مجموع الفتاوى/المجلد الأول/الشفاعة نوعان
الشفاعة نوعان
عدلفالشفاعة نوعان:
أحدهما: الشفاعة التي نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون، ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة، وضلالهم؛ وهى شرك.
والثاني: أن يشفع الشفيع بإذن الله، وهذه أثبتها الله تعالى لعباده الصالحين؛ ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتى ويسجد. قال: (فأحمد ربي بمحامد يفتحها على لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع) فإذا أذن له في الشفاعة شفع ﷺ لمن أراد الله أن يشفع فيه.
قال أهل هذا القول: ولا يلزم من جواز التوسل والاستشفاع به بمعنى أن يكون هو داعيًا للمتوسل به أن يشرع ذلك في مغيبه، وبعد موته؛ مع أنه هو لم يدع للمتوسل به، بل المتوسل به أقسم به أو سأل بذاته، مع كون الصحابة فرقوا بين الأمرين؛ وذلك لأنه في حياته يدعو هو لمن توسل به، ودعاؤه لمن دعا له وشفاعته له أفضل دعاء مخلوق لمخلوق، فكيف يقاس هذا بمن لم يدع له الرسول، ولم يشفع له؟ ومن سوى بين من دعا له الرسول، وبين من لم يدع له الرسول، وجعل هذا التوسل كهذا التوسل، فهو من أضل الناس.
وأيضا، فإنه ليس في طلب الدعاء منه ودعائه هو والتوسل بدعائه ضرر، بل هو خير بلا شر، وليس في ذلك محذور ولا مفسدة، فإن أحدًا من الأنبياء عليهم السلام لم يعبد في حياته بحضوره، فإنه ينهى من يعبده ويشرك به ولو كان شركًا أصغر، كما نهى النبي ﷺ من سجد له عن السجود له، وكما قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد) وأمثال ذلك.
وأما بعد موته، فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح، والعزير وغيرهما عند قبورهم؛ ولهذا قال النبي ﷺ: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) أخرجاه في الصحيحين، وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد)، وقال: (لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما فعلوا.
وبالجملة، فمعنا أصلان عظيمان، أحدهما: ألا نعبد إلا الله. والثاني: ألا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة.
وهذان الأصلان هما تحقيق (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) كما قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} 1.
قال الفُضَيْل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا على، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وذلك تحقيق قوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 2.
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، وقال تعالى: {أّمً لّهٍمً شٍرّكّاءٍ شّرّعٍوا لّهٍم مٌَنّ بدٌَينٌ مّا لّمً يّأًذّنً بٌهٌ بلَّه} 3.
وفي الصحيحين عن عائشة، عن النبي ﷺ أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي لفظ في الصحيح: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، وفي الصحيح وغيره أيضا يقول الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيرى فأنا منه برىء وهو كله للذى أشرك).
ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قبَّل الحجر الأسود وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك. والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته، وموالاته ومحبته، وأن يكون الله ورسوله أحبَّ إلينا مما سواهما، وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته. فقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 4، وقال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} 5، وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 6، وأمثال ذلك في القرآن كثير.
ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة ودل علىه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عنه، ولا يقفو ما ليس له به علم، ولا يقول على الله ما لم يعلم، فإن الله تعالى قد حرَّمَ ذلك كله.
وقد جاء في الأحاديث النبوية ذكر ما سأل الله تعالى به، كقوله ﷺ: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حى، يا قيوم) رواه أبو داود وغيره، وفي لفظ: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.
هامش
عدل