البداية والنهاية/الجزء الخامس/ذكر إفاضته عليه السلام من عرفات إلى المشعر الحرام
قال جابر في حديثه الطويل: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا قليلا حين غاب القرص، فأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله ﷺ وقد شنق ناقته القصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رجله، ويقول بيده اليمنى: «أيها الناس السكينة، السكينة!» كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، رواه مسلم.
وقال البخاري - باب السير إذا دفع من عرفة -: حدثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: سئل أسامة وأنا جالس كيف كان النبي ﷺ يسير في حجة الوداع حين دفع؟
قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص.
قال هشام: والنص فوق العنق.
ورواه الإمام أحمد، وبقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عدة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد.
وقال الإمام أحمد: ثنا يعقوب، ثنا أبي عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد قال: كنت رديف رسول الله ﷺ عشية عرفة.
قال: فلما وقعت الشمس، دفع رسول الله ﷺ فلما سمع حطمة الناس خلفه قال: «رويدا أيها الناس، عليكم السكينة إن البر ليس بالإيضاع».
قال: فكان رسول الله ﷺ إذا التحم عليه الناس أعنق، وإذا وجد فرجة نص، حتى أتى المزدلفة فجمع فيها بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة.
ثم رواه الإمام أحمد من طريق محمد بن إسحاق، حدثني إبراهيم بن عقبة عن كريب، عن أسامة بن زيد، فذكر مثله.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبو كامل، ثنا حماد عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد قال: أفاض رسول الله ﷺ من عرفة وأنا رديفه، فجعل يكبح راحلته حتى إن ذفراها ليكاد يصيب قادمة الرحل ويقول: «يا أيها الناس عليكم السكينة والوقار، فإن البر ليس في إيضاع الإبل».
وكذا رواه عن عفان، عن حماد بن سلمة به.
ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة به.
ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هارون، عن عبد الملك ابن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس، عن أسامة بنحوه.
قال: وقال أسامة: فما زال يسير على هينة حتى أتى جمعا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج، ثنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس، عن أسامة ابن زيد، أنه ردف رسول الله ﷺ يوم عرفة حتى دخل الشعب، ثم أهراق الماء وتوضأ، ثم ركب ولم يصل.
وقال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد، ثنا همام عن قتادة، عن عروة، عن الشعبي، عن أسامة بن زيد أنه حدثه: قال: كنت رديف رسول الله ﷺ حين أفاض من عرفات، فلم ترفع راحلته رجلها غادية حتى بلغ جمعا.
وقال الإمام أحمد: ثنا سفيان عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس أخبرني أسامة بن زيد أن النبي ﷺ أردفه من عرفة، فلما أتى الشعب نزل فبال، ولم يقل أهراق الماء، فصببت عليه فتوضأ وضوءا خفيفا فقلت: الصلاة؟
فقال: «الصلاة أمامك».
قال: ثم أتى المزدلفة فصلى المغرب، ثم حلوا رحالهم، ثم صلى العشاء.
كذا رواه الإمام أحمد عن كريب، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد فذكره.
ورواه النسائي عن الحسين بن حرب، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة، ومحمد ابن أبي حرملة، كلاهما عن كريب، عن ابن عباس، عن أسامة.
قال شيخنا أبو الحجاج المزي في (أطرافه): والصحيح كريب عن أسامة.
وقال البخاري: ثنا عبد الله بن يوسف، أنبأنا مالك عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول: دفع رسول الله ﷺ من عرفة، فنزل الشعب فبال ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء فقلت له: الصلاة؟
فقال: «الصلاة أمامك».
فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى العشاء ولم يصل بينهما.
وهكذا رواه البخاري أيضا عن القعنبي، ومسلم عن يحيى بن يحيى، والنسائي عن قتيبة، عن مالك، عن موسى بن عقبة به.
وأخرجاه من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري عن موسى بن عقبة أيضا.
ورواه مسلم من حديث إبراهيم بن عقبة ومحمد بن عقبة عن كريب كنحو رواية أخيهما موسى بن عقبة عنه.
وقال البخاري أيضا: ثنا قتيبة، ثنا إسماعيل بن جعفر عن محمد ابن أبي حرملة، عن كريب، عن أسامة بن زيد أنه قال: ردفت رسول الله ﷺ فلما بلغ رسول الله ﷺ الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ فبال، ثم جاء فصببت عليه الوضوء فتوضأ وضوءا خفيفا.
فقلت: الصلاة يا رسول الله؟
قال: «الصلاة أمامك».
فركب رسول الله ﷺ حتى أتى المزدلفة فصلى، ثم ردف الفضل رسول الله ﷺ غداة جمع.
قال كريب: فأخبرني عبد الله بن عباس عن الفضل أن رسول الله ﷺ لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة.
ورواه مسلم عن قتيبة، ويحيى بن يحيى بن أيوب وعلي بن حجر، أربعتهم عن إسماعيل بن جعفر به.
وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا عمر بن ذر عن مجاهد، عن أسامة بن زيد أن رسول الله أردفه من عرفة قال: فقال الناس: سيخبرنا صاحبنا ما صنع.
قال: فقال أسامة: لما دفع من عرفة فوقف كف رأس راحلته حتى أصاب رأسها واسطة الرحل، أو كاد يصيبه، يشير إلى الناس بيده: «السكينة، السكينة، السكينة!!» حتى أتى جمعا.
ثم أردف الفضل بن عباس قال: فقال الناس: سيخبرنا صاحبنا بما صنع رسول الله.
فقال الفضل: لم يزل يسير سيرا لينا كسيره بالأمس حتى أتى على وادي محسر، فدفع فيه حتىاستوت به الأرض.
وقال البخاري: ثنا سعيد ابن أبي مريم، ثنا إبراهيم بن سويد، حدثني عمرو ابن أبي عمرو ومولى المطلب، أخبرني سعيد بن جبير مولى والبة الكوفي، حدثني ابن عباس: أنه دفع النبي ﷺ يوم عرفة، فسمع النبي ﷺ وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع».
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقد تقدم رواية الإمام أحمد ومسلم والنسائي، هذا من طريق عطاء ابن أبي رباح عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عمر، ثنا المسعودي عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس.
قال: لما أفاض رسول من عرفات أوضع الناس، فأمر رسول الله مناديا ينادي: أيها الناس ليس البر بإيضاع الخيل ولا الركاب.
قال: فما رأيت من رافعة يديها غادية حتى نزل جمعا.
وقال الإمام أحمد: ثنا حسين وأبو نعيم قالا: ثنا إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع قال: حدثني من سمع ابن عباس يقول: لم ينزل رسول الله ﷺ من عرفات وجمع إلا أريق الماء.
وقال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الملك عن أنس بن سيرين قال: كنت مع ابن عمر بعرفات فلما كان حين راح معه حتى الإمام فصلى معه الأولى والعصر، ثم وقف وأنا وأصحاب لي حتى أفاض الإمام فأفضنا معه، حتى انتهينا إلى المضيق دون المأزمين فأناخ وأنخنا ونحن نحسب أنه يريد أن يصلي، فقال غلامه الذي يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي ﷺ لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضي حاجته.
وقال البخاري: ثنا موسى، ثنا جويرية عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر يجمع بين المغرب العشاء بجمع، غير أنه يمر بالشعب الذي أخذه رسول الله ﷺ فيدخل، فينتقص ويتوضأ ولا يصلي، حتى يجيء جمعا.
تفرد به البخاري رحمه الله من هذا الوجه.
وقال البخاري: ثنا آدم ابن أبي ذئب عن الزهري، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر قال: جمع النبي ﷺ المغرب والعشاء بجمع كل واحدة منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما، ولا على إثر واحدة منها.
ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا.
ثم قال مسلم: حدثني حرملة، حدثني ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أخبره أن أباه قال: جمع رسول الله بين المغرب والعشاء بجمع ليس بينهما سجدة، فصلى المغرب ثلاث ركعات، وصلى العشاء ركعتين، فكان عبد الله يصلي بجمع كذلك حتى لحق بالله.
ثم روى مسلم من حديث شعبة عن الحكم وسلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير أنه صلى المغرب بجمع والعشاء بإقامة واحدة، ثم حدث عن ابن عمر أنه صلى مثل ذلك، وحدث ابن عمر أن رسول الله ﷺ صنع مثل ذلك.
ثم رواه من طريق الثوري عن سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر قال: جمع رسول الله ﷺ بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا، والعشاء ركعتين بإقامة واحدة.
ثم قال مسلم: ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا عبد الله بن جبير، ثنا إسماعيل ابن أبي خالد عن أبي إسحاق قال: قال سعيد بن جبير: أفضنا مع ابن عمر حتى أتينا جمعا، فصلى بنا المغرب والعشاء بإقامة واحدة، ثم انصرف فقال: هكذا صلى بنا رسول الله ﷺ في هذا المكان.
وقال البخاري: ثنا خالد بن مخلد، ثنا سليمان بن بلال، حدثني يحيى بن سعيد، حدثني عدي بن ثابت، حدثني عبد الله بن يزيد الخطمي، حدثني أبو زيد الأنصاري أن رسول الله ﷺ جمع في حجة الوداع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
ورواه البخاري أيضا في المغازي عن القعنبي، عن مالك، ومسلم من حديث سليمان بن بلال، والليث بن سعد، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عدي بن ثابت.
ورواه النسائي أيضا عن الفلاس، عن يحيى القطان، عن شعبة، عن عدي بن ثابت به.
ثم قال البخاري - باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما -: حدثنا عمرو بن خالد، ثنا زهير بن حرب، ثنا أبو إسحاق سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: حج عبد الله، فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك، فأمر رجلا فأذن وأقام، ثم صلى المغرب، وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى، ثم أمر رجلا فأذن وأقام.
قال عمرو: لا أعلم الشك إلا من زهير، ثم صلى العشاء ركعتين، فلما طلع الفجر قال: إن النبي ﷺ كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم.
قال عبد الله: هما صلاتان تحولان عن وقتهما صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر قال: رأيت النبي ﷺ يفعله.
وهذا اللفظ وهو قوله: والفجر حين يبزغ الفجر، أبين وأظهر من الحديث الآخر الذي رواه البخاري عن حفص بن عمر بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود قال: ما رأيت رسول الله ﷺ صلى صلاة بغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء، وصلاة الفجر قبل ميقاتها.
ورواه مسلم من حديث أبي معاوية وجرير عن الأعمش به.
وقال جابر في حديثه: ثم اضطجع رسول الله ﷺ حتى طلع الفجر فصلى الفجر، حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، وقد شهد معه هذه الصلاة عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي.
قال الإمام أحمد: ثنا هشيم، ثنا ابن أبي خالد وزكريا عن الشعبي، أخبرني عروة بن مضرس قال: أتيت النبي ﷺ وهو بجمع.
فقلت: يا رسول الله جئتك من جبل طيء أتعبت نفسي، وأنضيت راحلتي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟
فقال: «من شهد معنا هذه الصلاة - يعني: صلاة الفجر - بجمع، ووقف معنا حتى يفيض منه وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أونهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه».
وقد رواه الامام أحمد أيضا، وأهل السنن الأربعة من طرق عن الشعبي، عن عروة بن مضرس.
وقال الترمذي: حسن صحيح.