مجموع الفتاوى/المجلد الأول/النهي عن اتخاذ القبور مساجد
النهي عن اتخاذ القبور مساجد
وقد استفاضت الأحاديث عن النبي ﷺ أنه نهى عن اتخاذ القبور مساجد، ولعن من يفعل ذلك، ونهى عن اتخاذ قبره عيدًا، وذلك لأن أول ما حدث الشرك في بني آدم كان في قوم نوح.
قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام. وثبت ذلك في الصحيحين عن النبي ﷺ أن نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وقد قال الله تعالى عن قومه أنهم قالوا: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} 1 قال غير واحد من السلف: هؤلاء كانوا قومًا صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، فلما طال عليهم الأمد عبدوهم؛ وقد ذكر البخاري في صحيحه هذا عن ابن عباس، وذكر أن هذه الآلهة صارت إلى العرب، وسمى قبائل العرب الذين كانت فيهم هذه الأصنام. فلما علمت الصحابة رضوان الله عليهم أن النبي ﷺ حَسَمَ مادة الشرك بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد وإن كان المصلى يصلى لله عز وجل، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس لئلا يشابه المصلين للشمس، وإن كان المصلى إنما يصلى لله تعالى، وكان الذي يقصد الدعاء بالميت أو عند قبره أقرب إلى الشرك من الذي لا يقصد إلا الصلاة لله عز وجل لم يكونوا يفعلون ذلك.
وكذلك علم الصحابة أن التوسل به إنما هو التوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته، وموالاته، أو التوسل بدعائه وشفاعته، فلهذا لم يكونوا يتوسلون بذاته مجردة عن هذا وهذا.
فلما لم يفعل الصحابة رضوان الله عليهم شيئا من ذلك، ولا دعوا بمثل هذه الأدعية وهم أعلم منا وأعلم بما يحب الله ورسوله، وأعلم بما أمر الله به رسوله من الأدعية، وما هو أقرب إلى الإجابة منا، بل توسلوا بالعباس وغيره ممن ليس مثل النبي ﷺ دل عدولهم عن التوسل بالأفضل إلى التوسل بالمفضول أن التوسل المشروع بالأفضل لم يكن ممكنا.
وقد قال ﷺ: (اللهم لا تجعل قبري وثَنًا يُعْبَد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه مالك في موطئه ورواه غيره، وفي سنن أبي داود عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) وفي الصحيحين أنه قال في مرض موته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا، قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدًا. وفي صحيح مسلم عن جندب أن النبي ﷺ قال قبل أن يموت بخمس: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك). وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
هامش
- ↑ [نوح: 23، 24]