مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر/فصل في كلمات الله تعالى
فصل في كلمات الله تعالى
كلمات الله تعالى نوعان: كلمات كونية، وكلمات دينية. فكلماته الكونية هي: التي استعاذ بها النبي ﷺ في قوله: «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر» وقال سبحانه: { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 1، وقال تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } 2 والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق الكشفية التأثيرية.
والنوع الثاني الكلمات الدينية وهي: القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله وهي: أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العبد عمومًا وخصوصًا من الأول العلم بالكونيات، والتأثير فيها، أي بموجبها.
فالأولى قدرية كونية والثانية شرعية دينية، وكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية، وقدرة الأولى التأثير في الكونيات، وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات، وكما أن الأولى تنقسم إلى تأثير في نفسه، كمشيه على الماء وطيرانه في الهواء وجلوسه على النار، وإلى تأثير في غيره بإسقام وإصحاح، وإهلاك وإغناء وإفقار، فكذلك الثانية تنقسم إلى تأثير في نفسه بطاعته لله ورسوله، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطنًا وظاهرًا، وإلى تأثير في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله؛ فيطاع في ذلك طاعة شرعية، بحيث تقبل النفوس ما يأمرها به من طاعة الله ورسوله في الكلمات الدينيات. كما قبلت من الأول ما أراد تكوينه فيها بالكلمات الكونيات.
وإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علمًا وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه إذا لم يكن وجود ذلك في حقه مأمورًا به أمر إيجاب ولا استحباب، وأما عدم الدين والعمل به فيصير الإنسان ناقصًا مذمومًا إما أن يجعله مستحقًا للعقاب، وإما أن يجعله محرومًا من الثواب، وذلك لأن العلم بالدين وتعليمه والأمر به ينال به العبد رضوان الله وحده وصلاته وثوابه، وإما العلم بالكون والتأثير فيه فلا ينال به ذلك إلا إذا كان داخلًا في الدين، بل قد يجب عليه شكره، وقد يناله به إثم.
إذا عرف هذا فالأقسام ثلاثة: إما أن يتعلق بالعلم والقدرة أو بالدين فقط، أو بالكون فقط.
فالأول: كما قال لنبيه ﷺ: { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا } 3 فإن السلطان النصير يجمع الحجة والمنزلة عند الله، وهو كلماته الدينية، والقدرية، والكونية عند الله بكلماته الكونيات، ومعجزات الأنبياء عليهم السلام تجمع الأمرين، فإنها حجة على النبوة من الله وهي قدرية. وأبلغ ذلك القرآن الذي جاء به محمد ﷺ، فإنه هو شرع الله وكلماته الدينيات، وهو حجة محمد ﷺ على نبوته، ومجيئه من الخوارق للعادات، فهو الدعوة وهو الحجة والمعجزة.
وأما القسم الثاني: فمثل من يعلم بما جاء به الرسول خبرًا وأمرًا ويعمل به ويأمر به الناس، ويعلم بوقت نزول المطر وتغير السعر، وشفاء المريض، وقدوم الغائب، ولقاء العدو، وله تأثير إما في الأناسي، وإما في غيرهم بإصحاح وإسقام وإهلاك، أو ولادة أو ولاية أو عزل. وجماع التأثير إما جلب منفعة كالمال والرياسة؛ وإما دفع مضرة كالعدو والمرض، أو لا واحد منهما مثل ركوب أسد بلا فائدة، أو إطفاء نار ونحو ذلك.
وأما الثالث: فمن يجتمع له الأمران؛ بأن يؤتي من الكشف والتأثير الكوني ما يؤيد به الكشف والتأثير الشرعي، وهو علم الدين والعمل به، والأمر به، ويؤتي من علم الدين والعمل به، ما يستعمل به الكشف والتأثير الكوني، بحيث تقع الخوارق الكونية تابعة للأوامر الدينية، أو أن تخرق له العادة في الأمور الدينية، بحيث ينال من العلوم الدينية، ومن العمل بها، ومن الأمر بها، ومن طاعة الخلق فيها، ما لم ينله غيره في مطرد العادة، فهذه أعظم الكرامات والمعجزات وهو حال نبينا محمد ﷺ وأبي بكر الصديق وعمر وكل المسلمين.
فهذا القسم الثالث هو مقتضى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إذ الأول هو العبادة، والثاني هو الاستعانة، وهو حال نبينا محمد ﷺ والخواص من أمته المتمسكين بشرعته ومنهاجه باطنًا وظاهرًا، فإن كراماتهم كمعجزاته لم يخرجها إلا لحُجّة أو حاجة، فالحجة ليظهر بها دين الله ليؤمن الكافر ويخلص المنافق ويزداد الذين آمنوا إيمانًا، فكانت فائدتها اتباع دين الله علمًا وعملًا، كالمقصود بالجهاد، والحاجة كجلب منفعة يحتاجون إليها كالطعام والشراب وقت الحاجة إليه، أو دفع مضرة عنهم ككسر العدو بالحصى الذي رماهم به فقيل له: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى } 4، وكل من هذين يعود إلى منفعة الدين كالأكل والشرب وقتال العدو والصدقة على المسلمين، فإن هذا من جملة الدين والأعمال الصالحة.
وأما القسم الأول: وهو المتعلق بالدين فقط فيكون منه ما لا يحتاج إلى الثاني ولا له فيه منفعة، كحال كثير من الصحابة، والتابعين وصالحي المسلمين، وعلمائهم وعبادهم، مع أنه لابد أن يكون لهم حاجة أو انتفاعًا بشيء من الخوارق، وقد يكون منهم من لا يستعمل أسباب الكونيات ولا عمل بها، فانتفاء الخارق الكوني في حقه إما لانتفاء سببه وإما لانتفاء فائدته، وانتفاؤه لانتفاء فائدته لا يكون نقصًا، وأما انتفاؤه لانتفاء سببه فقد يكون نقصًا وقد لا يكون نقصًا، فإن كان لإخلاله بفعل واجب وترك محرم كان عدم الخارق نقصا وهو سبب الضرر، وإن كان لإخلاله بالمستحبات فهو نقص عن رتبة المقربين السابقين وليس هو نقصًا عن رتبة أصحاب اليمين المقتصدين، وإن لم يكن كذلك بل لعدم اشتغاله بسبب بالكونيات التي لا يكون عدمها ناقصًا لثواب لم يكن ذلك نقصًا، مثل من يمرض ولده ويذهب ماله فلا يدعو ليعافي أو يجىء ماله، أو يظلمه ظالم فلا يتوجه عليه لينتصر عليه.
وأما القسم الثاني: وهو صاحب الكشف والتأثير الكوني فقد تقدم أنه تارة يكون زيادة في دينه، وتارة يكون نقصًا، وتارة لا له ولا عليه وهذا غالب حال أهل الاستعانة، كما أن الأول غالب حال أهل العبادة، وهذا الثاني بمنزلة الملك والسلطان الذي قد يكون صاحبه خليفة نبيًا، فيكون خير أهل الأرض، وقد يكون ظالمًا من شر الناس، وقد يكون ملكًا عادلًا فيكون من أوساط الناس، فإن العلم بالكونيات والقدرة على التأثير فيها بالحال والقلب كالعلم بأحوالها والتأثير فيها بالملك وأسبابه، فسلطان الحال والقلب كسلطان الملك واليد، إلا أن أسباب هذا باطنة روحانية، وأسباب هذا ظاهرة جسمانية. وبهذا تبين لك أن القسم الأول إذا صح فهو أفضل من هذا القسم، وخير عند الله وعند رسوله وعباده الصالحين المؤمنين العقلاء.
وذلك من وجوه:
أحدها: أن علم الدين طلبًا وخبرًا لا ينال إلا من جهة الرسول ﷺ، وأما العلم بالكونيات فأسبابه متعددة، وما اختص به الرسل وورثتهم أفضل مما شركهم فيه بقية الناس، فلا ينال علمه إلا هم وأتباعهم، ولا يعلمه إلا هم وأتباعهم.
الثاني: أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله، وصفوته وأحباؤه وأولياؤه، ولا يأمر به إلا هم.
وأما التأثير الكوني: فقد يقع من كافر ومنافق وفاجر تأثيره في نفسه وفي غيره، كالأحوال الفاسدة والعين والسحر، وكالملوك والجبابرة المسلطين والسلاطين الجبابرة، وما كان من العلم مختصًا بالصالحين أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون.
الثالث: أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه في الآخرة ولا يضره. وأما الكشف والتأثير فقد لا ينفع في الآخرة بل قد يضره كما قال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } 5.
الرابع: أن الكشف والتأثير إما أن يكون فيه فائدة أو لا يكون، فإن لم يكن فيه فائدة؛ كالاطلاع على سيئات العباد وركوب السباع لغير حاجة، والاجتماع بالجن لغير فائدة، والمشي على الماء مع إمكان العبور على الجسر، فهذا لا منفعة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب وإنما يستعظم هذا من لم ينله. وهو تحت القدرة والسلطان في الكون، مثل من يستعظم الملك أو طاعة الملوك لشخص وقيام الحالة عند الناس بلا فائدة، فهو يستعظمه من جهة سببه لا من جهة منفعته كالمال والرياسة، ودفع مضرة كالعدو والمرض، فهذه المنفعة تنال غالبا بغير الخوارق أكثر مما تنال بالخوارق، ولا يحصل بالخوارق منها إلا القليل، ولا تدوم إلا بأسباب أخرى، وأما الآخر أيضا فلا يحصل بالخوارق إلا مع الدين. والدين وحده موجب للآخرة بلا خارق، بل الخوارق الدينية الكونية أبلغ من تحصيل الآخرة كحال نبينا محمد ﷺ. وكذلك المال والرياسة التي تحصل لأهل الدين بالخوارق إنما هو مع الدين. وإلا فالخوارق وحدها لا تؤثر في الدنيا إلا أثرًا ضعيفًا.
فإن قيل: مجرد الخوارق إن لم تحصل بنفسها منفعة لا في الدين ولا في الدنيا فهي علامة طاعة النفوس له، فهو موجب الرياسة والسلطان، ثم يتوسط ذلك فتجتلب المنافع الدينية والدنيوية، وتدفع المضار الدينية والدنيوية.
قلت: نحن لم نتكلم إلا في منفعة الدين أو الخارق في نفسه من غير فعل الناس، وأما إن تكلمنا فيما يحصل بسببها من فعل الناس فنقول أولا: الدين الصحيح أوجب لطاعة النفوس وحصول الرياسة من الخارق المجرد كما هو الواقع، فإنه لا نسبة لطاعة من أطيع لدينه إلى طاعة من أطيع لتأثيره، إذ طاعة الأول أعم وأكثر، والمطيع بها خيار بني آدم عقلا ودينًا، وأما الثانية فلا تدوم ولا تكثر ولا يدخل فيها إلا جهال الناس، كأصحاب مسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي ونحوهم وأهل البوادي والجبال ونحوهم ممن لا عقل له ولا دين.
ثم نقول ثانيا: لو كان الخارق يناله من الرياسة والمال أكثر من صاحب الدين لكان غايته أن يكون ملكًا من الملوك، بل ملكه إن لم يقرنه بالدين فهو كفرعون وكمقدمي الإسماعيلية ونحوهم، وقد قدمنا أن رياسة الدنيا التي ينالها الملوك بسياستهم وشجاعتهم وإعطائهم أعظم من الرياسة بالخارق المجرد، فإن هذه أكثر ما يكون مدة قريبة.
الخامس: أن الدين ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير أن يحتاج معه إلى كشف أو تأثير.
وأما الكشف أو التأثير فإن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، أما في الآخرة فلعدم الدين الذي هو أداء الواجبات وترك المحرمات، وأما في الدنيا فإن الخوارق هي من الأمور الخطرة التي لا تنالها النفوس إلا بمخاطرات في القلب والجسم والأهل والمال، فإنه إن سلك طريق الجوع والرياضة المفرطة خاطر بقلبه ومزاجه ودينه، وربما زال عقله ومرض جسمه وذهب دينه، وإن سلك طريق الوله والاختلاط بترك الشهوات ليتصل بالأرواح الجنية وتغيب النفوس عن أجسامها كما يفعله مولهو الأحمدية فقد أزال عقله وأذهب ماله ومعيشته، وأشقى نفسه شقاء لا مزيد عليه، وعرض نفسه لعذاب الله في الآخرة لما تركه من الواجبات وما فعله من المحرمات، وكذلك إن قصد تسخير الجن بالأسماء والكلمات من الأقسام والعزائم فقد عرض نفسه لعقوبتهم ومحاربتهم، بل لو لم يكن الخارق إلا دلالة صاحب المال المسروق والضال على ماله أو شفاء المريض أو دفع العدو من السلطان والمحاربين فهذا القدر إذا فعله الإنسان مع الناس ولم يكن عمله دينًا يتقرب به إلى الله كان كأنه قهرمان للناس يحفظ أموالهم، أو طبيب أو صيدلي يعالج أمراضهم، أو أعوان سلطان يقاتلون عنه، إذ عمله من جنس عمل أولئك سواء.
ومعلوم أن من سلك هذا المسلك على غير الوجه الديني فإنه يحابي بذلك أقوامًا ولا يعدل بينهم، وربما أعان الظلمة بذلك كفعل بلعام وطوائف من هذه الأمة وغيرهم. وهذا يوجب له عداوة الناس التي هي من أكثر أسباب مضرة الدنيا ولا يجوز أن يحتمل المرء ذلك إلا إذا أمر الله به ورسوله؛ لأن ما أمر الله به ورسوله وإن كان فيه مضرة فمنفعته غالبة على مضرته والعاقبة للتقوى.
السادس: أن للدين علما وعملا إذا صح فلا بد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، قال الله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } 6، وقال تعالى: { إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } 7، وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } 8، وقال تعالى: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } 9.
وقال رسول الله ﷺ: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ قوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } 10 رواه الترمذي وحسنه من رواية أبي سعيد.
وقال الله تعالى فيما روى عنه رسول الله ﷺ: «من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألنى لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه» فهذا فيه محاربة الله لمن حارب وليه، وفيه أن محبوبه به يعلم سمعًا وبصرًا، وبه يعمل بطشًا وسعيًا، وفيه أنه يجيبه إلى ما يطلبه منه من المنافع، ويصرف عنه ما يستعيذ به من المضار، وهذا باب واسع.
وأما الخوارق فقد تكون، مع الدين، وقد تكون مع عدمه أو فساده أو نقصه.
السابع: أن الدين هو إقامة حق العبودية وهو فعل ما عليك وما أمرت به، وأما الخوارق فهي من حق الربوبية إذا لم يؤمر العبد بها، وإن كانت بسعى من العبد فإن الله هو الذي يخلقها بما ينصبه من الأسباب، والعبد ينبغي له أن يهتم بما عليه وما أمر به، وأما اهتمامه بما يفعله الله إذا لم يؤمر بالاهتمام به فهو إما فضول فتكون لما فيها من المنافع كالمنافع السلطانية المالية التي يستعان بها على الدين، كتكثير الطعام والشراب وطاعة الناس إذا رأوها، ولما فيها من دفع المضار عن الدين بمنزلة الجهاد الذي فيه دفع العدو وغلبته.
ثم هل الدين محتاج إليها في الأصل، ولأن الإيمان بالنبوة لا يتم إلا بالخارق أو ليس بمحتاج في الخاصة بل في حق العامة. هذا نتكلم عليه.
وأنفع الخوارق الخارق الديني وهو حال نبينا محمد ﷺ. قال ﷺ: «ما من نبي إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" أخرجاه في الصحيحين. وكانت آيته هي دعوته وحجته بخلاف غيره من الأنبياء، ولهذا نجد كثيرًا من المنحرفين منا إلى العيسوية يفرون من القرآن، والقال إلى الحال، كما أن المنحرفين منا إلى الموسوية يفرون من الإيمان والحال إلى القال، ونبينا ﷺ صاحب القال والحال، وصاحب القرآن والإيمان.
ثم بعده الخارق المؤيد للدين المعين له، لأن الخارق في مرتبة { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }، والدين في مرتبة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }، فأما الخارق الذي لم يعن الدين فإما متاع دنيا، أو مبعد صاحبه عن الله تعالى.
فظهر بذلك أن الخوارق النافعة تابعة للدين حادثة له، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال بيد النبي ﷺ وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فمن جعلها هي المقصودة وجعل الدين تابعًا لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل فهو يشبه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة فإن ذلك مأمور به، وهو على سبيل نجاة وشريعة صحيحة.
والعجب أن كثيرًا ممن يزعم أن همه قد ارتفع وارتقى عن أن يكون دينه خوفًا من النار أو طلبًا للجنة، يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا، ولعله يجتهد اجتهادًا عظيمًا في مثله وهذا خطأ، ولكن منهم من يكون قصده بهذا تثبيت قلبه وطمأنينته وإيقانه بصحة طريقه وسلوكه، فهو يطلب الآية علامة وبرهانًا على صحة دينه، كما تطلب الأمم من الأنبياء الآيات دلالة على صدقهم، فهذا أعذر لهم في ذلك.
ولهذا لما كان الصحابة رضي الله عنهم مستغنين في علمهم بدينهم وعملهم به عن الآيات بما رأوه من حال الرسول ونالوه من علم، صار كل من كان عنهم أبعد مع صحة طريقته يحتاج إلى ما عندهم في علم دينه وعمله.
فيظهر مع الأفراد في أوقات الفترات وأماكن الفترات من الخوارق مالا يظهر لهم ولا لغيرهم من حال ظهور النبوة والدعوة.
هامش
- ↑ [يس: 82]
- ↑ [الأنعام: 115]
- ↑ [الإسراء: 80]
- ↑ [الأنفال: 17]
- ↑ [البقرة: 103]
- ↑ [الطلاق: 2، 3]
- ↑ [الأنفال: 29]
- ↑ [النساء: 66-68]
- ↑ [يونس: 62: 64]
- ↑ [الحجر: 75]