البداية والنهاية/الجزء الخامس/فصل خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في ثاني أيام التشريق
فيما ورد من الأحاديث الدالة على أنه عليه السلام خطب الناس بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق، وهو أوسطها.
قال أبو داود باب أي يوم يخطب: حدثنا محمد بن العلاء، أنبأنا ابن المبارك عن إبراهيم بن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله ﷺ يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته، وهي خطبة رسول الله ﷺ التي خطب بمنى.
انفرد به أبو داود.
ثم قال أبو داود: ثنا محمد بن بشار، ثنا أبو عاصم، ثنا ربيعة بن عبد الرحمن بن حصين، حدثتني جدتي سراء بنت نبهان - وكانت ربة بيت في الجاهلية - قالت: خطبنا رسول الله ﷺ يوم الرؤوس فقال: «أي يوم هذا؟».
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: «أليس أوسط أيام التشريق».
انفرد به أبو داود.
قال أبو داود: وكذلك قال عم أبي حرة الرقاشي: أنه خطب أوسط أيام التشريق.
وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد متصلا مطولا.
فقال: ثنا عثمان، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا علي بن زيد عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه قال: كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله ﷺ في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس.
فقال: «ياأيها الناس أتدرون في أي شهر أنتم، وفي أي يوم أنتم، وفي أي بلد أنتم؟.
قالوا: في يوم حرام، وشهر حرام، وبلد حرام.
قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقونه».
ثم قال: «اسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفس منه، ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب كان مستعرضا في بني سعد فقتلته هذيل، ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع، وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، ألا وإن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض».
ثم قرأ: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم» [التوبة: 36] ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكنه في التحريش بينكم، واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا، وإن لهن عليكم حقا ولكم عليهن حق أن لا يوطئن فرشكم أحد غيركم، ولا يأذن فيي بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها»
وبسط يده وقال: «ألا هل بلغت، ألا هل بلغت!».
ثم قال: «ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ أسعد من سامع».
قال حميد: قال الحسن حين بلغ هذه الكلمة: قد والله بلغوا أقواما كانوا أسعد به.
وقد روى أبو داود في كتاب النكاح من سننه عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي حرة الرقاشي - واسمه: حنيفة - عن عمه ببعضه في النشوز.
قال ابن حزم: جاء أنه خطب يوم الرؤوس، وهو اليوم الثاني من يوم النحر بلا خلاف عن أهل مكة، وجاء أنه أوسط أيام التشريق فيحتمل على أن أوسط بمعنى أشرف.
كما قال تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا». [البقرة: 143] .
وهذا المسلك الذي سلكه ابن حزم بعيد، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الوليد بن عمرو بن مسكين، ثنا أبو همام محمد بن الزبرقان، ثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار وصدقة بن يسار، عن عبد الله بن عمر قال: نزلت هذه السورة على رسول الله ﷺ بمنى وهو في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع: { إذا جاء نصر الله والفتح } فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له، ثم ركب فوقف الناس بالعقبة فاجتمع إليه ما شاء الله من المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد أيها الناس، فإن كل دم كان في الجاهلية فهو هدر، وإن أول دمائكم أهدر دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل، وكل ربا في الجاهلية فهو موضوع، وإن أول رباكم أضع ربا العباس بن عبد المطلب، أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر منها أربعة حرم رجب مضر - الذي بين جمادى وشعبان، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم { ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } الآية [التوبة: 36] .
{ إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله } [التوبة: 37] كانوا يحلون صفرا عاما، ويحرمون المحرم عاما، ويحرمون صفرا عاما، ويحلون المحرم عاما، فذلك النسئ.
يا أيها الناس من كان عنده وديعة فليؤدها الى من ائتمنه عليها، أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان، وقد يرضى عنكم بمحقرات الأعمال فاحذروه على دينكم بمحقرات الأعمال، أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، لكم عليهن ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يعصينكم في معروف، فإن فعلن ذلك فليس عليهن سبيل، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، فإن ضربتم فاضربوا ضربا غير مبرح، ولا يحل لامرء من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه.
أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله فاعملوا به، أيها الناس أي يوم هذا؟».
قالوا: يوم حرام.
قال: «فأي بلد هذا؟»
قالوا: بلد حرام.
قال: «أي شهر هذا؟»
قالوا: شهر حرام.
قال: «فإن الله حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة هذا اليوم، في هذا البلد وهذا الشهر، ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم».
ثم رفع يديه فقال: «اللهم اشهد».