مجموع الفتاوى/المجلد الحادي عشر/فصل في حال أهل الصفة


فصل في حال أهل الصفة

عدل

وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين الذين لم يكونوا في الصفة، أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم الله تعالى في كتابه، حيث بين مستحقي الصدقة منهم، ومستحقي الفيء منهم. فقال: { إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } إلى قوله: { لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا } 1. وقال في أهل الفيء: { لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } 2.

وكان فقراء المسلمين من أهل الصفة وغيرهم يكتسبون عند إمكان الاكتساب الذي لا يصدهم عما هو أوجب أو أحب إلى الله ورسوله من الكسب، وأما إذا أحصروا في سبيل الله عن الكسب، فكانوايقدمون ما هو أقرب إلى الله ورسوله، وكان أهل الصفة ضيوف الإسلام، يبعث إليهم النبي بما يكون عنده، فإن الغالب كان عليهم الحاجة لا يقوم ما يقدرون عليه من الكسب بما يحتاجون إليه من الرزق.

وأما المسألة فكانوا فيها كما أدبهم النبي حيث حرمها على المستغنى عنها، وأباح منها أن يسأل الرجل حقه، مثل أن يسأل ذا السلطان أن يعطيه حقه من مال الله، أو يسأل إذا كان لابد سائلًا الصاحلين الموسرين إذا احتاج إلى ذلك، ونهى خواص أصحابه عن المسألة مطلقًا، حتى كان السوط يسقط من يد أحدهم فلايقول لأحد: ناولني إياه.

وهذا الباب فيه أحاديث وتفصيل. وكلام العلماء لا يسعه هذا المكان. مثل قوله لعمر بن الخطاب: «ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك» ومثل قوله: «من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» ومثل قوله: «من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته خدوشا 3، أو خموشا 4، أو كدوشا 5 «في وجهه» ومثل قوله: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه» إلى غير ذلك من الأحاديث.

وأما الجائز منها فمثل ما أخبر الله تعالى عن موسى والخضر: أنهما أتيا أهل قرية فاستطعما أهلها. ومثل قوله: «لا تحل المسألة إلا لذي دم موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع 6 » ومثل قوله لقبيصة بن مخارق الهلالي: «يا قبيصة! لا تحل المسألة إلا لثلاثة: رجل أصابته جائحه 7 اجتاحت ماله: فسأل حتى يجد سدادا 8 من عيش، أو قواما 9 من عيش، ثم يمسك. ورجل أصابته فاقة 10، حتي يقوم ثلاثة من ذوي الحجا 11 من قومه فيقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة، فسأل حتى يجد سدادا من عيش، أو قوامًا من عيش، ثم يمسك، ورجل تحمل حمالة فسأل حتي يجد حمالته، ثم يمسك. وما سوى ذلك من المسألة فإنما هي سحت يأكله صاحبه سحتًا 12 ».

ولم يكن في الصحابة - لا أهل الصفة ولا غيرهم - من يتخذ مسألة الناس، ولا الإلحاف في المسألة بالكدية، والشحاذة لا بالزنبيل ولا غيره صناعة وحرفة، بحيث لا يبتغي الرزق إلا بذلك، كما لم يكن في الصحابة أيضا أهل فضول من الأموال يتركون، لا يؤدون الزكاة ولا ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولا يعطون في النوائب. بل هذان الصنفان الظالمان المصران على الظلم الظاهر، من مانعي الزكاة، والحقوق الواجبة، والمتعدين حدود الله تعالى في أخذ أموال الناس كانا معدومين في الصحابة المثنى عليهم.


هامش

  1. [البقرة: 271: 273]
  2. [الحشر: 8]
  3. [خدوشا: خدش الجلد: قشره بعود أو نحوه. خدشه، يخدشه خدشا والجمع خُدُوش. اننظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 14]
  4. [خموشا: هو بمعنى الخدوش. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لا بن الأثير 2 80]
  5. [كدوشا: الكدش: الجرح. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4 155]
  6. [مدقع: أى: شديد يفضى بصاحبه إلى الدقعاء. وقيل: هو سوء احتمال الفقر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 2 127]
  7. [جائحة: الجائحة هى الآفة التى تهلك الثمار والأموال وتستأصلها. انظر: اللسان، مادة جوح ]
  8. [السداد: هو مايفى من الشيء وماتسد بها الحاجة انظر: النهاية 2 353]
  9. [قواما من عيش: أى يجد ماتقوم به حاجته من معيشة. انظر: النهاية 4 124]
  10. [ فاقة: فقر وحاجة. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3 480]
  11. [الحجا: العقل. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1 348 ]
  12. [السحت: الحرام. الذى لايحل كسبه لأنه يسحت البركة أي يذهبها. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 2 345]


مجموع الفتاوى لابن تيمية: المجلد الحادي عشر - الآداب والتصوف
سئل شيخ الإسلام عن الصوفية | سئل في رجل يقول إن الفقر لم نتعبد به | سئل شيخ الإسلام عن أهل الصفة | فصل في حال أهل الصفة | فصل فيمن قال إن أحدا من الصحابة أهل الصفة أو غيرهم أو التابعين أو تابعي التابعين قاتل مع الكفار | فصل في تخطئة من فضل أهل الصفة على العشرة وغيرهم | فصل في حكم سماع المكاء والتصدية | فصل في تفسير قوله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي | فصل في الحديث المروي ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله | فصل في من هم أولياء الله | فصل في الفقراء | سئل عن قوم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى باب أهل الصفة فاستأذن | سئل رحمه الله عن قوم يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث لا سند لهم بها | سئل عن الفتوة المصطلح عليها إلخ | سئل عن جماعة يجتمعون في مجلس ويلبسون لشخص منهم لباس الفتوة | فصل في الشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة | فصل في معنى لفظ الفتى | فصل في بشرية النبي | فصل في المؤاخاة | فصل عن الشيخ عدي بن مسافر بن صخر | سئل هل تخلل أبو بكر بالعباءة وتخللت الملائكة لأجله بالعباءة أو لا | سئل عن معنى قول حب الدنيا رأس كل خطيئة فهل هي من جهة المعاصي أو من جهة جمع المال | سئل عما يذكر من قولهم اتخذوا مع الفقير أيادي فإن لهم دولة وأي دولة | فصل قول القائل نحن في بركة فلان أو من وقت حلوله عندنا حلت البركة | سئل عن رجل متصوف تكلم عن الفقر | سئل عمن قال إن الفقير والغني لا يفضل أحدهما صاحبه إلا بالتقوى | فصل أيهما أفضل الفقير الصابرأو الغني الشاكر | سئل عن الحمد والشكر ما حقيقتهما هل هما معنى واحد أو معنيان | تلخيص مناظرة في الحمد والشكر | العلاقة بين الحمد والشكر | الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان | قاعدة شريفة في المعجزات والكرامات | فصل في الأمور الخارقة | فصل في كلمات الله تعالى | فصل في العلم بالكائنات | فصل في تكلم طائفة من الصوفية في خاتم الأولياء | كلام مردود للحكيم الترمذي في كتاب ختم الولاية | فصل في قول القاضي أبو يعلى في عيون المسائل | سئل أيهما أولى معالجة ما يكره الله من القلب أو الاشتغال بالأعمال الظاهرة | سئل هل قال النبي صلى الله عليه وسلم زدني فيك تحيرا | سئل عن رجل يحب رجلا عالما فإذا التقيا ثم افترقا حصل لذلك الرجل شبه الغشى | سئل ما الحكمة أن المشتغلين بالذكر يفتح عليهم من الكشوفات والكرامات | سئل الشيخ رحمه الله عن قوم داوموا على الرياضة مرة فرأوا أنهم قد تجوهروا | سئل شيخ الإسلام عن الحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أو مقطوع | ما قاله عن البطائحية | موقفه من الذين يصرون على الابتداع في الدين | سئل عن المرشدة كيف كان أصلها وتأليفها | سئل عن رجل تخاطب هو وإنسان على من قرأ المرشدة | سئل عن قوم منتسبين إلى المشائخ | فصل في ذكر غلوهم في الشيوخ | فصل في فساد الأولاد | فصل في النذر للموتى من الأنبياء والمشائخ وغيرهم | فصل في مؤاخاة الرجال النساء الأجانب | فصل في الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم | فصل في قول القائل لمن أنكر عليه أنت شرعي | فصل في كون الأمر بالمعروف هو الحق الذي بعث الله به رسوله | فصل في لباس الخرقة التي يلبسها بعض المشائخ المريدين | فصل في قول القائل أنت للشيخ فلان وهو شيخك في الدنيا والآخرة | فصل في قول القائل إن الله يرضى لرضا المشائخ ويغضب لغضبهم | فصل في قوله صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب | سئل عن جماعة اجتمعوا على أمور متنوعة في الفساد | سئل شيخ الإسلام عما أحدثه الفقراء المجردون | ما تقول السادة الأعلام في صفة سماع الصالحين | سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن السماع | سئل عمن قال إن السماع على الناس حرام وعلي حلال هل يفسق في ذلك أو لا | سئل عن أقوام يرقصون على الغناء بالدف | سئل شيخ الإسلام عن رجل يحب السماع والرقص | سئل عن الذين يعملون النار والإشارات | سئل عن رجل فلاح لم يعلم دينه ولا صلاته | سئل عن رجل منقطع في بيته لا يخرج ولا يدخل | سئل شيخ الإسلام عن جماعة يجتمعون على قصد الكبائر | فصل في متابعة الكلام في المكاشفات والمشاهدات | فصل في الكون يقظة ومناما | سئل عمن يقول إن بعض المشائخ إذا أقام السماع يحضره رجال الغيب | سئل عن النساء اللاتي يتعممن بالعمائم الكبار | سئل عن الذنوب الكبائر المذكورة في القرآن | سئل رضي الله عنه عن شرب الخمر وفعل الفاحشة | سئل الشيخ عن رجل مدمن على المحرمات | فصل في كل من تاب من أي ذنب كان فإن الله يتوب عليه | فصل في أن التوبة والاستغفار يكون من ترك الواجبات وفعل المحرمات | فصل في المقصود أن الاستغفار والتوبة يكونان من كلا النوعين | فصل في إخبار الله تعالى عن قبح أعمال الكفار قبل أن يأتيهم الرسول | فصل في أمر الله الناس أن يتوبوا ويستغفروا مما فعلوه | فصل فيما يستغفر ويتاب منه | سئل عن قوله ما أصر من استغفر | سئل عن اليهودي أو النصراني إذا أسلم هل يبقى عليه ذنب بعد الإسلام