مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر/فصل في الكون يقظة ومناما
فصل في الكون يقظة ومناما
في الكون يقظة ومنامًا: لما كانت الرؤية بالعين للأشياء على وجهين:
أحدهما: رؤية العين الشيء بلا واسطة، وهي الرؤية المطلقة. مثل رؤية الشمس، والقمر، كما قال النبي ﷺ: «إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر»، وقد تنازع الناس هل الرؤية انطباع المرئي في العين، أو لانعكاس شعاع البصر، أو لا لواحد منهما. على أقوال معروفة.
والثاني: رؤية المثال: وهي الرؤية في ماء، ومرآة، ونحوهما. وهي رؤية مقيدة، ولهذا قال الفقهاء لو حلف: لا رأيت زيدًا، فرأى صورته في ماء، أو مرآة، لم يحنث، لأن ذلك ليس هو المفهوم من مطلق الرؤية، وهذا في الرؤية. كسماع الصدى في السمع، فإذا أراد الإنسان أن يرى ما يمر وراءه من الناس والدواب نظر في المرآة التي تواجهه، فتنجلي له فيها حقائق ما وراءه، فمن هذه الرؤيا قد يرى بيان الحقيقة، وقد تتمثل له الحقيقة بمثال يحتاج إلى تحقيق. كما تمثل جبريل في صورة البشر، وهكذا القلب من شأنه أن يبصر، فإن بصره هو البصر، وعماه هو العمى. كما قال تعالى: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } 1.
فتارة يرى الشيء نفسه إذا كشف له عنه، وتارة يراه متمثلا في قلبه الذي هو مرآته، والقلب هو الرائى أيضا، وهذا يكون يقظة، ويكون منامًا، كالرجل يرى الشيء في المنام، ثم يكون إياه في اليقظة من غير تغير.
وللقلب حال ثالثة كما للعين نظر في المنام: وهي التي تقع لغالب الخلق. أن يرى الرؤيا مثلا مضروبًا للحقيقة، لا يضبط رؤية الحقيقة بنفسها، ولا بواسطة مرآة قلبه. ولكن يرى ما له تعبير فيعتبر به، وعبارة الرؤيا هو العبور من الشيء إلى مثاله، ونظيره. وهو حقيقة المقايسة والاعتبار، فإن إدراك الشيء بالقياس والاعتبار الذي ألفه الإنسان واعتاده أيسر من إدراك شيء على البديهة من غير مثال معروف.
ثم المرئي في هذا الوجه، في هذه الحال، وفي الحال التي قبلها هو موجود في قلب الإنسان ونفسه، وإن كان مثلا للحقيقة وواسطة لها.
والمرئي في الوجه الأول: هو عين الموجود في الخارج لا مرئى في القلب، ومن العامة المتفلسفة من يزعم: أن ما يسمعه الأنبياء من الكلام، ويرونه من الملائكة، إنما وجوده في قلوبهم، وذلك مبلغ هؤلاء من العلم؛ لأن ذلك هو غاية ما وجدوه ورأوه من أبناء جنسهم، فظنوا أن ليس وراء ذلك غاية.
وقد يعارضهم من يتوهم أن ما يسمع ويرى لا يكون في نفس الإنسان، بل جميعه من الخارج، وكلاهما خطأ، بل منه ما يكون في نفس الإنسان: مثل ما يراه ويسمعه في المنام، إما مثالًا لا تعبير له، أو له تعبير.
ومنه ما يكون في الخارج: مثل رؤية مريم للرسول، إذ تمثل لها بشرًا سويًا، ورؤية الصحابة لجبريل في صورة الأعرابي.
فقد ظهر أن رؤية الحقائق بالعين تطابق لرؤياها بالقلب، كل منهما ثلاثة أقسام إدراك الموجود في الخارج بعينه، وإدراكه بواسطة تمثله في مرآة باطنة أو ظاهرة، وإدراكه متمثلًا في غير صورته، إما باطنًا في القلب، وإما ظاهرًا في العين. والله سبحانه أعلم.
فالقياس في الحسيات، كالقياس في العقليات، وهذا الذي كتبته في المكاشفات يجىء مثله في المخاطبات، فإن البصر والسمع يظهران ما يتلوه.
هامش
- ↑ [الحج: 46]