الفتاوى الكبرى/كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة/8

فصل

فلما قالوا ولا تقول إن كلام الله حرف وصوت قائم به بل هو معنى قائم بذاته قلت أختبارا عما وقع مني قبل ذلك ليس في كلامي هذا أيضا بل قول القائل إن القرآن حرف وصوت قائم به بدعة وقوله إن معنى قائم به بدعة لم يقل أحد من السلف لا هذا ولا هذا وأنا ليس في كلامي شيء من البدع بل في كلامي ما أجمع عليه السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق وهذا كلام صحيح فلم أقل أن الحروف ليست من كلام الله وأن المعاني ليست من كلام الله ولا أن الله تعالى لم يتكلم بالحروف والأصوات ومعان قائمة في نفسه ولكن بينت أن من جعل القرآن مجرد حرف وصوت قائم بالله فإنه مبتدع وقوله يتضمن أن المعاني ليست من القرآن ولا من كلام الله ومن جعل القرآن مجرد معنى قائم به مبتدع وقوله يتضمن أن حروف القرآن ليست من القرآن ولم يتكلم الله بها وأن جميع كلام الله ليس إلا معنى واحدا

وقد قلت قبل هذا في جواب الفتيا المصرية وقد قيل فيها المسؤول بيان ما يجب على الإنسان أن يعتقده ويصير به مسلما بأوضح عبارة وأبينها من أن ما في المصاحف هل هو كلام الله القديم أم هو عبارة عنه لا نفسه وأنه حادث أو قديم وأن كلام الله حرف وصوت أم كلامه صفة قائمة به لا تفارقه وأن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى حقيقة أم لا وأن الإنسان إذا أجرى القرآن على ظاهره من غير أن يتأول شيئا منه ويقول أو من به كما أنزل هل يكفيه ذلك في الاعتقاد أم يجب عليه التأويل

فقلت في الجواب الذي يجب على الإنسان اعتقاده في ذلك وغيره ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله واتفق عليه سلف المؤمنين الذين أثنى الله تعالى على من اتبعهم وذم من اتبع غير سبيلهم وهو أن القرآن الذي أنزله الله على عبده ورسوله كلام الله تعالى وأنه منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود { إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون }

{ بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ } وأنه كما قال: { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } وأنه في الصدور كما قال النبي [ إستذكروا القرآن فلهو أشد تقصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها ] وقال النبي [ الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب ] وأن ما بين لوحي المصحف الذي كتبته الصحابة رضي الله عنهم كلام الله كما قال النبي [ لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم ] فهذه الجملة تكفي المسلم في هذا الباب

وأما تفصيل ما وقع في ذلك من النزاع فكثير منه يكون كالاطلاقين خطأ ويكون الحق في التفصيل ومنه ما يكون مع كل من المتنازعين نوع من الحق ويكون كل منهما ينكر حق صاحبه وهذا من التفريق والاختلاف الذي ذمه الله تعالى ونهى عنه فقال: { وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد } وقال: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقال: { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال: { وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم }

فالواجب على المسلم أن يلزم سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكنه أن يفصل النزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع وأعرض عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا فإن مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى

وقد بسطت القول في جنس هذه المسائل ببيان ما كان عليه سلف الأمة الذي اتفق عليه العقل والسمع وبيان ما يدخل في هذا الباب من الاشتراك والاشتباه والغلط في مواضع متعددة ولكن نذكر منها جملة مختصرة بحسب حال السائل بعد الجواب بالجمل الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله والتفصيل المختصر أن نقول:

من اعتقد أن المداد الذي في المصحف وأصوات العباد قديمة أزلية فهو ضال مخطىء مخالف للكتاب والسنة وإجماع الأولين وسائر علماء الإسلام ولم يقل أحد قط من علماء المسلمين أن ذلك قديم لا من أصحاب الإمام أحمد ولا من غيرهم ومن نقل قدم ذلك عن أحد من علماء أصحاب الإمام أحمد فهو مخطىء في النقل أو متعمد للكذب بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه تبديع من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق كما جهموا من قال اللفظ بالقرآن مخلوق

وقد صنف أو بكر المروذي أخص أصحاب الإمام أحمد به في ذلك رسالة كبيرة مبسوطة ونقلها عنه أبو بكر الخلال في كتاب السنة الذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من أئمة المسلمين في أبواب الاعتقاد وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق معارضة لمن قال لفظي بالقرآن مخلوق فبلغ ذلك الإمام أحمد فأنكر ذلك إنكارا شديدا وبدع من قاله وأخبر أن أحدا من العلماء لم يقل ذلك فكيف بمن يزعم أن صوت العبد قديم وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض العلماء أن المداد الذي في المصحف قديم وجميع أئمة أصحاب الإمام وغيرهم أنكروا ذلك وما علمت أن عالما يقول ذلك إلا ما يبلغنا عن بعض الجهال وقد ميز الله في كتابه بين الكلام والمداد فقال تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } فهذا خطأ من هذا الجانب وكذلك من زعم أن القرآن محفوظ في الصدور كما أن الله معلوم بالقلوب وأنه متلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن وأنه مكتوب في المصحف كما أن الله مكتوب وجعل ثبوت القرآن في الصدور والألسنة والمصاحف مثل ثبوت ذات الله تعالى في هذه المواضع فهذا أيضا مخطىء في ذلك فإن الفرق بين ثبوت الأعيان في المصحف وبين ثبوت الكلام فيها بين واضح فإن الموجودات لها أربع مراتب

مرتبة في الأعيان ومرتبة في الأذهان ومرتبة في اللسان ومرتبة في البنان فالعلم يطابق العين واللفظ يطابق العلم والخط يطابق اللفظ

فإذا قيل أن العين في الكتاب كما في قوله وكل شيء فعلوه في الزبر فقد علم أن الذي في الزبر إنما هو الخط المطابق للعلم فبين الأعيان وبين المصحف مرتبتان وهي اللفظ والخط وأما الكلام نفسه فليس بينه وبين الصحيفة مرتبة بل نفس الكلام يجعل في الكتاب وإن كان بين الحرف الملفوظ والحرف المكتوب فرق من وجه آخر غلا إذا أريد أن الذي في المصحف هو ذكره والخبر عنه مثل قوله تعالى: { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك } إلى قوله: { وإنه لفي زبر الأولين * أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل } فالذي في زبر الأولين ليس هو نفس القرآن المنزل على محمد فإن هذا القرآن لم ينزل على أحد قبله ولكن في زبر الأولين ذكر القرآن وخبره كما فيها ذكر محمد وخبره كما أن أفعال العباد في الزير كما قال تعالى: { وكل شيء فعلوه في الزبر } فيجب الفرق بين كون هذه الأشياء في الزبر وبين كون الكلام نفسه في الزبر كما قال تعالى: { إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون } وقال تعالى: { يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة } فمن قال إن المداد قديم فقد أخطا ومن قال ليس في المصحف كلام الله وإنما فيه المداد الذي هو عبارة عن كلام الله فقد أخطأ بل القرآن في المصحف كما أن سائر الكلام في الورق كما عليه الأمة مجمعة وكما هو في فطر المسلمين فإن كل مرتبة لها حكم يخصها وليس وجود الكلام في الكتاب كوجود الصفة بالموصوف مثل وجود العلم والحياة في محلهما حتى يقال إن هذه الله حلت بغيره أو فارقته ولا وجود فيه كالدليل المحض مثل وجود العالم الدال على الباري تعالى حتى يقال ليس فيه إلا ما هو علامة على كلام الله عز وجل بل هو قسم آخر

ومن لم يعط كل مرتبة مما يستعمل فيها أداة الظرف حقها فيفرق بين وجود الجسم في الحيز وفي المكان ووجود العرض للجسم ووجود الصورة بالمرآة ويفرق بين روية الشيء بالعين يقظة وبين رؤيته بالقلب يقظة ومناما ونحو ذلك وإلا اضطربت عليه الأمور وكذلك سؤال السائل عما في المصحف هل هو حادث أو قديم سؤال مجمل فإن لفظ القديم أولا ليس مأثورا عن السلف وإنما الذي اتفقوا عليه أن القرآن كلام الله غير مخلوق وهو كلام الله حيث تلي وحيث كتب وهو قرآن واحد وكلام واحد وإن تنوعت الصور التي يتلى فيها ويكتب من أصوات العباد ومداد ثم الكلام كلام من قاله مبتدئا لا كلام من بلغه مؤديا فإذا سمعنا محدثا يحدث بقول النبي [ إنما الأعمال بالنيات ] قلنا هذا كلام رسول الله لفظه ومعناه مع علمانا أن الصوت صوت المبلغ لا صوت رسول الله وهكذا كل من بلغ كلام غيره من نظم ونثر

ونحو إذا قلنا هذا كلام الله لما نسمعه من القارىء ونرى في المصحف فالإشارة إلى الكلام من حيث هو هو من قطع النظر عما اقترن به البلاغ من صوت المبلغ ومداد الكاتب فمن قال صوت القارىء ومداد الكاتب كلام الله الذي ليس بمخلوق فقد أخطأ وهذا الفرق الذي بينه الإمام أحمد لمن سأله وقد قرأ قل هو الله أحد فقال هذا كلام الله غير مخلوق فقال نعم فنقل السائل عنه أنه قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فدعا به وزبره زبرا شديدا وطلب عقوبته وتعزيزه وقال أنا قلت لك لفظي بالقرآن غير مخلوق فقال لا ولكن قلت لي لما قرآت قل هو الله أحد هذا كلام الله غير مخلوق قال فلم تنقل عني ما لم أقله فبين الإمام أحمد أن القائل إذا قال لما سمعه من المبلغين المؤدين هذا كلام الله فالإشارة إلى حقيقته التي تكلم الله بها وإن كنا إنما سمعناها ببلاغ المبلغ وحرته وصوته فإذا أشار إلى شيء من صفات المخلوق لفظه أو صوته أو فعله وقال هذا غير مخلوق فقد ضل وأخطأ فالواجب أن يقال القرآن كلام الله غير مخلوق فالقرآن في المصاحف كما أن سائر الكلام في المصحف ولا يقال أن شيئا من المداد والورق غير مخلوق بل كل ورق ومداد في العالم فهو مخلوق ويقال أيضا القرآن الذي في المصحف كلام الله غير مخلوق والقرآن الذي يقرآن المسلمون كلام الله غير مخلوق

ويتبين هذا بالجواب عن المسألة الثانية وهو قوله إن كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفيا وإثباتا خطأ وهي من البدع المولدة الحادثة بعد المائة الثالثة لما قال قوم من متكلمة الصفاتية أن كلام الله الذي أنزله على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والقرآن لم ينزله والكلمات التي كون بها الكائنات والكلمات المشتملة على أمره وخبره ليس إلا مجرد معنى واحد هو صفة واحدة قامت بالله إن عبر عنها بالعبرانية كانت التوراة وإن عبر عنها بالعربية كان القرآن وإن الأمر والنهي والخبر صفات لها لا أقسام لها وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله ولم يتكلم بها وليست من كلامه إذ كلامه لا يكون بحرف وصوت

عارضهم آخرون من المثبتة فقالوا: بل القرآن هو الحروف والأصوات وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد وبالأصوات أصوات العباد وهذا لم يقله عالم

والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب الصحيح في كتاب خلق أفعال العباد وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم اتباع المنصوص الثابتة؟

وإجماع سلف الأمة وهو أن القرآن جميعه كلام الله حروف ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاما لغيره وكلكن أنزله على رسله وليس القرآن اسما لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف بل لمجموعهما وكذلك سائر الكلام ليس هو الحروف فقط ولا المعاني فقط كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد بل مجموعهما وأن الله تعالى متكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحاح وليس ذلك كأصوات العباد ولا صوت القارىء ولا غيره وأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته فكذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق ولا معانيه تشبه معانيه ولا حروفه تشبه حروفه ولا صوت الرب يشبه صوت العبد فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته

وقد كتبت في الجواب المبسوط المستوفي مراتب مذاهب أهل الأرض في ذلك وأن المتفلسفة تزعم أن كلام الله ليس له وجود إلا في نفوس الأنبياء تفاض عليهم المعاني من العقل الفعال فيصير في نفوسهم حروفا كما أن ملائكة الله عندهم ما يحدث في نفوس الأنبياء من الصور النورانية وهذا من جنس قول فيلسوف قريش الوليد بن المغيرة: ( إن هذا إلا قول البشر )

فحقيقة قولهم إن القرآن تصنيف الرسول الكريم لكنه كلام شريف صادر عن نفس صافية وهؤلاء هم الصابئة فتقربت منهم الجهمية فقالوا: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قام به كلام وإنما كلامه ما يخلقه في الهواء أو غيره فأخذ ببعض ذلك قوم من متكلمة الصفاتية فقالوا: بل نصفه وهو المعنى كلام الله ونصفه وهو الحروف ليس كلام الله بل هو خلقه وقد تنازع الصفاتية القائلون بأن القرآن غير مخلوق هل يقال إنه قديم لم يزل ولم يتعلق بمشيئته أم يقال يتكلم إذا شاء ويسكت إذا شاء على قولين مشهورين في ذلك ذكرهما الحارث المحاسبي عن أهل السنة وذكرهما أبو بكر عبدالعزيز عن أهل السنة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم وكذلك النزاع بين أهل الحديث الصوفية وفرق الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية والحنبلية بل وبين فرق المتكلمين والفلاسفة في جنس هذا الباب وليس هذا موضعا لبسط ذلك هذا لفظ الجواب في الفتيا المصرية

قلت: وأما سؤال السائل عن قوله عز وجل: { الرحمن على العرش استوى } فهو الحق كما أخبر الله به وأهل السنة ومتفقون على ما قاله ربيعة بن أبي عبدالرحمن ومالك بن أنيس وغيرهما من الأئمة إن الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيف بدعة فمن زعم أن الله مفتقر إلى عرش يقله أو أنه محصور في سماء تظله أو أنه محصور في شيء من مخلوقاته أو أنه يحيط به جهة من جهات مصنوعاته فهو مخطىء ضال ومن قال إنه ليس على العرش رب ولا فوق السموات خالق بل ما هنالك إلا العدم المحض والنفي الصرف فهو معطل جاحد لرب العالمين مضاه لفرعون الذي قال يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا بل أهل السنة والحديث وسلف الأمة متفقون على أنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ليس في ذاته شيء من مخلوقاته ولا في مخلوقاته شيء من ذاته وعلى ذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمة السنة بل على ذلك جميع المؤمنين من الأولين والآخرين وأهل السنة وسلف الأمة متفقون على أن من تأول استوى بمعنى استولى أو بمعنى آخر ينفي أن يكون الله فوق سمواته فهو جهمي ضال

قلت: وأما سؤاله عن اجراء القرآن على ظاهره فإنه إذا آمن بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تكييف فقد اتبع سبيل المؤمنين ولفظ الظاهر في عرف المستأخرين قد صار فيه اشتراك فإن أراد بإجرائه على الظاهر الذي هو من خصائص المخلوقين حتى يشبه الله بخلقه فهذا ضلال بل يجب القطع بأن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء يعني أن موعود الله في الجنة من الذهب والحرير والخمر واللبن تخالف حقائقه حقائق هذه الأمور الموجودة في الدنيا فالله تعالى أبعد عن مشابهة مخلوقاته بما لا يدركه العباد ليس حقيقته كحقيقة شيء منها وأما إن أراد باجزائه على الظاهر هو الظاهر في عرف سلف الأمة بحيث لا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يلحد في أسماء الله تعالى ولا يفسر القرآن والحديث بما يخالف تفسير سلف الأمة وأهل السنة بل يجري ذلك على ما اقتضته النصوص وتطابق عليه دلائل الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف الأمة فهذا مصيب في ذلك وهو الحق وهذا جملة لا يسع هذا الموضع تفصيلها

وقلت في جواب الفتيا الدمشقية وقد سئلت فيها عن رجل حلف بالطلاق الثلاث أن القرآن حرف وصوت وأن الرحمن على العرش استوى على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره هل يحنث هذا أم لا فقلت في الجواب إن كان مقصود هذا الحالف أن أصوات العباد بالقرآن والمداد الذي يكتب به الحروف القرآن قديمة أزلية فقد حنث في يمينه وما علمت أحدا من الناس يقول ذلك وإن كان قد يكره تجريد الكلام في المداد الذي في المصحف وفي صوت العبد لئلا يتذرع بذلك إلى القول بخلق القرآن

ومن الناس من تكلم في صوت العبد وإن كنا نعلم أن الذي نقرأه هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره وأن الذي بين اللوحين هو كلام الله حقيقة ولكن ما علمت أحدا حكم على مجموع المداد المكتوب به وصوت العبد بالقرآن بأنه قديم ولكن الذين في قلبوهم زيغ من أهل الأهواء لا يفهمون من كلام الله وكلام رسوله وكلام السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان في باب صفات الله تعالى إلا المعاني التي تليق بالخلق لا بالخالق ثم يريدون تحريف الكلم عن مواضعه في كلام الله وكلام رسوله إذا وجدوا ذلك فيهما وإن وجدوه في كلام التابعين للسلف افتروا الكذب عليهم ونقلوا عنهم بحسب الفهم الباطل الذي فهموه أو زادوا عليهم في الألفاظ أو غيروها قدرا ووصفا كما نسمع من ألسنتهم ونرى في كتبهم ثم بعض من يحسن الظن بهؤلاء النقلة قد يحكي هذا المذهب عمن حكوه عنهم ويذم ويحنث مع من لا وجود له وذمة واقع على موصوف غير موجود نظير ما وصف الله تعالى عن رسوله - حيث قال: [ ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش يشتمون مذمما ] وأنا محمد

وهذا نظير ما تحكي الرافضة عن أهل السنة من أهل الحديث والفقه والعبادة والمعرفة: أنهم ناصبة وتحكي القدرية عنهم: أنهم مجبرة وتحكي الجهمية عنهم أنهم مشبهة وتحكي من خالف الحديث ونابذ أهله عنهم: أنهم نابتة وحشوية وغثا وغثر إلى غير ذلك من الأسماء المكذوبة ومن تأمل كتب المتكلمين الذين يخالفون هذا القول وجدهم لا يبحثون في الغالب أو في الجميع إلا مع هذا القول الذي ما علمنا لقائله وجودا وإن كان مقصود الحالف أن القرآن الذي أنزله الله تعالى على محمد - هو هذه المائة والأربع عشرة سورة حروفها ومعانيها وأن القرآن ليس هو الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف بل هو مجموع الحروف والمعاني وأن تلاوتنا للحروف وتصورنا للمعاني لا يخرج المعاني والحروف عن أن تكون موجود قبل وجودنا فهذا مذهب المسلمين ولا حنث عليه

وكذلك إن كان مقصوده أن هذا القرآن الذي يقرآه المسلمون ويكتبونه في مصاحفهم هو كلام الله سبحانه حقيقة لا مجازا وأنه لا يجوز نفي كونه كلام الله إذ الكلام يضاف حقيقة لمن قال متصفا به مبتدأ وإن كان قد قاله غيره مبلغا مؤديا وهو كلام لمن اتصف به مبتدأ لا لمن بلغه مرويا فإنا باضطرار نعلم من دين رسول الله ودبن سلف الأمة أن قائلا لو قال إن هذه الحروف حروف القرآن ما هي من القرآن وإنما القرآن اسم لمجرد المعاني لأنكروا ذلك عليه غاية الإنكار وكان عندهم بمنزلة من يقول أن جسد رسول الله ما هو داخل في اسم رسول الله وإنما هو اسم للروح دون الجسد أو يقول إن الصلاة ليست اسما لحركات القلب والبدن وإنما هي اسم لاعمال القلب فقط

ولذلك ذكر الشهرستاني وهو من أخبر الناس بالملل والنحل والمقالات في نهاية الإقدام أن القول بحدوث حروف القرآن قول محدث وأن مذهب سلف الأمة نفي الخلق عنها وهو من أعيان الطائفة القائلة بحدوثها ولا يحسب اللبيب أن في العقل وفي السمع ما يخالف ذلك بل من تبحر في المعقولات ووقف على أسرارها علم قطعا أن ليس في العقل الصريح الذي لا يكذب قط ما يخالف مذهب السلف وأهل الحديث بل يخالف ما قد يتوهمه المنازعون لهم بظلمة قلوبهم وأضواء نفوسهم أو ما قد يفترونه عليهم لعدم التقوى وقلة الدين ولو فرض على سبيل التقدير أن العقل الصريح الذي لا يكذب يناقض بعض الأخبار للزم أحد الأمرين إما تكذيب الناقل أو تأويل المنقول لكن ولله الحمد هذا لم يقع ولا ينبغي أن يقع قط فإن حفظ الله تعالى لما أنزله من الكتاب والحكمة يأبى ذلك نعم يوجد مثل هذا في أحاديث وضعتها الزنادقة ليشينوا بها أهل الحديث كحديث عرق الخيل والجمل والأورق وغير ذلك مما يعلم العلماء بالحديث أنه كذب ومما يوضح هذا ما قد استفاض عن علماء الإسلام مثل الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية والحميدي وغيرهم من إنكارهم على من زعم أن لفظ القرآن مخلوق والآثار بذلك مشهورة في كتاب ابن أبي حاتم وكتاب اللالكائي تلميذ أبي حامد الأسفرايني وكتاب الطبراني وكتاب شيخ الإسلام وغيرهم ممن يطول ذكره وليس هذا موضع التقرير بالأدلة والأسئلة والأجوبة وكذلك إن كان مقصود الحالف بذكر الصوت التصديق بالآثار عن النبي وصحابته وتابعيهم التي وافقت القرآن وتلقاها السلف بالقبول مثل ما خرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله : [ يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ]

وما استشهد به البخاري أيضا في هذا الباب من: [ أن الله ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ] ومثل: [ أن الله إذا تكلم بالوحي القرآن أو غيره سمع أهل السموات صوته ] وفي قول ابن عباس سمعوا صوت الجبار وأن الله كلم موسى بصوت إلى غير ذلك من الآثار التي قالها إما ذاكرا وإمام آثرا مثل عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن أنس وجابر بن عبد الله ومسروق أحد أعيان كبار التابعين وأبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أحد الفقهاء السبعة وعكرمة مولى ابن عباس والزهري وابن المبارك وأحمد بن حنبل ومن لا يحصي كثرة ولا ينقل عن أحد من علماء الإسلام قبل المائة الثانية أنه أنكر ذلك ولا قال خلافه بل كانت الآثار المشهورة بينهم متداولة في كل عصر ومصر بل أنكر ذلك شخص في زمن الإمام أحمد وهو أول الأزمنة التي نبغت فيها البدع بإنكار ذلك على الخصوص وإلا فقبله قد نبغ من أنكر ذلك وغيره فهجر أهل الإسلام من أنكر ذلك وصار بين المسلمين كالجمل الأجرب فإن إراد الحالف ما هو المنقول عن السلف نقلا صحيحا فلا حنث عليه

قلت: وأما حلفه أن الرحمن على العرش استوى على ما يفيده الظاهر ويفهمه الناس من ظاهره فلفظة الظاهر قد صارت مشتركة فإن الظاهر في الفطر السليمة واللسان العربي والدين القيم ولسان السلف غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين فإن أراد الحالف بالظاهر شيئا من المعاني التي هي من خصائص المحدثين أو ما يقتضي نوع نقص بأن يتوهم أن الاستواء مثل استواء الأجسام على الأجسام أو كاستواء الأرواح إن كانت عنده لا تدخل في أمم الأجسام فقد حنث في ذلك وكذب وما أعلم أحدا يقول إلا ما يروي عن مثل داود الجواربي البصري ومقاتل بن سليمان الخرساني وهشام بن الحكم الرافضي ونحوهم أن صح النقل عنهم فإنه يجب القطع بأن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في نفسه ولا في صفاته ولا في أفعاله وأن مباينته للمخلوقين وتنزهه عن مشاركتهم أكبر وأعظم مما يعرفه العارفون من خليقته ويصفه الواصفون وأن كل صفة تستلزم حدوثه أو نقصا غير الحدوث فيجب نفيها عنه

ومن حكى عن أحد من أهل السنة أنه قاس صفاته بصفات خلقه فهو إما كاذب أو مخطىء وإن أراد الحالف بالظاهر ما هو الظاهر في فطر المسلمين قبل ظهور الأهواء وتشتت الآراء وهو الظاهر الذي يليق بجلاله سبحانه وتعالى كما أن هذا هو الظاهر في سائر ما يطلق عليه سبحانه من أسمائه وصفاته كالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والمحبة والغضب والرضى وما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي وينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا إلى غير ذلك فإن ظاهر هذه الألفاظ إذا أطلقت علينا أن تكون أعراضا وأجساما لأن ذواتنا كذلك وليس ظاهرها إذا أطلقت على الله سبحانه وتعالى إلا ما يليق بجلاله ويناسب نفسه

فكما أن لفظ ذات ووجود وحقيقة يطلق على الله وعلى عباده وهو على ظاهره في الاطلاقين مع القطع بأنه ليس ظاهره في حق الله تعالى مساويا لظاهره في حقنا ولا مشاركا له فيما يوجب نقصا وحدوثا سواء جعلت هذه الألفاظ متواطئة أو مشتركة أو مشككة كذلك قوله: أنزله بعلمه وأن الله هو الرزاق ذو القوة لما خلقت بيدي الرحمن على العرش استوى الباب في الجميع واحد وكان قدماء الجهمية ينكرون جميع الصفات التي هي فينا أعراض كالعلم والقدرة وأجسام كالوجه واليد وحدثاؤهم أقروا بكثير من الصفات كالعلم والقدرة وأنكروا بعضها والصفات التي هي فينا أجسام هي فينا أعراض ومنهم من أقر ببعض الصفات التي هي فينا أجسام كاليد وأما السلفية فعلى ما حكاه الخطابي وأبو بكر الخطيب وغيرهما قالوا: مذهب السلف إجراء آيات الصفات وأحاديث الصفات على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها فلا تقول إن معنى اليد القدرة ولا إن معنى السمع العلم وذلك أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات يحتذى فيه حذوة ويتبع فيه مثاله فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية فقد أخبرك الخطابي والخطيب وهما إمامان من أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - متفق على علمهما بالنقل وعلم الخطابي بالمعاني أن مذهب السلف إجراؤها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه عنها والله تعالى يعلم أني قد بالغت في البحث عن مذاهب السلف فما علمت أحدا منهم خالف ذلك ومن قال من المتأخرين أن مذهب السلف أن الظاهر غير مراد فيجب لمن أحسن به الظن أن يعرف أن معنى قوله الظاهر الذي يليق بالمخلوق لا بالخالق ولا شك أن هذا غير مراد ومن قال إنه مراد فهو بعد قيام الحجة عليه كافر

فهنا بحثان لفظي ومعنوي أما المعنوي فالأقسام ثلاثة في قوله الرحمن على العرش استوى ونحوه أن يقال استواء كاستواء مخلوق أو يفسر باستواء يستلزم حدوثا أو نقصا فهذا هو الذي يحكي عن الضلال المشبهة والمجسمة وهو باطل قطعا بالقرآن وبالعقل وإما أن يقال ماثم استواء حقيقي أصلا ولا على العرش إله ولا فوق السموات رب فهذا هو مذهب الجهمية الضالة المعطلة وهو باطل قطعا بما علم بالإضطرار من دين الإسلام لمن أمعن النظر في العلوم النبوية وبما فطر الله عليه خليفته من الأقرار بأنه فوق خلقه كإقرارهم بأنه ربهم

قال ابن قتيبة: ما زالت الأمم عربها وعجمها في جاهليتها وإسلامها معترفة بأن الله في السماء أي على السماء أو يقال بل استوى سبحانه على العرش على الوجه الذي يليق بجلاله ويناسب كبريائه وأنه فوق سماواته وأنه على عرشه بائن من خقله مع أنه سبحانه هو حامل للعرش ولحملة العرش وأن الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة كما قالت أم سلمة وربيعة بن أبي عبدالرحمن ومالك عن أنس فهذا مذهب المسلمين وهو الظاهر من لفظ استوى عند عامة المسلمين الباقين على الفطرة السالمة التي لم تنحرف إلى تعطيل ولا إلى تمثيل وهذا هو الذي أراده يزيد بن هارون الواسطي المتفق على إمامته وجلالته وفضله وهو من اتباع التابعين حيث قال: من زعم أن الرحمن على العرش استوى خلاف ما يقر في نفوس العامة فهو جهمي فإن الذي أقره الله تعالى في فطر عباده وجبلهم عليه أن ربهم فوق سمواته كما أنشد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه النبي فأقره النبي :

( شهدت بأن وعد الله حق... وأن النار مثوى الكافرينا )

( وأن العرش فوق الماء طاف... وفوق العرش رب العالمينا )

وقد قال عبد الله بن المبارك الذي أجمعت فرق الأمة على إمامته وجلالته حتى قيل إنه أمير المؤمنين في كل شيء وقيل ما أخرجت خراسان مثل ابن المبارك وقد أخذ عن عامة علماء وقته مثل الثوري ومالك وأبي حنيفة والأوزاعي وطبقتهم حين قيل له بماذا تعرف ربنا قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وقال محمد بن إسحق بن خزيمة الملقب إمام الأئمة وهو ممن يفرح أصحاب الشافعي بما ينصره من مذهبه ويكاد يقال ليس فيهم أعلم بذلك منه من لم يقل إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وألقي على مزبلة لئلا يتأذى ريحه أهل الملة ولا أهل الذمة وكان ماله فيئا

وقال مالك بن أنس الإمام فيما رواه عنه عبد الله بن نافع وهو مشهور عنه: الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو من علمه مكان وقال الإمام أحمد بن حنبل مثل ما قال مالك وما قال ابن المبارك والآثار عن النبي وأصحابه وسائر علماء الأمة بذلك متوافرة عند من نتبعها وقد جمع العلماء فيها مصنفات صغارا وكبارا ومن تتبع الآثار علم أيضا قطعا أنه لا يمكن أن ينقل عن أحد منهم حرف واحد يناقض ذلك بل كلهم مجمعون على كلمة واحدة وعقيدة واحدة يصدق بعضهم بعضا وإن كان بعضهم أعلم من بعض كما أنهم متفقون على الإقرار بنبوة محمد وإن كان فيهم من هو أعلم بخصائص النبوة ومزاياها وحقوقها وموجباتها وحقيقتها وصفاتها ثم ليس أحد منهم قال يوما من الدهر ظاهر هذا غير امراد ولا قال هذه الآية أو هذا الحديث مصروف عن ظاهره مع أنهم قد قالوا مثل ذلك في آيات الأحكام المصروفة عن عمومها وظهورها وتكلموا فيما يستشكل مما قد يتوهم أنه متناقض وهذا مشهور لمن تأمله وهذه الصفات أطلقولها بسلامة وطهارة وصفاء لم يشربوه بكدر ولا غش ولو لم يكن هذا هو الظاهر عند المسلمين لكان رسول الله - ثم سلف الأمة قالوا للأمة الظاهر الذي تفهمونه غير مراد أو لكان أحد من المسلمين استشكل هذه الآية وغيرها فإن كان بعض المتأخرين قد زاغ قلبه حتى صار يظهر له من الآية معنى فاسد مما يقتضي حدوثا أو نقصا فلا شك أن الظاهر لهذا الواقع غير مراد وإذا رأينا رجلا يفهم من الآية هذا الظاهر الفاسد قررنا عنده أولا أن هذا المعنى ليس مفهوما من ظاهر الآية ثم قررنا عنده ثانيا أنه في نفسه معنى فاسد حتى لو فرض أنه ظاهر الآية وإن كان هذا فرض ما لا حقيقة له لوجب صرف الآية عن ظاهرها كسائر الظواهر التي عارضها ما أوجب أن المراد بها غير الظاهر

وأعلم أن من لم يحكم دلالات اللفظ ويعلم أن ظهور المعنى من اللفظ تارة يكون بالوضع اللغوي أو العرفي أو الشرعي إما في الألفاظ المفردة وإما في المركبة وتارة بما اقترن باللفظ المفرد من التركيب الذي يتغير به دلالته في نفسه وتارة بما اقترن به من القرائن اللفظية التي تجعلها مجازا وتارة بما يدل عليه حال المتكلم والمخاطب والمتكلم فيه وسياق الكلام الذي يعين أحد محتملات اللفظ أو يبين أن المراد به هو مجازه إلى غير ذلك من الأسباب التي تعطي اللفظ صفة الظهور وإلا فقد يتخبط في هذه المواضع نعم إذا لم يقترن باللفظ قط شيء من القرائن المتصلة تبين مراد المتكلم بل علم مراده بدليل آخر لفظي منفصل فهنا أريد به خلاف الظاهر ففي تسمية المراد خلاف الظاهر كالعام المخصوص بدليل منفصل وإن كان الصارف عقليا ظاهرا ففي تسمية المراد خلاف الظاهر خلاف مشهور في أصول الفقه

وبالجملة فإذا عرف المقصود فقولنا هذا هو الظاهر أليس هو الظاهر خلاف لفظي فإن كان الحالف ممن في عرف خطابه أن ظاهر هذه الآية مما هو مماثل لصفات المخلوقين فقد حنث وإن كان في عرفه خطابه أن ظاهرها هو ما يليق بالله تعالى لم يحنث وإن لم يعلم عرف أهل ناحيته في هذه اللفظة ولم يكن سبب يستدل به على مراده وتعذر العلم بنيته فقد جاز أن يكون أراد معنى صحيحا وجاز أن يكون أراد معنى باطلا فلا يحنث بالشك وهذا كله تفريع على قوله من يقول إن من حلف على شيء يعتقده كما حلف عليه فتبين بخلافه حنث وأما على قوله من لم يحنث فالحكم في يمينه ظاهر

واعلم أن عامة من ينكر هذه الصفة وأمثالها إذا بحثت عن الوجه الذي أنكروه وجدتهم قد اعتقدوا أن ظاهر هذه الآية كاستواء المخلوقين أو استواء يستلزم حدوثا أو نقصا ثم حكوا عن مخالفهم هذا القول ثم تعبوا في إقامة الأدلة على بطلانه ثم يقولون فيتعين تأويله إما بالاستيلاء أو بالظهور والتجلي أو بالفضل والرجحان الذي هو علو القدر والمكانة ويبقى المعنى الثالث هو استواء يليق بجلاله تكون دلالة هذا اللفظ عليه كدلالة لفظ العلم والإدارة والسمع والبصر على معانيها قد دل السمع عليه بل من أكثر النظر في آثار الرسول علم بالاضطرار أنه قد ألقى إلى الأمة أن ربكم الذي تعبدونه فوق كل شيء وعلى كل شيء فوق العرش فوق السموات وعلم أن عامة السلف كان هذا عندهم مثل ما عندهم أن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه لا ينقل عن واحد لفظ يدل لا نصا ولا ظاهرا على خلاف ذلك ولا قال أحد منهم يوما من الدهر أن ربنا ليس فوق العرش أو أنه ليس على العرش أو أن استوائه على العرش كاستواء على البحر إلى غير ذلك من ترهات الجهمية ولا مثل استوائه باستواء المخلوقين ولا أثبت له صفة تستلزم حدوثا أو نقصا والذي يبين لك خطأ من أطلق الظاهر على المعنى الذي يليق بالخلق أن الألفاظ نوعان:

أحدهما ما معناه مفرد كلفظ الأسد والحمار والبحر والكلب فهذا إذا قيل أسد الله وأسد رسوله أو قيل للبليد حمار أو قيل للعالم أو السخي أو الجواد من الخيل بحر أو قيل للأسد كلب فهذا مجاز ثم إن قرنت به قرينة تبين المراد كقول النبي لفرس أبي طلحة: [ إن وجدناه لبحرا ] وقوله: [ إن خالدا سيف من سيوف الله سله الله على المشركين ]

وقوله لعثمان: [ إن الله قمصك قميصا ] وقول ابن عباس: الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن استلمه وصافحه فكأنما بايع ربه أو كما قال ونحو ذلك فهنا اللفظ فيه تجوز وإن كان قد ظهر من اللفظ مراد صاحبه وهو محمول على هذا الظاهر في استعمال هذا المتكلم لا على الظاهر على الوضع الأول وكل من سمع هذا القول علم المراد به وسبق ذلك إلى ذهنه بل أحال إرادة المعنى الأول

وهذا يوجب أن يكون نصا لا محتملا وليس حمل اللفظ على هذا المعنى من التأويل الذي هو صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح في شيء وهذا أحد مثارات غلط الغالطين في هذا الباب حيث يتوهم أن المعنى المفهوم من هذا اللفظ مخالف للظاهر وأن اللفظ يؤول

النوع الثاني: من الألفاظ ما في معناه إضافة إما بأن يكون المعنى إضافة محضة كالعلو والسفول وفوق وتحت ونحو ذلك أن يكون معنى ثبوتيا فيه إضافة كالعلم والحب والقدرة والعجز والسمع والبصر فهذا النوع من الألفاظ لا يمكن أن يوجد له معنى مفرد بحسب بعض موارده لوجهين:

أحدهما: أنه لم يستعمل مفردا قط

الثاني: أن ذلك يلزم منه الاشتراك أو المجاز بل يجعل حقيقة في القدر المشترك بين موارده وما نحن فيه من هذا الباب فإن لفظ استوى لم تستعمله العرب في خصوص جلوس الآدمي مثلا على سريره حقيقة حتى يصير في غيره مجازا كما أن لفظ العلم لم تستعمله العرب في خصوص جلوس الآدمي مثلا على سريره حقيقة حتى يصير في غيره مجازا كما أن لفظ العلم لم تستعمله العرب في خصوص العرض القائم بقلب البشر المنقسم إلى ضروري ونظري حقيقة واستعمله في غيره مجازا بل هذا المعنى تارة يستعمل بلا تعدية كما في قوله تعالى: { ولما بلغ أشده واستوى } وتارة يعدى بحرف الغاية كقوله تعالى: { ثم استوى إلى السماء } تارة يعدى بحرف الاستعلاء ثم هذا تارة يكون صفة لله وتارة يكون صفة لخلقه فلا يجب أن يجعل في أحد الموضعين حقيقة وفي الآخر مجازا ولا يجوز أن يفهم من استواء الله تعالى الخاصية التي تثبت للمخلوق دون الخالق كما في قوله تعالى: { والسماء بنيناها بأيد } وقوله تعالى: { مما عملت أيدينا } وقوله تعالى: { صنع الله الذي أتقن كل شيء } وقوله تعالى: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } { وكتبنا له في الألواح } فهل يستحل مسلم أن يثبت لربه خاصية الآدمي الباني والصانع العامل الكاتب أم يستحل أن ينفي عنه حقيقة العمل والبناء كما يختص به ويليق بجلاله أم يستحل أن يقول هذه الألفاظ مصروفة عن ظاهرها أم الذي يجب أن يقول عمل كل أحد بحسبه فكما أن ذاته ليست مثل ذوات خلقه فعمله وصنعه وبناؤه ليس مثل عملهم وصنعهم وبنائهم ونحن لم نفهم من قولنا بنى فلان وكتب فلان ما في عمله من المعالجة والتأثرة إلا من جهة عملنا بحال الباني لا من جهة مجرد اللفظ ففرق أصلحك الله بين ما دل مجرد اللفظ الذي هو لفظ الفعل وما يدل عليه بخصوص إضافته إلى الفاعل المعين وبهذا ينكشف لك كثير ما يشكل على كثير من الناس وترى مواقع اللبس في كثير من هذا الباب والله يوفقنا وسائر إخواننا المؤمنين لما يحبه ويرضاه من القول والعمل ويجمع قلوبنا على دينه الذي ارتضاه لنفسه وبعث به رسول


الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16