البداية والنهاية/الجزء الثامن/أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه



أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه


وقد اختلف في اسمه في الجاهلية والإسلام، واسم أبيه على أقوال متعددة، وقد بسطنا أكثرها في كتابنا التكميل، وقد بسط ذلك ابن عساكر في تاريخه، والأشهر أن اسمه: عبد الرحمن بن صخر وهو من الأزد، ثم من دوس.

ويقال: كان اسمه في الجاهلية عبد شمس.

وقيل: عبد نهم.

وقيل: عبد غنم، ويكنى بأبي الأسود، فسماه رسول الله عبد الله.

وقيل: عبد الرحمن، وكناه بأبي هُريرة.

وروي عنه أنه قال: وجدت هُريرة وحشية فأخذت أولادها فقال لي أبي: ما هذه في حجرك؟ فأخبرته.

فقال: أنت أبو هريرة.

وثبت في الصحيح أن رسول الله قال له: «أبا هر»، وثبت أنه قال له: «يا أبا هريرة».

قال محمد بن سع، وابن الكلبي، والطبراني: اسم أمه ميمونة بنت صفيح بن الحارث بن أبي صعب بن هبة بن سعد بن ثعلبة، أسلمت وماتت مسلمة.

وروى أبو هريرة عن رسول الله الكثير الطيب، وكان من حفاظ الصحابة، وروى عن أبي بكر، وعمر، وأبيّ بن كعب، وأسامة بن زيد، ونضرة بن أبي نضرة، والفضل بن العباس، وكعب الأحبار، وعائشة أم المؤمنين.

وحدث عنه خلائق من أهل العلم قد ذكرناهم مرتبين على حروف المعجم في التكميل، كما ذكره شيخنا في تهذيبه.

قال البخاري: روى عنه نحو من ثمانمائة رجل أو أكثر من أهل العلم، من الصحابة والتابعين وغيرهم.

وقال عمرو بن علي الفلاس: كان ينزل المدينة وكان إسلامه سنة خيبر.

قال الواقدي: وكان بذي الحليفة له دار.

وقال غيره: كان آدم اللون، بعيد ما بين المنكبين، ذا طفرتين، أقرن الثنيتين.

وقال أبو داود الطيالسي وغير واحد: عن أبي خلدة، خالد بن دينار، عن أبي العالية، عن أبي هريرة قال: لما أسلمتُ قال رسول الله : «ممن أنت؟»

فقلت: من دوس.

فوضع يده على جبهته وقال: «ما كنت أرى أن في دوس رجلا فيه خير».

وقال الزهري: عن سعيد، عن أبي هريرة قال: شهدت مع رسول الله خيبر.

وروى عبد الرزاق: عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل عن قيس.

قال: قال أبو هريرة: جئت يوم خيبر بعد ما فرغوا من القتال.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا الدراوردي.

قال: حدثني خيثم، عن عراك بن مالك، عن أبيه، عن أبي هريرة.

قال: خرج رسول الله واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة.

قال أبو هريرة: وقدمت المدينة فهاجروا فصليت الصبح وراء سباع فقرأ في السجدة الأولى سورة مريم، وفي الثانية ويل للمطففين.

قال أبو هريرة: فقلت في نفسي ويل لأبي فلان، لرجل كان بأرض الأزد - وكان له مكيالان مكيال يكيل به لنفسه، ومكيال يبخس به الناس -.

وقد ثبت في صحيح البخاري أنه ضل غلام له في الليلة التي اجتمع في صبيحتها برسول الله وأنه جعل ينشد:

يا ليلة من طولها وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجت

فلما قدم على رسول الله قال له: «هذا غلامك؟».

فقال: هو حر لوجه الله عز وجل.

وقد لزم أبو هريرة رسول الله بعد إسلامه، فلم يفارقه في حضر ولا سفر، وكان أحرص شيء على سماع الحديث منه، وتفقه عنه، وكان يلزمه على شبع بطنه.

وقال أبو هريرة: - وقد تمخط يوما في قميص له كتان - بخ بخ، أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني أخر فيما بين المنبر والحجر من الجوع.

فيمر المار فيقول: به جنون وما بي إلا الجوع، والله الذي لا إله إلا هو لقد كنت أعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وأشد الحجر على بطني من الجوع.

ولقد كنت أستقرئ أحدهم الآية وأنا أعلم بها منه، وما بي إلا أن يستتبعني إلى منزله فيطعمني شيئا، وذكر حديث اللبن مع أهل الصفة كما قدمناه في دلائل النبوة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، ثنا عكرمة بن عامر، حدثني أبو كثير - وهو يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة السحيمي الأعمى - حدثني أبو هريرة.

قال: والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.

قلت: وما علمك بذلك يا أبا هريرة؟

قال: إن أمي كانت امرأة مشركة، وإني كنت أدعوها إلى الإسلام، وكانت تأبى عليّ، فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فكانت تأبى عليّ وإني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة.

فقال: «اللهم اهد أم أبي هريرة».

فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله لها، فلما أتيت الباب إذا هو مجاف، وسمعت خضخضة خشخشة، وسمعت خشف رجل - يعني: وقعها - فقالت: يا أبا هريرة كما أنت، ثم فتحت الباب وقد لبست درعها، وعجلت عن خمارها أن تلبسه.

وقالت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله أبكي من الفرح كما بكيت من الحزن.

فقلت: يا رسول الله أبشر فقد استجاب الله دعاءك، قد هدى الله أم أبي هريرة.

وقلت: يا رسول الله ادعو الله أن يحببني وأمي إلى عبادة المؤمنين.

فقال: «اللهم حبب عبيدك هذا وأمه إلى عبادك المؤمنين، وحببهم إليهما».

قال أبو هريرة: فما خلق الله من مؤمن يسمع بي ولا يراني أو يرى أمي إلا وهو يحبني.

وقد رواه مسلم من حديث عكرمة عن عمار نحوه.

وهذا الحديث من دلائل النبوة، فإن أبا هريرة محبب إلى جميع الناس.

وقد شهر الله ذكره بما قدره أن يكون من روايته من إيراد هذا الخبر عنه على رؤوس الناس في الجوامع المتعددة في سائر الأقاليم في الأنصات يوم الجمعة بين يدي الخطبة، والإمام على المنبر، وهذا من تقدير الله العزيز العليم، ومحبة الناس له رضي الله عنه.

وقال هشام بن عمار: حدثنا سعيد، ثنا عبد الحميد بن جعفر، عن المقبري، عن سالم مولى النضريين: أنه سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله يقول: «إنما محمد بشر أغضب كما يغضب البشر وإني قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه، فأيما رجل من المسلمين آذيته أو شتمته أو جلدته فاجعلها له قربة بها عندك يوم القيامة».

قال أبو هريرة: لقد رفع عليّ رسول الله يوما الدرة ليضربني بها فلأن يكون ضربني بها أحب إليّ من حمر النعم، ذلك بأني أرجو أن أكون مؤمنا وأن يستجاب لرسول الله دعوته.

وقال ابن أبي ذيب: عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة.

قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثا كثيرا فأنساه.

فقال: «أبسط رداءك»، فبسطته.

ثم قال: «ضمه» فضممته فما نسيت حديثا بعد، رواه البخاري.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عبد الرحمن الأعرج.

قال: سمعت أبا هريرة يقول: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله ، والله الموعد إني كنت امرأ مسكينا أصحب رسول الله على ملء بطني.

وكان المهاجرون يشغلهم الصفق في الأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فحضرت من رسول الله يوما مجلسا.

فقال: «من بسط رداءه حتى أقضي مقالتي ثم يقبضه إليه فلن ينسى شيئا سمعه مني».

فبسطت بردة عليَّ حتى قضى مقالته، ثم قبضتها إليّ فوالذي نفسي بيده ما نسيت شيئا سمعته منه بعد ذلك.

وقد رواه ابن وهب: عن يونس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة وله طرق أخر عنه.

وقد قيل: إن هذا كان خاصا بتلك المقالة لم ينس منها شيئا، بدليل أنه نسي بعض الأحاديث كما هو مصرح به في الصحيح، حيث نسي حديث: «لا عدوى ولا طيرة» مع حديثه: «لا يورد ممرض على مصح».

وقيل: إن هذا كان عاما في تلك المقالة وغيرها والله أعلم.

وقال الدراوردي: عن عمرو بن أبي عمرو، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟

فقال: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن أحدا لا يسألني عن هذا الحديث أول منك، لما رأيت من حرصك على الناس، إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه».

ورواه البخاري من حديث عمرو بن أبي عمرو به.

وقال ابن أبي ذيب: عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة أنه قال: حفظت من رسول الله وعاءين فأما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم. رواه البخاري من حديث ابن أبي ذيب.

ورواه غير واحد، عن أبي هريرة، وهذا الوعاء الذي كان لا يتظاهر به هو الفتن والملاحم وما وقع بين الناس من الحروب والقتال، وما سيقع التي لو أخبر بها قبل كونها لبادر كثير من الناس إلى تكذيبه، وردوا ما أخبر به من الحق.

كما قال: لو أخبرتكم أنكم تقتلون إمامكم وتقتتلون فيما بينكم بالسيوف لما صدقتموني.

وقد يتمسك بهذا الحديث طوائف من أهل الأهواء والبدع الباطلة والأعمال الفاسدة، ويسندون ذلك إلى هذا الجواب الذي لم يقله أبو هريرة، ويعتقدون أن ما هم عليه كان في هذا الجواب الذي لم يخبر به أبو هريرة.

وما من مبطل مع تضاد أقوالهم إلا وهو يدّعي هذا وكلهم يكذبون، فإذا لم يكن أبو هريرة قد أخبر به فمن علمه بعده؟

وإنما كان الذي فيه شيء من الفتن والملاحم كما أخبر بها هو وغيره من الصحابة، مما ذكرناه ومما سنذكره في كتاب الفتن والملاحم.

وقال حماد بن زيد: حدثنا عمرو بن عبيد الأنصاري، ثنا أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم أن مروان دعا أبا هريرة وأقعده خلف السرير.

وجعل مروان يسأل وجعلت أكتب عنه، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به وأقعده من وراء الحجاب فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخّر.

وروى أبو بكر بن عياش وغيره، عن الأعمش، عن أبي صالح.

قال: كان أبو هريرة من أحفظ أصحاب رسول الله ولم يكن بأفضلهم.

وقال الربيع: قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا أبو خيثمة، ثنا الوليد بن مسلم، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول قال: تواعد الناس ليلة من الليالي إلى قبة من قباب معاوية فاجتمعوا فيها، فقام أبو هريرة فحدثهم عن رسول الله حتى أصبح.

وقال سفيان بن عيينة: عن معمر، عن وهب بن منبه، عن أخيه همام بن منبه.

قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.

وقال أبو زرعة الدمشقي: حدثني محمد بن زرعة الرعيني، ثنا مروان بن محمد، ثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبد الله، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله ولألحقنك بأرض دوس.

وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة.

قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره، عن سعيد بن عبد العزيز نحوا منه ولم يسنده، وهذا محمول من عمر على أنه خشي من الأحاديث التي قد تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص.

وأن الرجل إذا أكثر من الحديث ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ فيحملها الناس عنه أو نحو ذلك.

وقد جاء أن عمر أذن بعد ذلك في التحديث، فقال مسدد: حدثنا خالد الطحان، ثنا يحيى بن عبد الله، عن أبيه، عن أبي هريرة.

قال: بلغ عمر حديثي فأرسل إليّ فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله في بيت فلان؟

قال: قلت: نعم! وقد علمت لِمَ تسألني عن ذلك؟

قال: ولِمَ سألتك؟

قلت: إن رسول الله قال يومئذ: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».

قال: أما إذا فاذهب فحدث.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا عبد الواحد - يعني: ابن زياد - ثنا عاصم بن كليب، حدثني أبي.

قال: سمعت أبا هريرة يقول - وكان يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق: «من كذب عليَّ عامدا فليتبوأ مقعده من النار».

وروى مثله من وجه آخر عنه.

وقال ابن وهب: حدثني يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، أن أبا هريرة كان يقول: إني لأحدث أحاديث لو تكلمت بها في زمان عمر أو عند عمر لشج رأسي.

وقال صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن أبي سلمة: سمعت أبا هريرة يقول: ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله حتى قبض عمر.

وقال محمد بن يحيى الذهلي: ثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.

قال: قال عمر: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به.

قال: ثم يقول أبو هريرة: أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذا لأيقنت أن المحففة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله.

ولهذا لما بعث أبا موسى إلى العراق قال له: إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه، ولا تشغلهم بالأحاديث، وأنا شريكك في ذلك.

هذا معروف عن عمر رضي الله عنه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن ابن عمر.

أنه مر بأبي هريرة وهو يحدث عن النبي أنه قال: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، فإن شهد دفنها فله قيرطان، القيراط أعظم من أُحُد».

فقال له ابن عمر: أبا هِرّ انظر ما تحدث عن رسول الله ، فقام إليه أبو هريرة حتى انطلق به إلى عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين أنشدك بالله أسمعت رسول الله يقول: «من تبع جنازة فصلى عليها فله قيراط فإن شهد دفنها فله قيراطان»؟.

فقالت: اللهم نعم.

فقال أبو هريرة: إنه لم يكن يشغلني عن رسول الله غرس بالوادي وصفق بالأسواق، إني إنما كنت أطلب من رسول الله كلمة يعلمنيها، أو أكلة يطعمنيها.

فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هر كنت ألزمنا رسول الله وأعلمنا بحديثه.

وقال الواقدي: حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه.

قال: كنت مع ابن عمر في جنازة أبي هريرة وهو يمشي أمامها ويكثر الترحم عليه، ويقول: كان ممن يحفظ حديث رسول الله على المسلمين.

وقد روي: أن عائشة تأولت أحاديث كثيرة من أن أبي هريرة ووهمته في بعضها.

وفي الصحيح: أنها عابت عليه سرد الحديث، أي الإكثار منه في الساعة الواحدة.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا بشر بن الوليد الكندي، ثنا إسحاق بن سعد، عن سعيد أن عائشة قالت لأبي هريرة: أكثرت الحديث عن رسول الله يا أبا هريرة.

قال: إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي.

قالت: لعله.

وقال أبو يعلى: حدثنا إبراهيم الشامي، ثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع أن رجلا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها، فقال: يا أبا هريرة إنك تكثر الحديث عن رسول الله ، فهل سمعته يقول: «في حلتي هذه شيئا؟»

قال: والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران: 187] ما حدثتكم بشيء، سمعت أبا القاسم يقول: «إن رجلا ممن كان قبلكم بينما هو يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة».

فوالله ما أدري لعله كان من قومك أومن رهطك - شك أبو يعلى - وقال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، حدثني كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح.

قال: سمعت أبا هريرة يقول لمروان: والله ما أنت بوالٍ، وإن الوالي لغيرك فدعه - يعني: حين أرادوا يدفنون الحسن مع رسول الله - ولكنك تدخل فيما لا يعنيك، إنما تريد بهذا إرضاء من هو غائب عنك - يعني: معاوية -.

قال: فأقبل عليه مروان مغضبا فقال: يا أبا هريرة إن الناس قد قالوا إنك أكثرت على رسول الله الحديث، وإنما قدمت قبل وفاة النبي بيسير.

فقال أبو هريرة: نعم! قدمت ورسول الله بخيبر سنة سبع، وأنا يومئذ قد زدت على الثلاثين سنة سنوات، وأقمت معه حتى توفي، أدور معه في بيوت نسائه وأخدمه، وأنا والله يومئذٍ مقلٍ، وأصلي خلفه وأحج وأغزو معه.

فكنت والله أعلم الناس بحديثه، قد والله سبقني قوم بصحبته والهجرة إليه من قريش والأنصار، وكانوا يعرفون لزومي له فيسألوني عن حديثه، منهم: عمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير.

فلا والله ما يخفى عليّ كل حديث كان بالمدينة، وكل من أحب الله ورسوله، وكل من كانت له عند رسول الله منزلة، وكل صاحب له، وكان أبو بكر صاحبه في الغار وغيره.

وقد أخرجه رسول الله أن يساكنه -يعرض بأبي مروان الحكم بن العاص، -.

ثم قال أبو هريرة: ليسألني أبو عبد الملك عن هذا وأشباهه فإنه يجد عندي منه علما جما ومقالا.

قال: فوالله ما زال مروان يقصر عن أبي هريرة ويتقيه بعد ذلك ويخافه ويخاف جوابه.

وفي رواية: أن أبا هريرة قال لمروان: إني أسلمت وهاجرت اختيارا وطوعا، وأحببت رسول الله حبا شديدا، وأنتم أهل الدار وموضع الدعوة، أخرجتم الداعي من أرضه، وآذيتموه وأصحابه، وتأخر إسلامكم عن إسلامي إلى الوقت المكروه إليكم.

فندم مروان على كلامه له واتقاه.

وقال ابن أبي خيثمة: حدثنا هارون بن معروف، ثنا محمد بن سلمة، ثنا محمد بن إسحاق، عن عمر أو عثمان بن عروة، عن أبيه - يعني: عروة بن الزبير بن العوام - قال: قال لي أبي الزبير: ادنني من هذا اليماني - يعني: أبا هريرة - فإنه يكثر الحديث عن رسول الله .

قال: فأدنيته منه، فجعل أبو هريرة يحدث، وجعل الزبير يقول: صدق، كذب صدق، كذب.

قال: قلت: يا أبة ما قولك صدق كذب؟

قال: يا بني أما أن يكون سمع هذه الأحاديث من رسول الله فلا أشك، ولكن منها ما يضعه على مواضعه، ومنها ما وضعه على غير مواضعه.

وقال علي بن المديني: عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي اليسر بن أبي عامر.

قال: كنت عند طلحة بن عبيد الله إذ دخل رجل فقال: يا أبا محمد والله ما ندري هذا اليماني أعلم برسول الله منكم، أم يقول على رسول الله ما لم يسمع، أو ما لم يقل؟

فقال طلحة: والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قوما أغنياء، لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله طرفي النهار ثم نرجع.

وكان هو مسكينا لا مال له ولا أهل، وإنما كانت يده مع رسول الله ، وكان يدور معه حيث دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم، وسمع ما لم نسمع.

وقد رواه الترمذي بنحوه.

وقال شعبة: عن أشعث بن سليم، عن أبيه قال: سمعت أبا أيوب يحدث عن أبي هريرة فقيل له: أنت صاحب رسول الله وتحدث عن أبي هريرة؟

فقال: إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع، وإني إن أحدث عنه أحب إليّ من أن أحدث عن رسول الله - يعني: ما لم أسمعه منه -.

وقال مسلم بن الحجاج: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الأشج.

قال: قال لنا بشر بن سعيد: اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم فأسمع بعض ما كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله .

وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث.

وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس - أي: يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز هذا من هذا - ذكره ابن عساكر.

وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه: «من أصبح جنبا فلا صيام له» فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله .

وقال شريك: عن مغيرة، عن إبراهيم.

قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة، وروى الأعمش عن إبراهيم.

قال: ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة.

وقال الثوري: عن منصور، عن إبراهيم قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة شيئا، وما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة، إلا ما كان من حديث صفة جنة أو نار، أو حث على عمل صالح، أو نهي عن شرٍ جاء القرآن به.

وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة وردّ هذا الذي قاله إبراهيم النخعي.

وقد قال ما قاله إبراهيم طائفة من الكوفيين، والجمهور على خلافهم.

وقد كان أبو هريرة من الصدق، والحفظ، والديانة، والعبادة، والزهادة، والعمل الصالح على جانب عظيم.

قال حماد بن زيد: عن عباس الجريري، عن أبي عثمان النهدي.

قال: كان أبو هريرة يقوم ثلث الليل.

وامرأته ثلثه، وابنته ثلثه، يقوم هذا ثم يوقظ هذا، ثم يوقظ هذا.

وفي الصحيحين عنه أنه قال: أوصاني خليلي بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام.

وقال ابن جريج عمن حدثه.

قال: قال أبو هريرة: إني أجزئ الليل ثلاثة أجزاء فجزءا لقراءة القرآن، وجزءا أنام فيه، وجزءا أتذكر فيه حديث رسول الله .

وقال محمد بن سعد: ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا إسحاق بن عثمان القرشي، ثنا أبو أيوب.

قال: كان لأبي هريرة مسجد في مخدعه، ومسجد في بيته، ومسجد في حجرته، ومسجد على باب داره إذا خرج صلى فيها جميعها، وإذا دخل صلى فيها جميعا.

وقال عكرمة: كان أبو هريرة يسبح كل ليلة ثنتي عشرة ألف تسبيحة، يقول: أسبح على قدر ديتي.

وقال هشيم: عن يعلى بن عطاء، عن ميمون بن أبي ميسرة.

قال: كانت لأبي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار صيحة يقول: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار.

وإذا كان العشي يقول: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار، فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار.

وقال عبد الله بن المبارك: حدثنا موسى بن عبيدة، عن زياد بن ثوبان، عن أبي هريرة.

قال: لا تغبطن فاجرا بنعمة فإن من ورائه طالبا حثيثا طلبه، جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا.

وقال ابن لهيعة: عن أبي يونس، عن أبي هريرة أنه صلى بالناس يوما فلما سلم رفع صوته فقال: الحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما، بعدما كان أجيرا لابنة غزوان على شبع بطنه وحمولة رجله.

وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: ثنا عفان، ثنا سليم بن حيان، قال: سمعت أبي يحدث، عن أبي هريرة قال: نشأت يتيما، وهاجرت مسكينا، وكنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أحدو بهم إذا ركبوا وأحتطب إذا نزلوا، فالحمد لله الذي جعل الدين قواما، وجعل أبا هريرة إماما.

ثم يقول: والله يا أهل الإسلام إن كانت إجارتي معهم إلا على كسرة يابسة، وعقبة في ليلة غبراء مظلمة، ثم زوجنيها الله فكنت أركب إذا ركبوا، وأخدم إذا خدموا، وأنزل إذا نزلوا.

وقال إبراهيم بن يعقوب الجورجاني: حدثنا الحجاج بن نصر، ثنا هلال بن عبد الرحمن الحنفي، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أبي سلمة.

قال: قال أبو هريرة وأبو ذر: باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف ركعة تطوعا، وباب نعلمه عملنا به أو لم نعمل به أحب إلينا من مائة ركعة تطوعا.

وقالا: سمعنا رسول الله يقول: «إذا جاء طالب العلم الموت وهو على هذه الحال مات وهو شهيد».

وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وروى غير واحد عن أبي هريرة أنه كان يتعوذ في سجوده أن يزني أو يسرق، أو يكفر، أو يعمل كبيرة.

فقيل له: أتخاف ذلك؟

فقال: ما يؤمنني وإبليس حي، ومصرّف القلوب يصرفها كيف يشاء؟.

وقالت له ابنته: يا أبة إن البنات يعيرنني يقلن: لم لا يحليك أبوك بالذهب؟

فقال: يا بنية قولي لهن إن أبي يخشى عليّ حر اللهب.

وقال أبو هريرة: أتيت عمر بن الخطاب فقمت له وهو يسبح بعد الصلاة، فانتظرته فلما انصرف دنوت منه فقلت: اقرئني آيات من كتاب الله.

قال: وما أريد إلا الطعام.

قال: فأقرأني آيات من سورة آل عمران، فلما بلغ أهله دخل وتركني على الباب.

فقلت: ينزع ثيابه ثم أمر لي بطعام، فلم أر شيئا، فلما طال عليّ قمت فمشيت فاستقبلني رسول الله فكلمني.

فقال: «يا أبا هريرة إن خلوف فمك الليلة لشديد؟».

فقلت: أجل يا رسول الله، لقد ظللت صائما وما أفطرت بعد، وما أجد ما أفطر عليه.

قال: فانطلق، فانطلقت معه حتى أتى بيته فدعا جارية له سوداء فقال: إيتنا بتلك القصعة، فأتينا بقصعة فيها وضر من طعام أراه شعيرا قد أُكل وبقي في جوانبها بعضه وهو يسير، فسميت وجعلت أتتبعه فأكلت حتى شبعت.

وقال الطبراني: ثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين أن أبا هريرة قال لابنته: لا تلبسي الذهب فإني أخشى عليك حر اللهب.

وقد رُوي هذا عن أبي هريرة من طرق.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن أبي الربيع، عن أبي هريرة أنه قال: إن هذه الكناسة مهلكة دنياكم وآخرتكم - يعني: الشهوات وما يأكلونه -.

وروى الطبراني عن ابن سيرين، عن أبي هريرة: أن عمر بن الخطاب دعاه ليستعمله فأبى أن يعمل له.

فقال: أتكره العمل وقد عمل من هو خير منك؟

أو قال: قد طلبه من هو خير منك -؟

قال: من؟

قال: يوسف عليه السلام.

فقال أبو هريرة: يوسف نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، فأخشى ثلاثا أو اثنتين.

فقال عمر: أفلا قلت خمسا؟

قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، وأن يضرب ظهري، وينتزع مالي، ويشتم عرضي.

وقال سعيد بن أبي هند: عن أبي هريرة أن رسول الله قال له: «لا تسألني من هذه الغنائم التي سألني أصحابك؟».

فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله.

قال: فنزع نمرة على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني إلى القمل يدب عليها، فحدثني حتى إذا استوعب حديثه قال: «اجمعها إليك فصرها» فأصبحت لا أسقط حرفا مما حدثني».

وقال أبو عثمان النهدي: قلت لأبي هريرة: كيف تصوم؟

قال: أصوم أول الشهر ثلاثا، فإن حدث بي حدث كان لي أجر شهري.

وقال حمُاد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان النهدي: أن أبا هريرة كان في سفر ومعه قوم، فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه ليأكل معهم فقال: إني صائم.

فلما كادوا أن يفرغوا من أكلهم جاء فجعل يأكل، فجعل القوم ينظرون إلى رسولهم الذي أرسلوه إليه.

فقال لهم: أراكم تنظرون إليّ، قد والله أخبرني أنه صائم.

فقال أبو هريرة: صدق، إني سمعت رسول الله يقول: «صوم شهر صوم الصبر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر».

وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله عز وجل.

وروى الإمام أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل، عن أبي المتوكل، عن أبي هريرة أنه كان هو وأصحاب له إذا صاموا يجلسون في المسجد وقالوا: نطهر صيامنا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبيدة الحداد، حدثنا عثمان الشحام، أبو سلمة، ثنا فرقد السبخي قال: كان أبو هريرة يطوف بالبيت وهو يقول: ويل لي من بطني، إن أشبعته كهظني، وإن أجعته أضعفني.

وروى الإمام أحمد: عن عكرمة قال: قال أبو هريرة: إني لأستغفر الله عز وجل وأتوب إليه كل يوم اثنتي عشرة ألف مرة، وذلك على قدر ديتي.

وروى عبد الله بن أحمد، عن أبي هريرة: أنه كان له خيط فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبح به قبل أن ينام.

وفي رواية: ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح به، وهو أصح من الذي قبله.

ولما حضره الموت بكى فقيل له: ما يبكيك؟

فقال: ما أبكي على دنياكم هذه، ولكن أبكي علي بعد سفري وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود ومهبط على جنة ونار، لا أدري إلى أيهما يؤخذ بي.

وروى قتيبة بن سعيد: ثنا الفرج بن فضالة، عن أبي سعيد، عن أبي هريرة قال: إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم.

وروى الطبراني عن معمر قال: بلغني عن أبي هريرة أنه كان إذا مر به جنازة قال: روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة، وعقلة سريعة، يذهب الأول ويبقى الآخر لا عقل له.

وقال الحافظ أبو بكر بن مالك: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو بكر ليث بن خالد البجلي، ثنا عبد المؤمن بن عبد الله السدوسي.

قال: سمعت أبا يزيد المديني يقول: قام أبو هريرة على منبر رسول الله دون مقام رسول الله بعتبة، فقال: ويل للعرب من شر قد اقترب، ويل لهم من إمارة الصبيان، يحكمون فيهم بالهوى ويقتلون بالغضب.

وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن ثابت، عن أسامة بن زيد، عن أبي زياد - مولى ابن عباس - عن أبي هريرة قال: كانت لي خمس عشرة ثمرة فأفطرت على خمس وتسحرت بخمس وأبقيت خمسا لفطري.

وقال أحمد: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا إسماعيل - يعني: العبدي - عن أبي المتوكل: أن أبا هريرة كانت لهم زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها يوما السوط ثم قال: لولا القصاص يوم القيامة لأغشينك به، ولكن سأبيعك ممن يوفيني ثمنك، أجوج ما أكون إليه، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل.

وروى حماد بن سلمة: عن أيوب، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة: أن أبا هريرة مرض فدخلت عليه أعوده فقلت: اللهم اشف أبا هريرة.

فقال: اللهم لا ترجعها، ثم قال: يا أبا سلمة يوشك أن يأتي على الناس زمان يكون الموت أحب إلى أحدهم من الذهب الأحمر.

وروى عطاء: عن أبي هريرة قال: إذا رأيتم ستا فإن كانت نفس أحدكم في يده فليرسلها، فلذلك أتمنى الموت أخاف أن تدركني، إذا أمرت السفهاء، وبيع الحكم، وتهون بالدم، وقطعت الأرحام، وكثرت الجلاوزة، ونشأ نشو يتخذون القرآن مزامير.

وقال ابن وهب: حدثنا عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي: أن ثعلبة بن أبي مالك القرظي حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمتي حطب - وهو يومئذ أمير لمروان بن الحكم - فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك.

فقلت: يرحمك الله يكفي هذا!

فقال: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه.

وله فضائل ومناقب كثيرة، وكلام حسن، ومواعظ جمة، أسلم كما قدمنا عام خيبر، فلزم رسول الله ولم يفارقه إلا حين بعثه مع العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، ووصاه به فجعله العلاء مؤذنا بين يديه.

وقال له أبو هريرة: لا تسبقني بآمين أيها الأمير.

وقد استعمله عمر بن الخطاب عليها في أيام إمارته، وقاسمه مع جملة العمال.

قال عبد الرزاق: حدثنا معمر: عن أيوب، عن ابن سيرين.

أن عمر استعمل أبا هريرة على البحرين فقدم بعشرة آلاف فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال أي: عدو الله وعدو كتابه؟.

فقال أبو هريرة: لست بعدو الله ولا عدو كتابه، ولكن عدو من عاداهما.

فقال: فمن أين هي لك؟

قال: خيل نتجت، وغلة ورقيق لي، وأعطية تتابعت عليّ.

فنظروا فوجدوه كما قال.

فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله فأبى أن يعمل له.

فقال له: تكره العمل وقد طلبه من كان خيرا منك؟ طلبه يوسف عليه السلام.

فقال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أمية وأخشى ثلاثا واثنين.

قال عمر: فهلا قلت خمسة؟.

قال: أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حلم، أو يضرب ظهري، وينزع مالي، ويشتم عرضي.

وذكر غيره: أن عمر غرمه في العمالة الأولى اثني عشر ألفا فلهذا امتنع في الثانية.

وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن محمد بن زياد.

قال: كان معاوية يبعث أبا هريرة على المدينة فإذا غضب عليه عزله، وولى مروان بن الحكم، فإذا جاء أبو هريرة إلى مروان حجبه عنه، فعزل مروان ورجع أبو هريرة.

فقال لمولاه: من جاءك فلا ترده وأحجب مروان، فلما جاء مروان دفع الغلام في صدره فما دخل إلا بعد جهد جهيد، فلما دخل قال: إن الغلام حجبنا عنك.

فقال له أبو هريرة: إنك أحق الناس أن لا تغضب من ذلك.

والمعروف أن مروان هو الذي كان يستنيب أبا هريرة في إمرة المدينة، ولكن كان يكون عن إذن معاوية في ذلك والله أعلم.

وقال حماد بن سلمة: عن ثابت، عن أبي رافع: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب الحمار، ويلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الأمير - يعني: نفسه -.

وكان يمر بالصبيان، وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب، وهو أمير، فلا يشعرون إلا وقد ألقى نفسه بينهم، ويضرب برجليه كأنه مجنون، يريد أن يضحكهم، فيفزغ الصبيان منه ويفرون عنه ههنا وههنا يتضاحكون.

قال أبو رافع: وربما دعاني أبو هريرة إلى عشائه بالليل فيقول: دع العراق للأمير - يعني: قطع اللحم - قال: فأنظر فإذا هو ثريد بالزيت.

وقال ابن وهب: حدثني عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي أن ثعلبة بن أبي مالك، حدثه أن أبا هريرة أقبل في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة مروان فقال: أوسع الطريق للأمير يا بن أبي مالك.

فقلت: أصلحك الله تلقى هذا.

فقال: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه.

وقد تقدم هذا.

وروى نحوه من غير وجه.

وقال أبو الزعيزعة كاتب مروان: بعث مروان إلى أبي هريرة بمائة دينار، فلما كان الغد بعث إليه: إني غلطت ولم أردك بها، وإني إنما أردت غيرك.

فقال أبو هريرة: قد أخرجتها فإذا خرج عطائي فخذها منه - وكان قد تصدق بها - وإنما أراد مروان اختباره.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الأعلا بن عبد الجبار، ثنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد بن المسيب قال: كان معاوية إذا أعطى أبا هريرة سكت، وإذا أمسك عنه تكلم.

وروى غير واحد: عن أبي هريرة أنه جاءه شاب فقال: يا أبا هريرة إني أصبحت صائما فدخلت على أبي فجاءني بخبز ولحم فأكلت ناسيا.

فقال: طعمة أطعمكها الله لا عليك.

قال: ثم دخلت دارا لأهلي فجيء بلبن لقحة فشربته ناسيا.

قال: لا عليك.

قال: ثم نمت فاستيقظت فشربت ماء.

وفي رواية: وجامعت ناسيا.

فقال أبو هريرة: إنك يا بن أخي لم تعتد الصيام.

وقال غير واحد: كان أبو هريرة إذا رأى الجنازة قال: روحوا فإنا غادون، أو اغدوا فإنا رائحون.

وروى غير واحد: أنه لما حضرته الوفاة بكى فقيل: ما يبكيك؟

قال: على قلة الزاد وشدة المفازة، وأنا على عقبة هبوط إما إلى جنة أو إلى نار، فما أدري إلى أيهما أصير.

وقال مالك: عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.

قال: دخل مروان على أبي هريرة في مرضه الذي مات فيه فقال: شفاك الله يا أبا هريرة.

فقال أبو هريرة: اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي.

قال: فما بلغ مروان أصحاب القطن حتى مات أبو هريرة.

وقال يعقوب بن سفيان: عن دحيم، عن الوليد بن جابر، عن عمير بن هانئ.

قال: قال أبو هريرة: اللهم لا تدركني سنة ستين، قال: فتوفي فيها أو قبلها بسنة، وهكذا قال الواقدي: إنه توفي سنة تسع وخمسين، عن ثمان وسبعين سنة.

قال الواقدي: وهو الذي صلى على عائشة في رمضان، وعلى أم سلمة في شوال سنة تسع وخمسين، ثم توفي أبو هريرة بعدهما فيها، كذا قال: والصواب أن أم سلمة تأخرت بعد أبي هريرة.

وقد قال غير واحد: إنه توفي سنة تسع وخمسين.

وقيل: ثمان.

وقيل: سبع وخمسين، والمشهور: تسع وخمسين.

قالوا: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان نائب المدينة، وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد وخلق من الصحابة وغيرهم، وكان ذلك عند صلاة العصر.

وكانت وفاته في داره بالعقيق، فحمل إلى المدينة فصلي عليه، ثم دفن بالبقيع رحمه الله ورضي عنه.

وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة، فكتب إليه معاوية: أن انظروا ورثته فأحسن إليهم، واصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم، واعمل إليهم معروفا، فإنه كان ممن نصر عثمان، وكان معه في الدار رحمهما الله تعالى.

البداية والنهاية - الجزء الثامن
سنة إحدى وأربعين | معاوية بن أبي سفيان وملكه | فضل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه | خروج طائفة من الخوارج عليه | رفاعة بن رافع بن مالك بن العجلان | ركانة بن عبد العزيز | صفوان بن أمية | عثمان بن طلحة | عمرو بن الأسود السكوني | عاتكة بنت زيد | سنة ثنتين وأربعين | سنة ثلاث وأربعين | أما عمرو بن العاص | وممن توفي فيها عبد الله بن سلام أبو يوسف الإسرائيلي | سنة أربع وأربعين | وفى هذه السنة توفيت أم حبيبة بنت أبي سفيان أم المؤمنين | سنة خمس وأربعين | سنة ست وأربعين | سراقة بن كعب شهد بدرا وما بعدها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد | سنة سبع وأربعين | ثم دخلت سنة ثمان وأربعين | سنة تسع وأربعين | الحسن بن علي بن أبي طالب | سنة خمسين من الهجرة | وفيها توفي مدلاج بن عمرو السلمي صحابي جليل | صفية بنت حيي بن أخطب | وأما أم شريك الأنصارية | وأما عمرو بن أمية الضمري | أما جبير بن مطعم | وأما حسان بن ثابت | وأما الحكم بن عمر بن مجدع الغفاري | وأما دحية بن خليفة الكلبي | وأما عقيل بن أبي طالب | وأما كعب بن مالك الأنصاري السلمي | المغيرة بن شعبة | جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار الخزاعية المصطلقية | سنة إحدى وخمسين | وذكر ابن عساكر له مراثي كثيرة | فأما جرير بن عبد الله البجلي | وأما جعفر بن أبي سفيان بن عبد المطلب | وأما حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري | وأما سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي | وأما عبد الله أنيس بن الجهني أبو يحيى المدني | وأما أبو بكرة نفيع بن الحارث | وفيها توفيت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية | ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين | خالد بن زيد بن كليب | وفيها كانت وفاة أبي موسى الأشعري | قصة يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري مع ابني زياد عبيد الله وعباد | الحطيئة الشاعر | عبد الله بن مالك بن القشب | قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي | معقل بن يسار المزني | أبو هريرة الدوسي رضي الله عنه | عبد الله بن المغفل المزني | وفيها توفي عمران بن حصين بن عبيد | كعب بن عجزة الأنصاري أبو محمد المدني | معاوية بن خديج | هانئ بن نيار أبو بردة البلوي | ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين | وفيها توفي الربيع بن زياد الحارثي | رويفع بن ثابت | صعصعة بن ناجية | جبلة بن الأيهم الغساني | سنة أربع وخمسين | أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي | ثوبان بن مجدد | جبير بن مطعم | الحارث بن ربعي | حكيم بن حزام | حويطب بن عبد العزى العامري | معبد بن يربوع بن عنكثة | مرة بن شراحيل الهمداني | النعيمان بن عمرو | سودة بنت زمعة | ثم دخلت سنة خمس وخمسين | أرقم بن أبي الأرقم | سحبان بن زفر بن إياس | سعد بن أبي وقاص | فضالة بن عبيد الأنصاري الأوسي | قثم بن العباس بن عبد المطلب | كعب بن عمرو أبو اليسر | ثم دخلت سنة ست وخمسين | سنة سبع وخمسين | قال ابن الجوزي وفيها توفي عثمان بن حنيف الأنصاري الأوسي | سنة ثمان وخمسين | قصة غريبة | توفي في هذا العام سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف | شداد بن أوس بن ثابت | عبد الله بن عامر | عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما | قصته مع ليلى بنت الجودي ملك عرب الشام | عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب | أم المؤمنين عائشة بنت أبو بكر الصديق | ثم دخلت سنة تسع وخمسين | سنة ستين من الهجرة النبوية | وهذه ترجمة معاوية وذكر شيء من أيامه وما ورد في مناقبه وفضائله | ذكر من تزوج من النساء ومن ولد له | فصل قضاء معاوية | صفوان بن المعطل بن رخصة بن المؤمل بن خزاعي أبو عمرو | أبو مسلم الخولاني | يزيد بن معاوية وما جرى في أيامه | قصة الحسين بن علي وسبب خروجه من مكة في طلب الإمارة وكيفية مقتله | صفة مخرج الحسين إلى العراق | ثم دخلت سنة إحدى وستين | وهذه صفة مقتله مأخوذة من كلام أئمة هذا الشأن لا كما يزعمه أهل التشيع من الكذب | فصل مقتل الحسين رضي الله عنه | وأما قبر الحسين رضي الله عنه | وأما رأس الحسين رضي الله عنه | فصل شيء من فضائله | فصل في شيء من أشعاره التي رويت عنه | الحسين بن علي رضي الله عنهما | جابر بن عتيك بن قيس | حمزة بن عمرو الأسلمي | شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري الحجبي | الوليد بن عقبة بن أبي معيط | أم سلمة أم المؤمنين هند بنت أبي أمية حذيفة | ثم دخلت سنة ثنتين وستين | بريدة بن الحصيب الأسلمي | الربيع بن خيثم | علقمة بن قيس أبو شبل النخعي الكوفي | عقبة بن نافع الفهري | عمرو بن حزم | مسلم بن مخلد الأنصاري | مسلم بن معاوية الديلمي | ثم دخلت سنة ثلاث وستين | ثم دخلت سنة أربع وستين | وهذه ترجمة يزيد بن معاوية | أولاد يزيد بن معاوية وعددهم | إمارة معاوية بن يزيد بن معاوية | إمارة عبد الله بن الزبير | ذكر بيعة مروان بن الحكم | وقعة مرج راهط ومقتل الضحّاك بن قيس الفهري رضي الله عنه | وفيها مقتل النعمان بن بشير الأنصاري | وفيها توفي المسوَّر بن مخرمة بن نوفل | المنذر بن الزبير بن العوام | مصعب بن عبد الرحمن بن عوف | وفي هذه السنة أعني سنة أربع وستين | ذكر هدم الكعبة وبنائها في أيام ابن الزبير | ثم دخلت سنة خمس وستين | وقعة عين وردة | ترجمة مروان بن الحكم | خلافة عبد الملك بن مروان | ثم دخلت سنة ست وستين | فصل تتبع قتلة الحسين رضي الله عنه | مقتل شمر بن ذي الجوشن أمير السرية التي قتلت حسنا | مقتل خولي بن يزيد الأصبحي الذي احتز رأس الحسين | مقتل عمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الذين قتلوا الحسين | فصل خداع المختار ومكره بابن الزبير | فصل مسير إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد | ثم دخلت سنة سبع وستين | وهذه ترجمة ابن زياد | مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن الزبير | وهذه ترجمة المختار بن أبي عبيد الثقفي | فصل استقرار مصعب بن الزبير بالكوفة | ثم دخلت سنة ثمان وستين | عبد الله بن يزيد الأوسي | وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي | وفيها توفي عبد الله بن عباس ترجمان القرآن | ذكر صفة أخرى لرؤيته جبريل | فصل تولي ابن عباس إمامة الحج | صفة ابن عباس | ثم دخلت سنة تسع وستين | وهذه ترجمة الأشدق | أبو الأسود الدؤلي | جابر بن سمرة بن جنادة | أسماء بنت يزيد | حسان بن مالك | ثم دخلت سنة سبعين من الهجرة | عاصم بن عمر بن الخطاب | قبيصة بن دؤيب الخزاعي الكلبي | قيس بن ذريج | يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري | بشير بن النضر | مالك بن يخامر | ثم دخلت سنة إحدى وسبعين | وهذه ترجمة مصعب بن الزبير | إبراهيم بن الأشتر | عبد الرحمن بن عسيلة | عمر بن سلمة | سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم | عمر بن أخطب | يزيد بن الأسود الجرشي السكوني | ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين | وهذه ترجمة عبد الله بن خازم | الأحنف بن قيس | البراء بن عازب | عبيدة السلماني القاضي | عطية بن بشر | عبيدة بن نضيلة | عبد الله بن قيس الرقيّات | عبد الله بن حمام | ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين | وهذه ترجمة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير | عبد الله بن صفوان | عبد الله بن مطيع | عوف بن مالك رضي الله عنه | أسماء بنت أبي بكر | عبد الله سعد بن جثم الأنصاري | عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي | مالك بن مسمع بن غسان البصري | ثابت بن الضحاك الأنصاري | زينب بنت أبي سلمى المخزومي | توبة بنت الصمة