البداية والنهاية/الجزء الثامن/أم المؤمنين عائشة بنت أبو بكر الصديق
وزوجة رسول الله ﷺ، وأحب أزواجه إليه، المبرّأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها، وعن أبيها.
وأمها: هي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، تكنى عائشة: بأم عبد الله.
قيل: كناها بذلك رسول الله ﷺ بابن أختها عبد الله بن الزبير.
وقيل: إنها أسقطت من رسول الله سقطا فسماه عبد الله، ولم يتزوج رسول الله ﷺ بكرا غيرها، ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة غيرها، ولم يكن في أزواجه أحب إليه منها.
تزوجها بمكة بعد وفاة خديجة، وقد أتاه الملك بها في المنام في سرقة من حريرة مرتين أو ثلاثا فيقول: هذه زوجتك.
قال: فأكشف عنك فإذا هي أنت، فأقول: «إن يكن هذا من عند الله يمضه» فخطبها من أبيها.
فقال: يا رسول الله أو تحل لك؟
قال: «نعم!»
قال: أولست أخوك؟
قال: «بلى في الإسلام، وهي لي حلال»، فتزوجها رسول الله ﷺ فحظيت عنده.
وقد قدمنا ذلك في أول السيرة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنتين.
وقيل: بسنة ونصف.
وقيل: بثلاث سنين، وكان عمرها إذ ذاك ست سنين، ثم دخل بها وهي بنت تسع سنين بعد بدر، في شوال من سنة ثنتين من الهجرة فأحبها.
ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان، غار الله لها فأنزل لها براءتها في عشر آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان.
وقد ذكرنا ذلك مفصلا فيما سلف، وشرحنا الآيات والأحاديث الواردة في ذلك في غزوة المريسيع، وبسطنا ذلك أيضا في كتاب التفسير بما فيه كفاية ومقنع، ولله الحمد والمنة.
وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها، واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين، هل يكفر من قذفهن أم لا؟
على قولين، وأصحهما أنه يكفر، لأن المقذوفة زوجة رسول الله ﷺ، والله تعالى إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله ﷺ، فهي وغيرها منهن سواء.
ومن خصائصها: رضي الله عنها أنها كان لها في القسم يومان يومها ويوم سودة حين وهبتها ذلك تقربا إلى رسول الله ﷺ، وأنه مات في يومها وفي بيتها وبين سحرها ونحرها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة، عن عائشة، عن النبي ﷺ: قال: «إنه ليهون عليّ أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة» تفرد به أحمد.
وهذا في غاية ما يكون من المحبة العظيمة أنه يرتاح لأنه رأى بياض كفها أمامه في الجنة.
ومن خصائصها: أنها أعلم نساء النبي ﷺ، بل هي أعلم النساء على الإطلاق.
قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة.
وقال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه، ولا طب، ولا شعر من عائشة.
ولم ترو امرأة ولا رجل غير أبي هريرة عن رسول الله ﷺ من الأحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها.
وقال أبو موسى الأشعري: ما أشكل علينا أصحاب محمد حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما.
رواه الترمذي، وقال أبو الضحى: عن مسروق رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض.
فأما ما يلهج به كثير من الفقهاء وعلماء الأصول من إيراد حديث: «خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء» فإنه ليس له أصل ولا هو مثبت في شيء من أصول الإسلام، وسألت عنه شيخنا أبا الحجاج المزي فقال: لا أصل له.
ثم لم يكن في النساء أعلم من تلميذاتها عمرة بنت عبد الرحمن، وحفصة بنت سيرين، وعائشة بنت طلحة.
وقد تفردت أم المؤمنين عائشة بمسائل عن الصحابة لم توجد إلا عندها، وانفردت باختيارات أيضا، وردت أخبار بخلافها بنوع من التأويل.
وقد جمع ذلك غير واحد من الأئمة، فمن ذلك قال الشعبي: كان مسروق إذا حدث عن عائشة قال: حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات.
وثبت في صحيح البخاري من حديث أبي عثمان النهدي عن عمرو بن العاص قال:
قلت: يا رسول الله أي الناس أحب عليك؟
قال: «عائشة».
قلت: ومن الرجال؟
قال: «أبوها».
وفي صحيح البخاري أيضا عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».
وقد استدل كثير من العلماء ممن ذهب إلى تفضيل عائشة على خديجة بهذا الحديث، قال: فإنه دخل فيه سائر النساء الثلاث المذكورات وغيرهن.
ويعضد ذلك أيضا الحديث الذي رواه البخاري، حدثنا إسماعيل بن خليل، ثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: «استأذنت هالة بنت خويلد - أخت خديجة - على رسول الله ﷺ فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: «اللهم هالة».
قالت عائشة: فغرت وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر الأول، قد أبدلك الله خيرا منها؟
هكذا رواه البخاري، فأما ما يروى فيه من الزيادة: «والله ما أبدلني خيرا منها» فليس يصح سندها.
وقد ذكرنا ذلك مطولا عند وفاة خديجة، وذكرنا حجة من ذهب إلى تفضيلها على عائشة بما أغنى عن إعادته ههنا.
وروى البخاري: عن عائشة، أن النبي ﷺ قال يوما: «يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام».
فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى.
وثبت في صحيح البخاري أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة، فاجتمع أزواجه إلى أم سلمة وقلن لها: قولي له يأمر الناس أن يهدوا له حيث كان.
فقالت أم سلمة: فلما دخل عليّ قلت له ذلك فأعرض عني، ثم قلن لها ذلك فقالت له فأعرض عنها، ثم لما دار إليها قالت له، فقال: «يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليّ الوحي في بيت وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها».
وذكر: «أنهن بعثن فاطمة ابنته إليه فقالت: إن نساءك ينشدونك العدل في ابنة أبي بكر بن أبي قحافة.
فقال: «يا بنية ألا تحبين من أحب؟»
قالت: قلت: بلى!.
قال: «فأحبي هذه».
ثم بعثن زينب بنت جحش فدخلت على رسول الله ﷺ وعنده عائشة فتكلمت زينب ونالت من عائشة، فانتصرت عائشة منها وكلمتها حتى أفحمتها، فجعل رسول الله ﷺ ينظر إلى عائشة ويقول: «إنها ابنة أبي بكر».
وذكرنا أن عمارا لما جاء يستصرخ الناس ويستفزهم إلى قتال طلحة والزبير أيام الجمل، صعد هو والحسن بن علي على منبر الكوفة، فسمع عمار رجلا ينال من عائشة فقال له: اسكت مقبوحا منبوذا، والله إنها لزوجة رسول الله ﷺ في الدنيا وفي الآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أو إياها.
وقال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمر، ثنا زائدة، ثنا عبد الله بن خيثم، حدثني عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان - حاجب عائشة -: أنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة فجئت - وعند رأسها عبد الله بن أخيها عبد الرحمن -
فقلت: هذا ابن عباس يستأذن فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال: هذا عبد الله بن عباس يستأذن وهي تموت، فقالت: دعني من ابن عباس.
فقال: يا أماه!! إن ابن عباس من صالح بنيك يسلم عليك ويودعك.
فقالت: ائذن له إن شئت.
قال: فأدخلته، فلما جلس قال: أبشري.
فقالت: بماذا؟
فقال: ما بينك وبين أن تلقي محمدا والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله ﷺ إليه، ولم يكن رسول الله ﷺ يحب إلا طيبا.
وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله ﷺ وأصبح الناس وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم، فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله من الرخصة لهذه الأمة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات، جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس مسجد من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار.
فقالت: دعني منك يا ابن عباس، والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسيا منسيا.
والأحاديث في فضائلها ومناقبها كثيرة جدا.
وقد كانت وفاتها في هذا العام سنة ثمان وخمسين.
وقيل: قبله بسنة.
وقيل: بعده بسنة، والمشهور في رمضان منه.
وقيل: في شوال، والأشهر ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان.
وأوصت أن تدفن بالبقيع ليلا، وصلى عليها أبو هريرة بعد صلاة الوتر، ونزل في قبرها خمسة، وهم عبد الله، وعروة ابنا الزبير بن العوام، من أختها أسماء بنت أبي بكر، والقاسم، وعبد الله ابنا أخيها محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر.
وكان عمرها يومئذ سبعا وستين سنة، لأنه توفي رسول الله ﷺ وعمرها ثمان عشرة سنة، وكان عمرها عام الهجرة ثمان سنين أو تسع سنين فالله أعلم، ورضي الله تعالى عن أبيها وعن الصحابة أجمعين.