله، مع كونهم يعلمون أنه لا يؤدى فرائض الله حتى ولا الصلوات الخمس، ولا يجتنب محارم الله؛ لا الفواحش ولا الظلم، بل يكون من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى التي وصف الله بها أولياءه في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} 1.

فيرون من هو من أبعد الناس عن الإيمان والتقوى له من المكاشفات والتصرفات الخارقات ما يعتقدون أنه من كرامات أولياء الله المتقين.

فمنهم من يرتد عن الإسلام وينقلب على عقبيه، ويعتقد فيمن لا يصلى، بل ولا يؤمن بالرسل، بل يسب الرسل، ويتنقص بهم أنه من أعظم أولياء الله المتقين.

ومنهم من يبقى حائرا مترددا شاكا مرتابا يقدم إلى الكفر رِجْلا وإلى الإسلام أخرى، وربما كان إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان.

وسبب ذلك: أنهم استدلوا على الولاية بما لا يدل عليها، فإن الكفار والمشركين والسحرة والكهان معهم من الشياطين من يفعل بهم أضعاف أضعاف ذلك. قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 2.

وهؤلاء لا بد أن يكون فيهم كذب وفيهم مخالفة للشرع، ففيهم من الإثم والإفك بحسب ما فارقوا أمر الله ونهيه الذي بعث به نبيه . وتلك الأحوال الشيطانية نتيجة ضلالهم وشركهم وبدعتهم وجهلهم وكفرهم، وهى دلالة وعلامة على ذلك.

والجاهل الضال يظن أنها نتيجة إيمانهم وولايتهم لله تعالى، وأنها علامة ودلالة على إيمانهم وولايتهم لله سبحانه، وذلك أنه لم يكن عنده فرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان كما قد تكلمنا على ذلك في مسألة الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ولم يعلم أن هذه الأحوال التي جعلها دليلا على الولاية تكون للكفار من المشركين وأهل الكتاب أعظم مما تكون للمنتسبين إلى الإسلام، والدليل مستلزم للمدلول مختص به لا يوجد بدون مدلوله، فإذا وجدت للكفار والمشركين وأهل الكتاب لم تكن مستلزمة للإيمان فضلا عن الولاية، ولا كانت مختصة بذلك، فامتنع أن تكون دليلا عليه.

وأولياء الله هم المؤمنون المتقون، وكراماتهم ثمرة إيمانهم وتقواهم، لا ثمرة الشرك والبدعة والفسق.

وأكابر الأولياء إنما يستعملون هذه الكرامات بحجة للدين أو لحاجة للمسلمين.

والمقتصدون قد يستعملونها في المباحات.

وأما من استعان بها في المعاصي فهو ظالم لنفسه، مُتَعَدٍّ حد ربه، وإن كان سببها الإيمان والتقوى. فمن جاهد العدو فغنم غنيمة فأنفقها في طاعة الشيطان، فهذا المال، وإن ناله بسبب عمل صالح، فإذا أنفقه في طاعة الشيطان كان وبالا عليه، فكيف إذا كان سبب الخوارق الكفر والفسوق والعصيان وهى تدعو إلى كفر آخر وفسوق وعصيان؟

ولهذا كان أئمة هؤلاء معترفين بأن أكثرهم يموتون على غير الإسلام. ولبسط هذه الأمور موضع آخر.


هامش

عدل
  1. [يونس: 62، 63]
  2. [الشعراء: 221، 222]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الأول
مقدمة الكتاب | توحيد الألوهية | قاعدة في الجماعة والفرقة وسبب ذلك ونتيجته | فصل: في حديث ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم | قاعدة جليلة في توحيد الله | فصل: في افتقار الإنسان إلى اختيار الله وتقديره | فصل: يتضمن مقدمة لتفسير إياك نعبد وإياك نستعين | فصل: في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة | فصل: العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقارا إليه كان أقرب إليه وأعز عليه | فصل: السعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله | فصل: في قوله اهدنا الصراط المستقيم | فصل: في ألا يسأل العبد إلا الله | فصل: العبادات مبناها على الشرع والاتباع لا على الهوى والابتداع | فصل: جماع الحسنات العدل وجماع السيئات الظلم | الشرك بالله أعظم الذنوب | فصل: قاعدة تحرك القلوب إلى الله عز وجل | فصل: ذكر مناظرة إبراهيم للمشركين | سئل الشيخ عمن قال يجوز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم | سئل الشيخ عمن يقول لا يستغاث برسول الله | فصل: سمى الله آلهة المشركين شفعاء | فصل: في الشفاعة المنفية في القرآن | سئل عن رجل قال: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله | وسئل عمن يقول إن الله يسمع الدعاء بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم | وسئل هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أم لا | رسالة في التوسل والوسيلة | فصل: لفظ التوسل قد يراد به ثلاثة أمور | الزيارة الشرعية والزيارة البدعية للقبور | تبيين للأوهام التي تحصل للعامة عند القبور | وأهل الجاهلية في هذه الأوهام نوعان | من أعظم أسباب ضلال المشركين ما يرونه أو يسمعونه عند الأوثان | وصية النبي لابن عباس إذا سألت فاسأل الله | ومن السؤال ما لا يكون مأمورا به والمسؤول مأمور بإجابة السائل | دين الإسلام مبني على أصلين | فصل: لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه يجب أن تعرف معانيه | الحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور | قول القائل أسألك بكذا | جواز التوسل بالأعمال الصالحة | السؤال بحق فلان مبني على أصلين | سؤال الله بأسمائه وصفاته أعظم ما يسأل الله تعالى به | حكايات غريبة في التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم | قصد السفر لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم | السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين | الكلام على حديث أول ما خلق الله العقل | لفظ التوسل والاستشفاع ونحوهما دخل فيها من تغيير لغة الرسول وأصحابه | أحاديث موضوعة في التوسل | آثار عن السلف أكثرها ضعيفة | سؤال الأمة له الوسيلة | من قال من العلماء إن قول الصحابي حجة | فكما أنه لا يسوغ لأحد أن يحلف بمخلوق فلا يحلف على الله بمخلوق | ثبت بالنصوص الصحيحة أنه لا يجوز الحلف بشيء من المخلوقات | نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجدا | التوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته على وجهين | سؤال عما يجوز وما لا يجوز من الاستشفاع والتوسل بالأنبياء والصالحين | الرد على من قال أن النبي لا يشفع لأهل الكبائر من أمته | النهي عن اتخاذ القبور مساجد | الكلام على حديث اللهم إنى أسألك وأتوسل إليك بنبيك محمد | كلام السلف على قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه | الشفاعة نوعان | اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى | فصل: لا يجوز لأحد أن يستغيث بأحد من المشايخ الغائبين ولا الميتين | في قول القائل أسألك بحق السائلين عليك وما في معناه | سئل رحمه الله عمن يبوس الأرض دائما هل يأثم | وسئل عن النهوض والقيام عند قدوم شخص معين معتبر أحرام هو | فصل: الانحناء عند التحية | فصل: كان المشركون يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله