الفتاوى الكبرى/باب القضاء
باب القضاء
وقد أوجب النبي ﷺ تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر فهو تنبيه على أنواع الاجتماع والواجب اتخاذه ولاية القضاء دينا وقربة فإنها من أفضل القربات وإنما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها ومن فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه وما يستفيده المتولي بالولاية لأحد له شرعا بل يتلقى من اللفظ والأحوال والعرف وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعا والولاية لها ركنان القوة والأمانة فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل بتنفيذ الحكم والأمانة ترجع إلى خشية الله تعالى
ويشترط في القاضي أن يكون ورعا والحاكم فيه صفات ثلاث فمن جهة الإثبات هو شاهد ومن جهة الأمر والنهي هو صفة ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد لأنه لا بد أن يحكم بعدل ولا يجوز الاستفتاء إلا ممن يفتي بعلم وعدل وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره فيولي لعدمه أنفع الفاسقين وأقلهما شرا وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع وفيما ندر حكمه ويخاف فيه الاشتباه إلا علم
وأكثر من يميز في العلم من المتوسطين إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام ترجح عنده أحدهما لكن قد لا يثق بنظره بل يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه فالواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة إذا ترجح عنده أحدهما قلده والدليل الخاص الذي يرجح به قول على قول أولى بالأتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأدين وعلم الناس بترجيح قول على قول أيسر من علم أحدهمبأن أحدهما أعلم وأدين لأن الحق واحد ولا بد ويجب أن ينصب على الحكم دليلا وأدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع وتكلم الصحابة فيها وإلى اليوم بقصد حسن بخلاف الإمامية
وقال أبو العباس: النبيه الذي سمع اختلاف العلماء وأدائهم في الجملة وعنده ما يعرف به رجحان القول وليس للحاكم وغيره أن يبتدئ الناس بقهوهم على ترك ما يشرع وألزامهم برأيه اتفاقا ولو جاز لغيره مثله وأفضى إلى التفرق والاختلاف وفي لزوم التمذهب بمذهب وامتناع الانتقال إلى غيره وجهان في مذهب أحمد وغيره وفي القول بلزوم طاعة غير النبي ﷺ في كل أمره ونهيه وهو خلاف الإجماع وجوازه فيه ما فيه ومن أوجب تقليد إمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قتل وإن قال ينبغي كان جاهلا ضالا ومن كان متبعا لإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم وأتقى فقد أحسن
وقال أبو العباس: في موضع آخر بل يجب عليه وإن أحمد نص عليه ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع وكره العلماء الأخذ بالرخص ولا يجوز التقليد مع معرفة الحكم اتفاقا وقبله لا يجوزعلى المشهور إلا أن يضيق لوقت ففيه وجهان أو يعجز عن معرفة الحق بتعارض الأدلة ففيه وجهان فهذه أربع مسائل والعجز قد يعني به العجز الحقيقي وقد يعني به المشقة العظيمة والصحيح الجواز في هذين الموضعين والقضاء نوعان أخبار هو إظهار وإبداء وأمر هو إنشاء وابتداء
فالخبر ثبت عندي ويدخل فيه خبره عن حكمة وعن عدالة الشهود وعن الإقرار والشهادة والآخر وهو حقيقة الحكم أمر ونهي وإباحة ويحصل بقوله أعطه ولا تكلمه أو الزمه وبقوله حكمت وألزمت
قال الحاكم: ثبت عندي بشهادتهما فهذا فيه وجهان أحدهما أن ذلك حكم كما قاله ابن عقيل وغيره وفعل الحاكم حكم في أصح الوجهين في مذهب أحمد وغيره والوكالة يصح قبولها على الفور والتراخي بالقول والفعل والولاية نوع منها قال القاضي في التعليق إذا استأذن امرأة في غير عمله ليزوجها فأذنت له فزوجها في عمله لم يصح العقد لأن إذنها يتعلق بالحكم وحكمه في غير علمه لا ينفذ فإن قالت إذا حصلت في عملك فقد أذنت لك فزوجها في عمله صح بناء على جواز تعليق الوكالة بالشرط ومن شرط جواز العقد عليها أن تكون في عمله حين العقد عليها فإن كانت في غير محله لم يصح عقده لأنه حكم على من ليس في عمله
قال أبو العباس: لا فرق بين أن تقول زوجني إذا صرت في عملك أو إذا صرت في عملك فزوجني لأن تقييد الوكالة أحسن حالا من تعليق نعم لو قالت زوجني الآن أو فهم ذلك من أذنها فهنا أذنت لغير قاض وهذا هو مقصود القاضي قال في المحرر ويجوز أن يولي قاضيين في بلد واحد وقيل إن ولاهما فيه عملا واحدا لم يجز
قال أبو العباس: تولية قاضيين في بلد واحد إما أن يكون على سبيل الاجتماع بحيث ليس لأحدهما الإنفراد كالوصيين والوكيلين وإما على طريق الإنفراد أما الأول فليس هو مسألة الكتاب ولا مانع منه إذا كان فوقهما من يرد مواضع تنازعهما وأما الثاني فهو مسألة الكتاب وتثبت ولاية القضاء بالأخبار وقصة ولاية عمر بن عبد العزيز هكذا كانت وإذا استناب الحاكم في الحكم من غير مذهبه إن كان لكونه أرجح فقد أحسن وإلا لم تجز الإستنابة وإذا حكم أحد الخصمين خصمه جاز لقصة ابن مسعود وكذا مفت في مسألة اجتهادية وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما أو يكفي وصف القصة له الأشبه أنه لا يفتقر بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزمه فإن أراد أحدهما الامتناع فإن كان قبل الشروع فينبغي جوازه وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود
قال القاضي في التعليق وعلى أن الحدود تدخل في ولاية القضاء فمن لا يصلح لبعض ما تتضمنه الولاية لا يصلح لشيء منها ولا تنعقد الولاية له
قال أبو العباس: وكلام أحمد في تزويج الدهقان وتزويج الوالي صاحب الحسير يخالف هذا ولاية القضاء يجوز تبعيضها ولا يجب أن يكون عالما بما في ولايته فإن منصب الاجتهاد ينفسم حتى لو ولاه في المواريث لم يجب أن يعرف إلا الفرائض والوصايا وما يتعلق بذلك وإن ولاه عقد الأنكحة وفسخها لم يجب أن يعرف إلا ذلك وعلى هذا فقضاة الأطراف يجوز أن لا يقضي في الأمور الكبار والدماء والقضايا المشكلة وعلى هذا فلو قال اقض فيما تعلم كما يقول له أفت فيما تعلم جاز ويبقى ما لا يعلم خارجا عن ولايته كما يقول في الحاكم الذي ينزل على حكمه الكفار وف الحاكم في جزاء الصيد قال في المحرر وغيره ويشترط في القاضي عشر صفات
قال أبو العباس: هذا الكلام إنما اشترطت هذه الصفات فيمن يولي لا فيمن يحكمه الخصمان وذكر القاضي أن الأعمى لا يجوز قضاؤه وذكره محل وفاق قال وعلى أنه لا يمتنع أن يقول إذا تحاكما به ورضيا به جاز حكمه
قال أبو العباس: هذا الوجه قياس المذهب كما يجوز شهادة الأعمى إذ لا يعوزه إلا معرفة عين الخصم ولا يحتاج إلى ذلك بل يقضي على موصوف كما قضى داود بين المالكين ويتوجه أن يصح مطلقا ويعرف بأعيان الشهود والخصوم كما يعرف بمعاني كلامهم في الترجمة إذ معرفة كلامه وعينه سواء وكما يجوز أن يقضي على غائب باسمه ونسبه وأصحابنا قاسوا شهادة الأعمى على الشهادة على الغائب والميت وأكثر ما في الموضعين عند الرواية والحكم لا يفتقر إلى الرؤية بل هذا في الحاكم أوسع منه في الشاهد بدليل الترجمة والتعريف بالحكم دون الشهادة وما به يحكم أوسع مما به يشهد ولا تشترط الحرية في الحاكم واختاره أبو الخطاب وابن عقيل قال وفي المحرر وفي العزل حيث قلنا به قبل العلم وجهان كالوكيل
قال أبو العباس: الأصوب أنه لا ينعزل هنا وإن قلنا ينعزل الوكيل لأن الحق في الولاية لله وإن قلنا هو وكيل والنسخ في حقوق الله لا يثبت قبل العلم كما قلنا على المشهور أن نسخ الحكم لا يثبت في حق من لم يبلغه وفرقوا بينه وبين الوكيل بأن أكثر ما في الوكيل ثبوت الضمان وذلك لا ينافي الجهل بخلاف الحكم فإن فيه الإثم وذلك ينافي الجهل كذلك الأمر والنهي وهذا هو المنصوص عن أحمد ونص الإمام أحمد على أن للقاضي أن يستخلف من غير إذن الإمام فرقا بينه وبين الوكيل وجعلا له كالوصي إلا أنه لا يكره للحاكم شراء ما يحتاجه في مظنة المحاباة والاستغلال والتبدل قال القاضي في التعليق قاسه المخالف على الوصي في مباشرة البيع فإنه لا يحابي في العادة والقاضي بخلافه ولا يكره له البيع في مجلس فتياه ولا يكره له قبول الهدية بخلاف القاضي
قال أبو العباس: هذا فيه نظر وتفصيل فإن العالم في هديته ومعاملته شبيه بالقاضي وفيه حكايات عن أحمد والعالم لا يعتاض على تعليمه والقضاة ثلاثة من يصلح ومن لا يصلح والمجهول فلا يرد من أحكام من يصلح إلا ما علم أنه باطل ولا ينفذ من أحكام من لا يصلح إلا ما علم أنه حق واختار صاحب المغني وغيره إن كان توليته ابتداء وأما المجهول فينظر فيمن ولاه وإن كان يولي هذا تارة وهذا تارة نفذ ما كان حقا ورد الباطل والباقي موقوف وبين لا يصلح إذا للضرورة ففيه مسألتان:
إحداهما: على القول بأن من لا يصلح تنقض جميع أحكامه هل ترد أحكام هذا كلها أم يرد ما لم يكن صوابا والثاني المختار لأنها ولاية شرعية
والثانية: هل تنفذ المجتهدات من أحكامه أم يتعقبها العالم العادل هذا فيه نظر وإن أمكن القاضي أن يرسل إلى الغائب رسولا ويكتب إليه الكتاب والدعوى ويجاب عن الدعوى بالكتاب والرسول فهذا هو الذي ينبغي كما فعل النبي ﷺ بمكاتبة اليهود لما ادعى الأنصاري عليهم قتل صاحبهم وكاتبهم ولم يحضروه وهكذا ينبغي أن في كل غائب طلب إقراره أو إنكاره إذا لم يقم الطالب بينة وإن أقام بينة فمن الممكن أيضا أن يقال إذا كان الخصم في البلد لم يجب عليه حضور مجلس الحاكم بل يقول أرسلوا إلى من يعلمني بما يدعي به علي وإذا كان لا بد للقاضي من رسول إلى الخصم يبلغه الدعوى ورد الجواب بإقرار أو إنكار وهذا نظير ما نص عليه الإمام أحمد من أن النكاح يصح بالمراسلة مع أنه في الحضور لا يجوز تراخي القبول عن الإيجاب تراخيا كثيرا ففي الدعوى يجوز أن يكون واحدا لأنه نائب الحاكم كما كان أنيس نائب النبي ﷺ في إقامة الحد بعد سماع الاعتراف أو يخرج على المراسلة من الحاكم إلى الحاكم وفيه روايتنا فينظر في قضيته خبيرا
قال أبو العباس: فما ودت إلا واحدا ثم وجدت هذا منصوصا عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب فإنه نص فيها على أنه قام بينة بالعين المودعة عند رجل سلمت إليه وقضى على الغائب قال: ومن قال بغير هذا يقول له أن ينتظر بقدر ما يذهب للكتاب ويجيء فإن جاء وإلا أخذ الغلام المودع وكلامه محتمل تخيير الحاكم بين أن يقضي على الغائب وبين أن يكاتبه في الجواب
باب الحكم وصفته
ومسألة تحرير الدعوى وفروعها ضعيفة لحديث الحضرمي في دعواه على الآخر أرضا غير موصوفة وإذا قيل لا تسمع الدعوى إلا محررة فالواجب أن من ادعى مجملا استفصله الحاكم
وظاهر كلام أبي العباس صحة الدعوى على المهم كدعوى الأنصار قتل صاحبهم ودعوى المستروق منه على بني أبيرق وغيرهم ثم المبهم قد يكون مطلقا وقد ينحصر في قوم كقولهم انكحني أحدهما وزوجني أحدهما
والثبوت المحض يصح بلا مدعى عليه وقد ذكره قوم من الفقهاء وفعله طائفة من القضاة وسمعت الدعوى في الوكالة من غير حضور الخصم المدعى عليه ونقله ههنا عن أحمد ولو كان الخصم في البلد وتسمع دعوى الاستيلاد وقاله أصحابنا وفسره القاضي بأن يدعى استيلاد أمة فتنكره
وقال أبو العباس: بل هي المدعية ومن ادعى على خصمه أن بيده عقارا استغله مدة معينة وعينه وإنه استحقه فأنكر المدعى عليه واقام المدعي بينة باستيلائه لا باستحقاقه لزم الحاكم إثباته والشهادة به كما لزم البينة أن تشهد به لأنه كفرع مع أصل وما لزم أصلا الشهادة به لزم فرعه حيث يقبل ولو لم تلزم إعانة مدع بإثبات وشهادات ونحو ذلك إلا بعد ثبوت استحقاقه لزم الدور بخلاف الحكم ثم إن أقام بينة بأنه هو المستحق أمر بإعطائه ما ادعاه وإلا فهو كمال مجهول يصرف في المصالح ومن بيده عقار فادعى رجل بثبوته عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته ثم إلى ورثته ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته ثم إلى ورثته ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه لا ينزع منه بذلك لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق
ولو شهدت له بينة بملكه إلى حين وقفه وأقام وارث بينة أم مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه قدمت بينة الوارث أن مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه لأن معها زيادة علم كتقديم من شهد له بأنه اشتراه من أبيه على من شهد له بأنه ورثه من أبيه قال القاضي إذا ادعى على رجل ألفا من ثمن مبيع أو قرض أو غصب فقال لا يستحق علي شيئا ولم أغصبه فهل يكون جوابا يحلف عليه على وجهين:
أحدهما: هو جواب صحيح يحلف عليه
والثاني: ليس بجواب صحيح يحلف عليه لأنه يحتمل أن يكون غصبه ثم رده عليه أو أقرضه ثم رده عليه أو باعه ثم رده إليه
قال أبو العباس: إنما يتوجه الوجهان في أن الحاك هل يلزمه بهذا الجواب أم لا وأما صحته فلا ريب فيها وقياس المذهب أن الإجمال ليس بجواب صحيح لأن المطلوب قد يعتقد أنه ليس عليه الجهل أو تأويل ويكون واجبا عليه في نفس الأمر أو في مذهب الحاكم ويمين المدعي بمنزلة الشاهد وكما لا يشهد بتأويل أو جهل ومن أصلنا إذا كان له علي ثم أوفيته لم يكن مقرا فلا ضرر عليه في ذلك إلا إذا قلنا بالرواية الضعيفة فقد أطلق أحمد التعديل لي موضع فقال عبد الله سألت أبي عن أبي يغفور العبدي فقال ثقة قال داود لأحمد الأسود بن قيس فقال ثقة
قال أبو العباس: وعلى هذه الطريقة فكل لفظ يحصل به تعديل الشهود مثل أن يقول الناس فيه لا نعلم إلا خيرا كما نقل عن شريح وسوار وغيرهما ثم وجدت القاضي قد احتج في المسألة بأن عمر سأل رجلا عن رجل فقال لا نعلم إلا خيرا وعلى هذا فلا يعتبر لفظ الشهادة وإن أوجبنا اثنين لأن هذا من باب الاجتهاد بمنزلة تقويم المقوم والقائف لأنه من باب المسموع ومثله المزكي والتفليس والرشد ونحوها فإن هذا كله إثبات صفات اجتهادية ويقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة قول عدل واحد وهو رواية عن أحمد
ويقبل الجرح والتعديل باستفاضة ومقتضى تعليل القاضي أنه لو قال المزكي هو عدل لكن ليس على أنه يقبل مطلقا مثل أن يكون عدو المعدل وشهادة العدو لعدوه مقبولة فوجود العداوة لا يمنع التزكية وإن لم تقبل شهادته على المزكي وإذا كان المدعي به مما يعلمه المدعى عليه فقط مثل أن يدعي الورثة أو الوصي على غريم للميت فيزكي قضى عليه بالنكول وإن كان مما يعلمه المدعي كالدعوى على ورثة ميت حقا عليه يتعلق بتركته وطلب من المدعي اليمين على البتات فإن لم يحلف لم يأخذ وإن كان كل منهما يدعي العلم أو طلب من المطلوب اليمين على نفي العلم فهنا يتوجه القولان
والقول بالرد أرجح وأصله أن اليمين ترد على جهة أقوى المتداعيين المجاحدين ولو وصى لطفلة صغيرة تحت نظر أبيها دون الثلث وتوفيت الموصية وقتل والد الطفلة فيحكم للطفلة بمايثبت لها في الوصية ولا يحلف والدها ولا يوقف الحكم إلى بلوغها وخلقها بلا نزاع بل أبلغ من هذا لو ثبت للصبي أو المجنون حق على غائب بما لو كان المستحق بالغا عاقلا لحلف على عدم الإبراء والاستيفاء في أحد الوجهين يحكم به للصبي والمجنون ولا يحلف وليه كما نص عليه العلماء
ولم يذكر العلماء تحليف البالغ الموصى له في الوصية وإنما أخذ به بعض الناس قال الإمام أحمد في رواية مهنا في الرجل يقيم الشهود أيستقيم للحاكم أن يقول أحلف فقال قد فعل ذلك علي ويقيم ذلك قال إن فعل ذلك علي وقال في رواية إبراهيم بن الحارث في رجل جاء بشهود على حق فقال المدعى عليه أستلحفه لم يلزم المدعي اليمين فحمل القاضي الرواية الأولى على ما إذا لو ادعى على صبي أو مجنون أو غائب والثانية على ما إذا ادعى على غيره
وحمل أبو العباس الرواية الأولى على أن للحاكم أن يفعل ذلك إذا أراد مصلحة لظهور ريبة في الشهور لأنه يجب مطلقا والثانية لا يجب مطلقا فلا منافاة بين الروايتين كما قلنا في تفريق الشهود بين أين وحتى وكيف فإن الحاكم يفعل الحاكم يفعل ذلك عند الريبة ولا يجب فعله في كل شهادة وكذلك تغليظ اليمين للحاكم أن يفعله عند الحاجة
اختلفت الرواية عن أحمد فيما لو حكم الحاكم بما يرى المحكوم له تحريمه فهل يباح بالحكم على روايتين والتحقيق في هذا أنه ليس للرجل أن يطلب من الإمام ما يرى أنه حرام ومن فعل هذا فقد فعل ما يعتقد تحريمه وهذا لا يجوز لكن لو كان الطالب غيره أو ابتدأ الإمام بحكمه أو قسمه فهنا يتوجه القول بالحل قال أصحابنا ولا ينقض الحاكم حكم نفسه ولا غيره إلا أن يخالف نصا أو إجماعا
قال أبو العباس: يفرق في هذا بما إذا استوفى المحكوم له الحق الذي ثبت له من مال أو لم يستوف فإن استوفى فلا كلام وإن لم يستوف فالذي ينبغي نقض حكم نفسه والإشارة على غيره بالنقض وليس للإنسان أن يعتقد أحد القولين في مسائل النزاع فيما له والقول الآخر فيما عليه باتفاق المسلمين كما يعتقد أنه إذا كان جارا استحق شفعة الجوار وإذا كان مشتريا لم يجب عليه شفعة الجوار والقضية الواحدة المشتملة على أشخاص أو أعيان فهل للحاكم أن يحكم على شخص أو له بخلاف ما حكم هو أو غيره لشخص آخر أو عليه أو عين مثل أن يدعي في مسألة الحمارية بعض ولد الأبوين فيقضي له بالتشريك ثم يدعى عنده فيقضي عليه بنفي التشريك أو يكون حاكم غيره قد حكم بنفي التشريك لشخص أو عليه فيحكم هو بخلافه فهذا ينبني على أن الحكم لأحد الشريكين أو الحكم عليه حكم عليه وله وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لكن هناك يتوجه أن يبقى حق الغائب فيما طريقه الثبوت لتمليكه من قدح الشهود ومعارضته
أما إذا كان طريقة الفقه المحض فهنا لا فرق بين الخصم الحاضر والغائب ثم لو تداعيا في عين من الميراث فهل يقول أحد أن الحكم باستحقاق عين معينة لا يمنع الحكم بعدم استحقاق العين الأخرى مع اتخاذ حكمها من كل وجه هذا لا يقوله أحد يوضح ذلك أن الأمة اختلفت في هذه المسألة على قولين قائل يقول يستحق جميع ولد الأبوين جميع التركة وقائل يقول لاحق لواحد منهم في شيء منها فلو حكم حاكم في وقتين أو حاكمان باستحقاق البعض أو استحقاقهم للبعض لكان قد حكم في هذه القضية بخلاف الإجماع وهذا قد يفعله بعض قضاة زماننا لكن هو ظنين في علمه ودينه بل ممن لا يجوز توليته القضاء ويشبه هذا طبقات الوقف أو أزمنة الطبقة فإذا حكم حاكم بأن هذا الشخص مستحق لهذا المكان من الوقف ومستحق الساعة بمقتضى شرط شامل لجميع الأزمنة فهو كالميراث
وأما إن حكم باستحقاق تلك الطبقة فهل يحكم للطبقة الثانية إذا اقتضى الشرط لهما وأخذ هذا فيه نظر من حيث أن تلقي كل طبقة من الواقف في زمن حدوثها شبيه بما لو مات عتيق شخص فحكم حاكم بميراثه المال وذلك أن كل طبقة من أهل الوقف تستحق ما حدث لها من أهل الوقف يستتحق ما حدث لها من الوقف عند وجودها مع أن كل عصبة تستحق ميراث المعتقين عند موتهم والأشبه المسألتين ما لو حكم حاكم في عتيق بأن ميراثه للأكبر ثم توفي ابن ذلك العتيق الذي كان محجوبا عن ميراث أبيه فهل لحاكم آخر أن يحكم بميراثه لغير الأكبر هذا يتوجه هنا وفي الوقف مما يترتب الإستحقاق فيه بخلاف الميراث ونحوه مما يقع مشتركا في الزمان
نقل الشيخ أبو محمد في الكافي عن أبي الخطاب أن الشهود إذا بانوا بعد الحكم كافرين أو فاسقين وكان المحكوم به إتلافا فإن الضمان عليهم دون المزكين والحاكم قال لأنهم فوتوا الحق على مستحقه بشهادتهم الباطلة
قال أبو العباس: هذا يبنى على أن الشاهد الصادق إذا كان فاسقا أو متهما بحيث لا يحل للحاكم الحكم بشهادته هل يجوز له أداء الشهادة إن جاز له أداء الشهادة بطل قول أبي الخطاب وإن لم يجز كان متوجها لأن شهادتهم حينئذ فعل محرم وإن كانوا صادقين كالقاذف الصادق وإذا جوزنا للفاسق أن يشهد جوزنا للمستحق أن يستشهده عند الحاكم ويكتم فسقه وإلا فلا وعلى هذا فلو امتنع الشاهد الصادق العدل أن يؤدي الشهادة إلا بجعل هل يجوز إعطاؤه الجعل إن لم يجعل ذلك فسقا فعلى ما ذكرنا قال صاحب المحرر وعنه لا ينتقض الحكم إذا كانا فاسقين ويغرم الشاهدان المال لأنهما سبب الحكم بشهادة ظاهرها اللزوم
قال أبو العباس: وهذا يوافق قول أبي الخطاب ولا فرق إلا في تسميته ضمانهما نقضا وهذا لا أثر له لكن أبو الخطاب يقوله في الفاسق وغير الفاسق على ما حكى عنه وهذا الرواية لا تنوجه على أصلنا إذا قلنا الجرح المطلق لا ينقض وكان جرح البينة مطلقا فإنه اجتهاد فلا ينتقض به اجتهاد ورواية عدم النقض أخذها القاضي من رواية الميموني عن أحمد في رجلين شهدا ههنا أنهما دفنا فلانا بالبصرة فقسم ميراثه ثم إن الرجل جاء بعد وقد تلف ماله قد بين للحاكم أنهما شهدا على زور أيضمنهما ماله قال وظاهر هذا أنه لم ينقض الحكم لأنه لم يغرم الورثة قيمة ما أتلفوه من المال بل أغرم الشاهدين ولو نقضه لا غرم الورثة ورجعوا بذلك على الشهود لأنهم معذورون فيكون قوله يضمنهما يعني الورثة
قال أبو العباس: النقض في هذه الصورة لا خلاف فيه فإن تبين كذب الشاهد غير تبين فسقه فقول أحمد إما أن يكون ضمانا في الجملة كسائر المتسببين أو يكون استقرارا كما دلت عليه أكثر النصوص من أن المعذور لا ضمان عليه ولو زكى الشهود ثم ظهر فسقهم ضمن المزكون وكذلك يجب أن يكون في الولاية لو أراد الإمام أن يولي قاضيا أو واليا لا يعرفه فسأل عنه فزكاه أقوام ووصفوه بما يصلح معه للولاية ثم رجعوا أو ظهر بطلان تزكيتهم فينبغي أن يضمنوا ما أفسده الوالي والقاضي
وكذلك لو أشاروا عليه وأمروا بولايته لكن الذي لا ريب في ضمانه من تعهد المعصية منه مثل الخيانة أو العجز ويخبر عنه بخلاف ذلك أو يأمر بولايته أو يكون لا يعلم حاله ويزكيه أو يشير له فأما أن اعتقد صلاحه وأخطأ فهذا معذور والسبب ليس محرما وعلى هذا فالمزكي للعامل من المقترض والمشتري والوكيل كذلك
وأخبار الحاكم أنه ثبت عندي بمنزلة أخباره أنه حكم به أما إن قال شهد عندي فلان أوقر عندي فهو بمنزلة الشاهد سواء فإنه في الأول تضمن قوله ثبت عندي الدعوى والشهادة والعدالة والإقرار وهذا من خصائص الحكم بخلاف قوله شهد عندي أو أقر عندي فإنما يقتضي الدعوى وخبره في غير محل ولايته كخبره في غيره زمن ولايته ونظير أخبار القاضي بعد قوله أخبار أمير الغزو أو الجهاد بعد عزله بما فعله
ومن كان له عند إنسان حق ومنعه إياه جاز له الأخذ من ماله بغير إذنه إذا كان سب الحق ظاهرا لا يحتاج إلى إثبات مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها واستحقاق الأقارب النفقة على أقاربهم واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به وإن كان سب الحق خفيا يحتاج إلى إثبات لم يجز وهذه الطريقة المنصوصة عن الإمام أحمد وهي أعدل الأقوال
كتاب القاضي إلى القاضي
ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص وهو قول مالك وأبي ثور في الحدود وقول مالك والشافعي وأبي ثور ورواية عن أحمد في القصاص والمحكوم إذا كان عينا في بلد الحاكم فإنه يسلمه إلى المدعي ولا حاجة إلى كتاب وأما إن كان دينا أو عينا في بلد أخرى فهنا يقف على الكتاب وههنا ثلاث مسائل متداخلات مسألة إحضار الخصم إذا كان غائبا ومسألة الحكم على الغائب ومسألة كتاب القاضي إلى القاضي ولو قيل إنما نحكم على الغائب إذا كان المحكوم به حاضرا لأن فيه فائقة وهي تسليمه
وأما إذا كان المحكوم به غائبا فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عنده من شهادة الشهود حتى يكون الحكم في بلد التسليم لكان متوجها وهل يقبل كتاب القاضي بالثبوت أو الحكم من حاكم غير معين مثل أن يشهد شاهدان أن حاكما نافذ الحكم حكم بكذا وكذا القياس أنه لا يقل بخلاف ما إذا كان المكاتب معروفا لأن مراسلة الحاكم ومكاتبته بمنزلة شهادة الأصول للفروع وهذا لا يقبل في الحكم والشهادات وإن قبل في الفتاوى والأخبارات
وقد ذكر صاحب المحرر: ما ذكره القاضي من أن الخصمين إذا أقر بحكم حاكم عليهما خير الثاني بين الامضاء والاستئناف لأن ذلك بمنزلة قول الخصم شهد على شاهدان ذوي عدل فهنا قد يقال بالتخيير أيضا ومن عرف خطه بإقراره أو إنشاء أو عقد أو شهادة عمل به كالميت فإن حضر وأنكر مضمونه فكاعترافه بالصوت وإنكار مضمونه وللحاكم أن يكتب للمدعى عليه إذا ثبت براءته محضرا بذلك إن تضرر بتركه وللمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها باتفاق
باب القسمة
وما لا يمكن قسم عينه إذا طلب أحد الشركاء بيعه وقسم ثمنه بيع وقسم ثمنه وهو المذهب المنصوص عن أحمد في رواية الميموني وذكره الأكثرون من الأصحاب فيقال على هذا إذا وقف قسطا مشاعا مما لا يمكن قسمة عينه فأنتم بين أمرين إما بيع النصيب الموقوف وإما إبقاء شركة لازمة وجوابه إما الفرق أو إما الالتزام أما الفرق فيقال الوقف منع من نقل الملك في العين فلا ضرر في شركة عينه وما الشركة في المنافع فيزول بالمحاباة أو المؤاجرة عليهما والالتزام أن يجوز مثل هذا أو جعل الوقف مفرزا تقديما لحق الشريك كما لو طلب قسمة العين وأمكن فإنا نقدم حق الإقرار على حق الوقف ومن قال هذا فينبغي له أن يقول بقسم الوقف وإن قلنا القسمة بيع ضرورة وقد نص أحمد على بيع الشائعة في الوقف والاعتياض عنها ومن تأمل الضرر الناشئ من الاشتراك في الأموال الموقوفة لم يخف عليه هذا ولو طلب أحد الشريكين الإجارة أجبر الآخر معه ذكره الأصحاب في الوقف
ولو طلب أحدهم العلو لم يجب بل يكري عليهما على مذهب جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وإذا أوجبنا على الشريك أن يؤاجر مع صاحبه فأجر أحد الشريكين العين المؤجرة بدون إذن شريكه مدة فينبغي أن يستحق أكثر الأمرين من أجرة المثل والأجرة المسماة لأن الأجرة المسماة إذا كانت أكثر فالمستأجر رضي أن ينتفع بها وعلى قياس ذلك كل من اكترى مال غيره بغير إذنه ويلزم إجابة من طلب المحاباة بالزمان والمكان وليس لأحدهما أن يفسخ حتى ينقضي الدور ويستوفي كل واحد منهما حقه منه ولو استوفى أحدهما نوبته ثم تلفت المنافع في مدة الإجارة فإنه يرجع على الأول ببدل حصته من تلك المدة التي استوفاها ما لم يكن قد رضي بمنفعة الرهن التأخر على أي حال كان جعلا للتألف قبل القبض كالتالف في الإجارة وسواء قلنا القسمة إفراز أو بيع فإن المعادلة معتبرة فيها على القولين فلهذا يثبت فيها خيار البيع والتدليس
وإذا كان بينهما أشجار فيها الثمرة أو أغنام فيها اللبن أو الصوف فهو كاقتسام الماء الحادث والمنافع الحادثة وجماع ذلك انقسام المعدوم لكن لو نقص الحادث المعتاد فللآخر الفسخ قال القاضي رأيت في تعليق أبي حفص العكبري عن أبي عبد الله بن بطة في قوم بينهم كروم فيها ثمرة لم تبلغ مثلي الحصرم فأرادوا قسمتها فقال لا تجوز قسمتها وفيها غلة لم تقلع لأن القسمة لا تجوز إلا بالقيمة القسمة كالبيع وكما لا يجوز بيعه كذلك لا تجوز قسمته قال وهذا يدل من كلام أحمد على أنها بيع
قال أبو العباس: هذا من ابن بطة يقتضي أن بيع الشجر الذي عليه ثمرة لم تبلغ لا يصح لتضمنة بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وهو خلاف المعروف من المذهب وخلاف قوله من باع ثمرة قد أبرأت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ومفهوم كلامه أن الحصرم إذا بلغ جازت القسمة مع أنها إنما تقسم خرصا كأنه بيع شاة ذات لبن بشاة ذات لبن وعلى قياسه يجوز عنده بيع نخلة ذات رطب بنخلة ذات رطب لأن الربوي تابع وإذا طلب أحد الشركاء القسمة فيما يقسم لزم الحاكم إجابته ولو لم يثبت عنده أنه ملكه كبيع المرهون والجاني وكلام أحمد في بيع ما لا ينقسم وقسم ثمنه أم فيما يثبت عنده أنه ملكه وما لا يثبت كجميع الأموال التي تباع وإن مثل ذلك لو جاءته امرأة فزعمت أنها خلفه لأولى لها هل يزوجها بلا بينة
وقد نص أحمد في رواية حرب فيمن أقام بينة بسهم من ضيعة بيد قوم بعدا منه تقسم عليهم ويدفع إليه حقه فقد أمر الإمام أحمد الحاكم أن يقسم على الغائب إذا طلب الحاضر وإن لم يثبت ملك الغائب
والمكيلات والموزونات المتساوية من كل وجه إذا قسمت لا يحتاج فيها إلى قرعة نعم الابتداء بالكيل أو الوزن لبعض الشركاء ينبغي أن يكون بالقرعة ثم إذا خرجت القرعة لصاحب الأكثر فهل يوفى جميع حقه أو بقدر نصيب الأقل الأوجه أن يوفى الجميع كما يوفى مثله في العقار بين انصبائه لأن عليه في التفريق ضررا وحقه من جنس واحد بخلاف الحكومات فإن الخصم لا يقدم إلا بواحدة لعدم ارتباط بعضها ببعض نعم أن تعدد سبب استحقاقه مثل أن يكون ورث ثلث صبرة وابتاع ثلثها فهنا يتوجه وجهان وإذا تهايأ فلاحو القرية الأرض وزرع كل واحد منهم حصته فالزرع له ولرب الأرض نصيبه إلا من نزل من نصيب مالك فله أخذ أجرة الفضيلة أو مقاسمتها وأجرة وكيل القرى والأمين لحفظ الزرع على المالك والفلاح كسائر الأملاك فإذا أخذوا من الفلاح بقدرها عليه أو ما يستحقه الضيف حل لهم وإن لم يأخذ الوكيل لنفسه إلا قدر أجرة عمله بالمعروف والزيادة يأخذها المقطع فالمقطع هو الذي ظلم الفلاحين والموقف على جهة واحدة لا تقسم عنية اتفاقا والله أعلم
باب الدعاوى
ويجب أن يفرق بين فسق المدعى عليه وعدالته فليس كل مدعى عليه يرضى منه باليمين ولا كل مدع يطالب بالبينة فإن المدعي به إذا كان كبيرة والمطلوب لا تعلم عدالته فمن استحل أن يقتل أو يسرق استحل أن يحلف لا سيما عند خوف القتل أو القطع ويرجح باليد العرفية إذا استويا في الحشبة أو عدمها وإن كانت العين بيد أحدهما فمن شاهد الحال معه كان ذلك لونا فيحكم له بيمينه قال الأصحاب ومن ادعى أنه اشترى أو اتهب من زيد عبده وادعى وكذلك أو ادعى العبد العتق وأقام بينتين بذلك صححنا أسبق التصرفين إن علم التاريخ وإلا تعارضتا فيتساقطان أو يقتسم أويقرع على الخلاف وعن أحمد تقدم بينة العتق
قال أبو العباس: الأصوب أن البينتين لم يتعارضا فإنه من الممكن أن يقع العقدان لكن يكون بمنزلة ما لو زوج الوليان المرأة وجهل السابق فأما أن يقرع أو يبطل العقدان بحكم أو بغير حكم ولو قامت بينة بأن الولي أجر حصته بأجرة مثلها وبينة بنصفها أخذ بأعلى البينتين وقاله طائفة من العلماء قال في المحرر ولو شهد شاهدان أنه أخذ من صبي ألفا وشاهدان على رجل آخر أنه أخذ من الصبي ألفا لزم الولي أن يطالبهما بالألفين إلا أن تشهد البينتان على ألف بعينها فيطلب الولي ألفا من أيهما شاء
قال أبو العباس: الواجب أن يقرع هنا إذا لم يكن فعل كل منهما مضمنا نقل مهنا عن أحمد في عبد شهد له رجلان بأن مولاه باعه نفسه بألف درهم وشهد لمولاه رجل آخر أنه باعه بألفين يعتق العبد ويحلف لمولاه أنه لم يبعه إلا بألف قال القاضي فقد نص على الشاهد واليمين في قدر العوض الذي وقع العتق عليه
قال أبو العباس: بل اختلف الشاهدان وليس هذا مما يتكرر فليس للسيد أن يحلف مع شاهده الأكبر لاختلافهما كما لا يحلف مع شاهده بالقيمة الكثيرة قال أصحابنا ومن تغليظ اليمين بالمكان عند صخرة بيت المقدس وليس له أصل في كلام أحمد ونحوه من الأئمة بل السنة أن تغلظ اليمين فيها كما تغلظ في سائر المساجد عند المنبر والتغليظ بالمكان والزمان واللفظ لا يستحب على قول أبي البركات ويستحب على قول أبي الخطاب مطلقا وكلام أحمد في رواية الميموني يقتضي التغليظ مطلقا من غير تعليق باجتهاد الإمام ولنا قول ثالث يستحب إذا رآه الحاكم مصلحة ومتى قلنا التغليظ مستحب إذا رآه الحاكم مصلحة فينبغي أنه إذا امتنع منه الخصم صار ناكلا ولا يحلف المدعي عليه بالطلاق وفاقا
كتاب الشهادات
الشهادة سبب موجب للحق وحيث امتنع أداء الشهادة امتنعت كتابتها في ظاهر كلام أبي العباس والشيخ أبي محمد المقدسي ويجوز أخذ الأجرة على أداء الشهادة وتحملها ولو تعينت إذا كان محتاجا وهو قول في مذهب أحمد ويحرم كتمها ويقدح فيه ولو كان بيد إنسان شيء لا يستحقه ولا يصل إلى من يستحقه بشهادتهم لم يلزم أداؤها وإن وصل إلى مستحقه بشهادتهم لزم أداؤها وتعين الشهود متأول مجتهد والطلب العرفي أو الحال في طلب الشهادة كاللفظي علمها المشهود له أولا وهو ظاهر الخبر وخبر يشهد ولا يستشهد محمول على شهادة الزور وإذا أدى الآدمي شهادة قبل الطلب قام بالواجب أفضل كمن عنده أمانة أداها عند الحاجة والمسألة تشبه الخلاف في الحكم قبل الطلب وإذا غلب على ظن الشاهد أنه يمتحن فيدعي إلى القول المخالف للكتاب والسنة أو إلى محرم فلا يسوغ له أداء الشهادة وفاقا اللهم إلا أن يظهر قولا يريد به مصلحة عظيمة ويسهد بالاستفاضة ولو عن واحد تسكن نفسه إليه اختاره الجد قال القاضي لا تصح الشهادة لمجهول ولا بمجهول
قال أبو العباس: وفي هذا نظر بل تصح الشهادة بالمجهول ويقتضي له بالمتيقن وللمجهول يصح في مواضع كثيرة أما حيث يقع الحق مجهولا فلا ريب فيها كما لو شهد بالوصية بمجهول أو لمجهول أو شهد باللقطة أو اللقيط والمجهول نوعان مبهم كأحد هذين ومطلق كبعد وكذلك في البيع والإجارة والصداق كما قلنا في الواجب المخير والمطلق
قال أبو العباس: وقد سئلت عن بينة شهدت بوقف من دار معينة من دور ثم تهدمت وصارت عرصة فلم تعرف عين تلك الدار فيها السهم ولا عدد الدور فقلت يحتمل أن يقرع قرعتين قرعة لعدد الدور وقرعة لتعيين ذات السهم وكذلك في كل حق اختلط بغيره وجهلنا فيقرع فيكتب رقاعا بأسماء العدد أخرج لعدد الحق الفلاني
والشاهد يشهد بما يسمع وإذا قامت بينة تعين ما دخل في اللفظ قبلت ويتوجه أن الشهادة بالدين لا تقبل إلا مفسرة للنسب ولو شهد شاهدان أن زيدا يستحق من ميراث مورثه قدرا معينا أو من وقف كذا وكذا جزءا معينا أو أنه يستحق منه نصيب فلان ونحو ذلك فكل هذا لا تقبل فيه الشهادة إلا مع إثبات النسب لأن الإنتقال في الميراث والوقف حكم شرعي يدرك باليقين تارة وبالاجتهاد أخرى فلا تقبل حتى يتبين سبب الانتقال بأن يشهدا بشرط الواقف وبمن بقي من المستحقين أو يشهدا بموت المورث وبمن خلف من الورثة وحينئذ فإن رأى الحاكم أن ذلك السبب يفيد الانتقال حكم به وإلا ردت الشهادة وقبول مثل هذه الشهادات يوجب أن تشهد الشهود بكل حكم مجتهد فيه مما اختلف فيه أو اتفق عليه وأنه يجب على الحكام الحكم بذلك فتصير مذاهب الفقهاء مشهودا بها حتى لو قال الشاهد في مسألة الحمارية أشهد أن هذا يستحق من تركة الميت بناء على اعتقاده التشريك يتعين أن ترد مثل هذه الشهادة المطلقة
وقوله تعالى ممن ترضون من الشهداء يقتضي أنه يقبل في الشهادة على حقوق الآدميين من رضوه شهيدا بينهم ولا ينتظر إلى عدالته كما تكون مقبولا عليه فيما ائتمنوه عليه وقوله تعالى في آية الوصية { الوصية اثنان ذوا عدل } أي صاحبا عدل العدل في المقال هو الصدق والبيان الذي هو ضد الكذب والكتمان كما بينه الله تعالى في قوله: { وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى } والعدل في كل زمان ومكان وطائفة بحسبها فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدله على وجه آخر وبهذا يمكن الحكم بين الناس وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة أن لا يشهد عليهم إلا من يكون قائما بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كان الصحابة لبطلت الشهادات كلها أو غالبها
وقال أبو العباس: في موضع آخر إذا فسر الفاسق في الشهادة بالفاجر وبالمتهم فينبغي أن يفرق بين حال الضرورة وعدمها كما قلنا في الكفار
وقال أبو العباس: في موضع ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة مثل الحبس وحوادث البدو وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل وله أصول منها:
قبول شهادة أهل الذمة في الوصية وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجل وشهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه الرجال ويظهر ذلك بالمحتضر في السفر إذا حضره اثنان كافران واثنان مسلمان يصدقان وليسا بملازمين للحدود أو اثنان مبتدعان فهذان خير من الكافرين والشروط التي في القرآن إنما هي في استشهاد التحمل لا الأداء وينبغي أن نقول في الشهود ما نقول في المحدثين وهو أنه من الشهود من تقبل شهادته في نوع دون نوع أو شخص دون شخص كما أن المحدثين كذلك ونبأ الفاسق ليس بمردود بل هو موجب للتبين عند خبر الفاسق الواحد ولم يؤمر به عند خبر الفاسقين وذلك أن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد مالا يوجبه خبر الواحد أما إذا علم أنهما لم يتواطئا فهذا قد يحصل العلم وترد الشهادة بالكذبة الواحدة وإن لم نقل هي كبيرة وهو رواية عن أحمد ومن شهد على إقرار شرعية قدح ذلك في عدالته ولا يستريب أحد فيمن صلى محدثا أو إلى غير القبلة أو بعد الوقت أو بلا قراءة أنه كبيرة
ويحرم اللعب بالشطرنج وهو قول أحمد وغيره من العلماء كما لو كان بعوض أو تضمن ترك واجب أو فعل محرم إجماعا وهو شر من النرد وقاله مالك ومن ترك الجماعة فليس عدلا ولو قلنا هي سنة
وتحرم محاكاة الناس المضحكة ويعزر هو ومن يأمر به لأنه أذى ومن دخل قاعات العلاج فتح على نفسه باب الشر وصار من أهل التهم عند الناس لأنه اشتهر عمن اعتاد دخولها وقوعه في مقدمات الجماع أو فيه والعشرة المحرمة والنفقة في غير الطاعة وعلى كافر والأمرد منع منها ومن عشرة أهلها ولو بمجرد خوف وقوع الصغائر فقد بلغ عمر أن رجلا يجتمع إليه الأحداث فنهى عن الاجتماع به بمجرد الريبة
وتقبل شهادة الكافر على المسلم في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيره وهو مذهب أحمد ولا تعتبر عدالتهم وإن شاء لم يحلفهم بسبب حق الله ولو حكم حاكم بخلاف آية الوصاية لنقض حكمه فإنه خالف نص الكتاب بتأويلات سمعة
وقول أحمد أقبل شهادة أهل الذمة إذا كانوا في سفر ليس فيه غيرهم هذه ضرورة يقتضي هذا التعليل قبولها في كل ضرورة حضرا وسفرا وصية وغيرها وهو منحة كما تقبل شهادة النساء في الحدود إذا اجتمعن في العرس والحمام ونص عليه أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه ونقل ابن صدقة في الرجل يوصي بأشياء لأقاربه ويعتق ولا يحضره إلا النساء هل تجوز شهادتين في الحقوق
والصحيح قبول شهادة النساء في الرجعية فإن حضورهن عنده أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق وعن أحمد في شهادة الكفار في كل موضع ضرورة غير المنصوص عليه روايتان لكن التحليف هنا لم يتعرضوا له فيمكن أن يقال لا تحليف لأنهم إنما يحلفون حيث تكون شهادتهم بدلا في التحميل بخلاف ما إذا كانوا أصولا قد علموا من غير تحميل
قال أبو العباس في موضع آخر ولو قيل تقبل شهادتهم مع إيمانهم في كل شيء عدم فيه المسلمون لكان وجها وتكون شهادتهم بدلا مطلقا وإذا قبلنا شهادة الكفار في الوصية في السفر فلا يعتبر كونهم من أهل الكتاب وهو ظاهر القرآن وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وهو رواية عن أحمد اختارها أبو الخطاب في انتصاره ومذهب أبي حنيفة وجماعة من العلماء ولو قيل إنهم يحلفون مع شهادتهم بعضهم على بعض كما يحلفون في شهادتهم على المسلمين في وصية السفر لكان متوجها وشهادة الوصي على الميت مقبولة قال في المغني: لا نعلم فيه خلافا
قال أبو العباس: إلا أن يقال قد يستفيد بهذه الشهادة نوع ولاية في تسليم المال ومثله شهادة المودع أودعنيها فلان ومالكها فلان ومالكها فلان والواجب في العدو أو الصديق ونحوهما أنه إن علم منهما العدالة الحقيقية قبلت شهادتهما وأما إن كانت عدالتهما ظاهرة مع إمكان أن يكون الباطن بخلافه لم تقبل ويتوجه مثل هذا في الأب ونحوه وتقبل شهادة البدوي على القروي في الوصية في السفر وهو أخص من قول من قبل مطلقا أو منع مطلقا وعلل القاضي وغيره منع شهادة البدوي على القروي أن العادة أن القروي إنما يشهد على أهل القرية دون أهل البادية
قال أبو العباس: فإذا كان البدوي قاطنا مع المدعيين في القرية قبلت شهادته لزوال هذا المعنى فيكون قولا آخر في المسألة مفصلا
وقال أبو العباس: في قوم أجروا شيئا لا تقبل شهادة أحد منهم على المستأجر لأنهم وكلاء أو أولياء وتشترط الحرية في الشهادة وهو رواية عن أحمد والشهادة في مصرف الوقف مقبولة وإن كان مستندها الاستفاضة في أصح القولين
فصل
قال أحمد في رواية حرب من كان أخرس فهو أصم لا تجوز شهادته قيل له فإن كتبها قال لم يبلغني في هذا شيء واختار الجد قبول الكتابة ومنعها أبو بكر وقول أحمد فهو أصم لا تجوز شهادته لعدم سمعه فهذا منتف فيما رآه قال الأصحاب تجوز شهادة الأعمى في المسموعات وفي ما رآه قبل عماه إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه وإن لم يعرفه إلا بعينه فوجهان وكذلك الوجهان إذا تعذر حضور المشهود عليه أو به لموت أو غيبة أو حبس يشهد البصير على حليته إذ في الموضعين تعذرت الرؤية من الشاهد فأما الشاهد نفسه هل له أن يعين من رآه وكتب صفته أو ضبطها ثم رأى شخصا بتلك الصفة هذا أبعد وهو شبيه بخطه إذا رآه ولم يذكر الشهادة قال القاضي فإن قال الأعمى أشهد أن لفلان على هذا شيئا ولم يذكر اسمه ونسبه أو شهد البصير على رجل من وراء حائل ولم يدر اسمه ونسبه لم يصح وذكره محل وفاق
قال أبو العباس: قياس المذهب أنه إذا سمع صوته صحت الشهادة عليه أداء كما تصح تحملا فإنه لا يشترط رؤية المشهود عليه حين التحمل ولو كان حاضرا إذا سماه ونسبه وهو لا يشترط في أصح الوجهين فكذلك إذا أشار إليه لا تشترط رؤيته وعلى هذا فتجوز شهادة الأعمى على من سمع صوته وإن لم يعرف اسمه ونسبه ويؤديها عليه إذا سمع صوته ولا يشترط في أداء الشهادة لفظه أشهد وهو مقتضى قول أحمد قال علي بن المديني أقول على أن العشرة في الجنة ولا أشهد فقال أحمد: متى قلت فقد شهدت وقال ابن هانئ لأحمد تفرق بين العلم والشهادة في أن العشرة في الجنة قال لا
وقال الميموني: قال أبو عبد الله: وهل معنى القول والشهادة إلا واحد قال أبو طالب قال أبو عبد الله العلم شهادة وزاد أبو بكر بن حماد قال أبو حماد قال أبو عبد الله { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وقال وما شهدنا إلا بما علمنا وقال المروزي ظن أني سمعت أبا عبد الله يقول هذا جهل أقول فاطمة بنت رسول الله ﷺ ولا أشهد أنها بنت رسول الله ﷺ
قال أبو العباس: ولا أعلم نصا يخالف هذا ولا يعرف عن صحابي ولا تابعي اشترط لفظ الشهادة ولا يعتبر في أداء الشهادة وأن الدين باق في ذمة الغريم إلى الآن بل يحكم الحاكم باستصحاب الحال إذا ثبت عنده سبق الحق إجماعا ويعرض في الشهادة إذا خاف الشاهد من إظهار الباطن ظلم المشهود عليه وكذلك التعريض في الحكم إذا خاف الحاكم من إظهار الأمر وقوع الظلم وكذلك التعريض في الفتوى والرواية كاليمين وأولى إذ اليمين خبر وزيادة
فصل
قصة أبي قتادة وخزيمة تقتضي الحكم بالشاهد في الأموال وقال القاضي في التعليق الحكم بالشاهد الواحد غير متبع كما قاله المخالف في الهلال في الغيم وفي القابلة على أنا لا نعرف الرواية بمنع الجواز
قال أبو العباس: وقد يقال اليمين مع الشاهد الواحد حق للمستحلف وللإمام فله أن يسقطها وهذا أحسن ويعتبر في شهادة الإعسار بعد اليسار ثلاثة وفي حل المسألة وفي دفع الغرماء وكلام القاضي يدل عليه ولو قيل إنه يحكم بشهادة امرأة واحدة مع يمين الطالب في الأموال لكان القاضي يدل عليه ولو قيل إنه يحكم بشهادة امرأة واحدة مع يمين الطالب في الأموال لكان متوجها لأنهما أقيما الرجل في التحمل وتثبت الوكالة ولو في الرضاع فإن عقبة بن الحارث أخبر النبي ﷺ أن المرأة أخبرته أنها أرضعته فنهاه عنها من غير سماع من المرأة وقد احتج به الأصحاب في قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع فلولا أن الإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة ما صحت الحجة يؤيده أن الإقرار بحكم الحاكم بالعقد الفاسد يسوغ إلى الحاكم الثاني أن ينفذه مع مخالفته لمذهبه
وشاهد الزور إذا تاب بعد الحكم فيا لا يبطل برجوعه فهنا قد يتعلق به حق آدمي فلا يسقط عنه التعزير وأما إذا تاب قبل الحكم أو بعد الحكم فيما يبطل برجوعه فهنا لمن يتعلق به حق آدمي ثم تارة يجيء إلى الإمام تائبا فهذا بمنزلة قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة وتارة يتوب بعد ظهور تزويره فهنا لا ينبغي أن يسقط عنه التعزير ومن شهد بعد الحكم شهادة تنافي شهادته الأولى فكرجوعه عن الشهادة وأولى
وأفتى أبو العباس في شاهد قاس بكذا وكتب خطه بالصحة فاستخرج الوكيل على حكمه ثم قاس وكتب خطه بزيادة فغرم الوكيل الزيادة
قال أبو العباس: يغرم الشاهد ما غرمه الوكيل من الزيادة بسببه تعمد الكذب أو أخطأ كالرجوع والله سبحانه وتعالى أعلم
كتاب الإقرار
والتحقيق أن يقال إن المخبر إن خبر بما على نفسه فهو مقر وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مدع وإن أخبر بما على غيره لغيره فإن كان مؤتمنا عليه فهو مخبر وإلا فهو شاهد فالقاضي والوكيل والمكاتب والوصي والمأذون له كل هؤلاء ما أدوه مؤتمنون فيه فأخبارهم بعد العزل ليس إقرارا وإنما هو خبر محض
وإذا كان الإنسان ببلد سلطان أو قطاع طريق ونحوهم من الظلمة فخاف أن يؤخذ ماله أو المال الذي يتركه لورثته أو المال الذي بيده للناس إما بحجة أنه ميت لا وارث له أو بحجة أنه مال غائب أو بلا حجة أصلا فيجوز له الإقرار بما يدفع هذا الظلم ويحفظ هذا المال لصاحبه مثل أن يقر لحاضر أنه ابنه أو يقر أن له عليه كذا وكذا أو يقر أن المال الذي بيده لفلان ويتأول في إقراره بأن يعني بقوله ابني كونه صغيرا أو بقوله أخي إخوة الإسلام وأن المال الذي بيده له أي له لأنه قبضه لكوني قد وكلته في إيصاله أيضا إلى مستحقه لكن يشترط أن يكون المقر له أمينا والاحتياط أن يشهد على المقر له أيضا أن هذا الإقرار تلجئه تفسيره كذا وكذا وإن أقر من شك في بلوغه وذكر أنه لم يبلغ فالقول قوله بلا يمين قطع به في المغني والمحرر لعدم تكليفه ويتوجه أن يجب عليه اليمين لأنه إن كان لم يبلغ لم يضره وإن كان قد بلغ حجزته فأقر بالحق
نص الإمام أحمد في رواية ابن منصور إذا قال البائع بعتك قبل أن أبلغ وقال المشتري بعد بلوغك أن القول قول المشتري وهكذا يجيء في الإقرار وسائر التصرفات هل وقعت قبل البلوغ أو بعده لأن الأصل في العقود الصحة فأما أن يقال هذا عام وأما أن يفرق بين أن يتيقن أنه وقت التصرف كان مشكوكا فيه غير محكوم ببلوغه أولا يتيقن فإنا مع تيقن الشك قد تيقنا صدور التصرف ممن لم يثبت أهليته والصل عدمها فقد شككنا في شرط الصحة وذلك مانع من الصحة وأما في الحالة الأخرى فإنه يجوز صدوره في حال الأهلية وحال عدمها والظاهر صدوره وقت الأهلية والأصل عدمه قبل وقتها فالأهلية هنا متيقن وجودها
ثم ذكر أبو العباس أن من لم يقر بالبلوغ حتى تعلق به حق مثل إسلامه بإسلام أبيه وثبوت الذمة تبعا لأبيه أو بعد تصرف الولي له أو تزويج ولي أبعد منه لموليته فهل يقبل منه دعوى حينئذ أم لا لثبوت هذه الأحكام المتعلقة به في الظاهر قبل دعواه
وأشار أبو العباس إلى تخريج المسألة على الوجهين فيما إذا راجع الرجعية زوجها فقالت قد انقضت عدتي وشبيه أيضا بماادعى المجهول المحكوم بإسلامه ظاهرا كاللقيط الكفر بعد البلوغ فإنه لا يسمع منه على الصحيح وكذلك لو تصرف المحكوم بحريته ظاهرا كاللقيط ثم ادعى الرق ففي قبول قوله خلاف معروف وإذا أقر المريض مرض الموت المخوف لوارث فيحتمل أن يجعل إقراره لوارث كالشهادة فترد في حق من ترد شهادته له كالأب بخلاف من لا ترد ثم هذا هل يحلف المقر له معه كالشاهد وهل يعتبر عدالة المقر ثلاث احتمالات ويحتمل أن يفرق مطلقا بين العدل وغيره فإن العدل معه من الدين ما يمنعه من الكذب ونحوه في براءة ذمته بخلاف الفاجر ولو حلف المقر له مع هذا تأكد فإن في قبول الإقرار مطلقا فسادا عظيما
وكذلك في رده مطلقا ويتوجه فيمن أقر في حق الغير وهو غير متهم كإقرار العبد بجناية الخطأ وإقرار القاتل بجناية الخطأ أن يجعل المقر كشاهد ويحلف معه المدعي فيم ثبت شاهد آخر كما قلنا في إقرار بعض الورثة بالنسب هذا هو القياس والاستحسان وإقرار العبد لسيده ينبني على ثبوت مال السيد في ذمة العبد ابتدأ ودواما وفيها ثلاثة أوجه في الصداق وإقرار سيده له ينبني على أن العبد إذا قيل يملك هل يثبت له دين على سيده قال في الكافي: وإن أقر العبد بنكاح أو قصاص أو تعزير قذف صح وإن كذبه الولي
قال أبو العباس: وهذا في النكاح فيه نظر فإن العبد لا يصح نكاحه بدون إذن سيده لأن في ثبوت نكاح العبد ضررا عليه فلا يقبل إلا بتصديق السيد قال وإن أقر لعبده غيره بمال صح وكان لسيده
قال أبو العباس: وإذا قلنا يصح قبول الهبة والوصية بدون إذن السيد لم يفتقر الإقرار إلى تصديق السيد وقد يقال بل وإن لم تقل بذلك لجواز أن يكون قد يملك مباحا فأقر بعينه أو تلفه وتضمن قيمته وإذا حجر المولي على المأذون له فأقر بعد الحجر قال القاضي وغيره لا يقبل وقياس المذهب تتبعض ومتى ثبت نسب المقر له من المقر ثم رجع المقر وصدقه المقر له هل يقبل رجوعه فيه وجهان حكاهما في الكافي
قال أبو العباس: إن جعل النسب فيه حقا لله تعالى فهو كالجزية وإن جعل حق آدمي فهو كالمال والأشبه أنه حق ادمي كالولاء ثم إذا قبل الرجوع عنه فحق الأقارب الثابت من المحرمية ونحوها هل يزول أو يكون كالإقرار بالرق تردد نظر أبي العباس في ذلك
فأما إن ادعى نسبا ولم يثبت لعدم تصديق المقر له أو قال أنا فلان ابن فلان وانتسب إلىغير معروف أو قال لا أب لي أو لا نسب لي ثم ادعى بعد هذا نسبا آخر أو ادعى أن له أبا فقد ذكر الأصحاب في باب ما علق من النسب أن الأب إذا اعترف بالابن بعد نفيه قبل منه فكذلك غيره لأن هذا النفي والإقرار بمحل ومنكر لم يثبت به نسب فيكون إقراره بعد ذلك مقبولا كما قلنا فيما إذا أقر بمال لمكذب إذا لم يجعله ليثبت المال فإنه إذا إذا ادعى المقر بعد هذا أنه ملكه قبل منه وإن كان المقر به رق نفسه فهو كغيره بناء على أن الإقرار المكذب وجوده كعدمه
وهناك على الوجه الآخر يجعله بمنزلة المال الضائع أو المجهول فيحكم بالجزية وبالمال ليثبت المال وهنا يكون بمنزلة مجهول ينسب فيقبل به الإقرار ثانيا وسر المسألة أن الرجوع عن الدعوى مقبول والرجوع عن الإقرار غير مقبول والإقرار الذي لم يتعلق به حق الله ولا الآدمي هو من باب الدعاوى فيصح الرجوع عنه ومن أقر بطفل له أم فجاءت أمه بعد موت المقر تدعي زوجيته فالأشبه بكلام أحمد ثبوت الزوجية فهنا حمل على الصحة وخالف الأصحاب في ذلك ومن أقر يقبض ثمن أو غيره ثم أنكر وقال ما قبضت وسأل خلاف خصمه فله ذلك في اصح قولي العلماء ولا يشترط في صحة الإقرار كون المقربه بيد المقر
والإقرار قد يكون بمعنى الإنشاء كقوله ( قالوا أقررنا ) ولو أقر به وأراد إنشاء تمليكه صح ومن أنكر زوجية امرأة فأبرأته ثم أقر بها كان لها طلبها بحقها ومن أقر وهو مجهول نسبه ولا وارث حي أخ أو عم فصدقه المقر له وأمكن قبل صدقه المولي أو لا وهو قول أبي حنيفة وذكره الحل تخريجا وكل صلة كلام مغيرة له استثناء وغير المتقارب فيها متواصل والإقرار مع الاستدراك متواصل وهو احد القولين ولو قال في الطلاق أنه سبق لسانه لكان كذلك ويحتمل أن يقبل الإقرار المتصل ومن أقر بملك ثم ادعى شراءه قبل إقراره ولا يقبل ما يناقض إقراره إلا مع شبهة معتادة ولو أبان زوجته في مرضه فأقر وارث شافعي أنه وارثه وأقبضها وورثها مع علمه بالخلاف لم يكن له دعوى ما يناقضه ولا يسوغ الحكم له وقياس المذهب فيما إذا قال أنا مقر في جواب الدعوى أن يكون مقرا بالمدعى به لأن المفعول ما في الدعوى كما قلنا في قوله قبلت أن القبول ينصرف إلى الإيجاب لا إلى شيء آخر وهو وجه في المذهب
وأما إذا قال لا أنكر ما تدعيه فبين الإنكار والإقرار مرتبة وهي السكوت ولو قال الرجل أنا لا أكذب فلانا لم يكن مصدقا له فالمتوجه أنه مجرد نفي الإنكار إن لم ينضم إليه قرينة بأن يكون المدعي مما يعلمه المطلوب وقد ادعى عليه علمه وإلا لم يكن إقرارا حكى صاحب الكافي عن القاضي أنه قال فيما إذا قال المدعي لي عليك ألف فقال المدعى عليه قضيتك منها مائة أنه ليس بإقرار لأن المائة قد رفعها بقوله والباقي لم يقر به وقوله منها يحمل ما تدعيه
قال أبو العباس: هذا يخرج على أحد الوجهين في أبرأتها وأخذتها وقبضتها أنه مقر هنا بالألف لأن الهاء يرجع إلى المذكور ويتخرج أن يكون مقرا بالمائة على رواية في قوله كان له علي وقضيته ثم هل يكون مقرا بها وحدها أو الجميع على ما تقدم والصواب في الإقرار المعلق بشرط أن نفس الإقرار لا يتعلق وإنما يتعلق المقر به لأن المقر به قد يكون معلقا بسبب قد يوجبه أداءه دليل يظهره فالأول كما لو قال مقرا زيد فعلي لفلان ألف صح وكذلك إن قال إن رد عبده الآبق فله ألف ثم أقر بها فقال إن رد عبده الآبق فله ألف صح
وكذلك الإقرار بعوض الخلع لو قالت إن طلقتني أو إن عفا عني فله عندي ألف وأما التعليق بالشهادة فقد يشبه التحكيم ولو قال إن حكمت علي بكذا التزمته لزمه عندنا فلذلك قد يرضى بشهادته وهو في الحقيقة التزام وتزكية للشاهد ورضي بشهادة واحد وإذا أقر العامي بمضمون محض وادعى عدم العلم بدلالة اللفظ ومثله يجهله قبل منه على المذهب وإذا أقر لغيره بعين له فيها حق لا يثبت إلا برضى المالك كالرهن والإجارة ولا بينة قال الأصحاب يقبل ويتوجه أن يكون القول قوله لأن الإقرار ما تضمن ما يوجب تسليم العين أو المنفعة فما أقر ما يوجب التسليم كما في قوله كان له علي وقضيته ولأنا نجوز مثل هذا الاستثناء في الإنشاءات في البيع ونحوه فكذلك في الإقرارات والقرآن يدل على ذلك في آية الدين وكذا لو أقر بفعل وادعى إذن المالك والاستثناء يمنع دخول المستثنى في اللفظ لأنه يخرجه بعد ما دخل في الأصح
قال القاضي: ظاهر كلام أحمد جواز استثناء النصف لأن أبا منصور روى عن أحمد إذا قال كان لك عندي مائة دينار فقضيتك منها خمسين وليس بينهما بينة فالقول قوله
قال أبو العباس: ليس هذا من الاستثناء المختلف فيه فإن قوله قضيتك ستين مثل خمسين قال أبو حنيفة إذا قال له علي كذا وكذا درهما لزمه أحد عشر درهما وإن قال كذا وكذا درهما لزمه إحدى وعشرين وإن قال كذا درهم لزمه عشرون وما قاله أبو حنيفة أقرب مما قاله أصحابنا فإن أصحابنا بنوه على أن كذا وكذا تأكيدا وهو خلاف لأنه يكفيه أن يقول كذا درهما لما كان في أراد درهما وأيضا لو لغت العرب هو خلاف لا النصب ثم يقتضي الرفع لهما وهذا مثل الترجمة وأن الدرهم المعروف الظاهر أن يقول درهم والواجب أن يفرق بين الشيئين الذي يتصل أحدهما بالأرض عادة كالقراب في السيف والخاتم في الفص لأن ذلك إقرار بهما وكذلك الزيت في الزق والتمرة في الجراب ولو قال غصبته ثوبا في منديل كان إقرارا بهما لا له عندي ثوب في منديل فإنه بالثوب خاصة وهو قول أبي حنيفة
وإذا قال له علي من درهم إلى عشرة أو ما بين الدرهم إلى العشرة فلهذا أوجه أحدها: يلزمه تسعة وثانيها: عشرة وثالثها: ثمانية والذي ينبغي أن يجمع بين الطرفين من الأعداد فإذا قال من واحد إلى عشرة لزمه خمسة وخمسون إن أدخلنا الطرفين وخمسة وأربعون إن أدخلنا المبتدأ فقط وأربعة وأربعون إن أخرجناهما ويعتبر في الإقرار عرف المتكلم فيحمل مطلق كلامه على أقل محتملاته والله سبحانه وتعالى أعلم