الفتاوى الكبرى/مسائل منثورة/5
1042 - / 18 - مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن جندي له أقطاع ونسخ بيده صحيح مسلم والبخاري والقرآن وهو ناوي كتابة الحديث والقرآن العظيم وإن سمع بورق أو أقلام اشترى بألف درهم وقال أنا إن شاء الله أكتب في جميع هذا الورق أحاديث الرسول والقرآن ويؤمل آمالا بعيدة فهل يأثم أم لا؟
وأي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة: الزمخشري أم القرطبي أم البغوي أو غير هؤلاء
وإذا نسخ الإنسان لنفسه أو للبيع يكون له أجر وسوا مثل إحياء علوم الدين وقوت القلوب ومثل كتاب المنطق أفتونا
الجواب: ليس عليه إثم فيما ينويه ويفعله من كتابة العلوم الشرعية فإن كتابة القرآن والأحاديث الصحيحة والتفاسير الموجودة الثابتة من أعظم القربات والطاعات
وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري فإنه يذكر مقالات السلف بالاسانيد الثابتة وليس فيه بدعة ولا ينقل عن المتهمين كمقاتل بن بكير والكلبي
والتفاسير المأثورة بالاسانيد كثيرة كتفسير عبد الرزاق وعبد بن حميد ووكيع ابن أبي قتيبة وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه
وأما التفاسير الثلاثة المسؤول عنها فأسلمها من البدعة والأحاديث الضعيفة البغوي لكنه مختصر في تفسير الثعلبي وحذف منه الأحاديث الموضوعة والبدع التي فيه وحذف أشياء غير ذلك
وأما الواحدي فإنه تلميذ الثعلبي وهو أخبر منه بالعربية لكن الثعلبي فيه سلامة من البدع وإن ذكرها تقليدا لغيره وتفسيره وتفسير الواحدي البسيط والوسيط والوجيز فيها فوائد جليلة وفيها غث كثير من المنقولات الباطلة وغيرها
وأما الزمخشري فتفسيره محشو بالبدعة وعلى طريقة المعتزلة من إنكار الصفات والرؤية والقول بخلق القرآن وأنكر أن الله مريد للكائنات وخالق لأفعال العباد وغير ذلك من أصول المعتزلة
وأصولهم خمسة يسمونها التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن معين التوحيد عندهم يتضمن نفي الصفات ولهذا سمى ابن التومر اصحابه الموحدين وهذا إنما هو إلحاد في أسماء الله وآياته ومعنى العدل عندهم يتضمن التكذيب بالقدر وهو خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات القدرة على شيء ومنهم من ينكر مقدم العلم والكتاب لكن هذا قول أئمتهم وهؤلاء منصب الزمخشري فإن مذهبه مذهب المغيرة بن علي وأبي هاشم وأتباعهم ومذهب أبي الحسين
والمعتزلة الذين على طريقته نوعان مسايخية وخشبية وأما المنزلة بين المنزلتين فهي عندهم أن الفاسق لا يسمى مؤمنا بوجه من الوجوه كما لا يسمى كافرا فنزلوه بين منزلتين وإنفاذ الوعيد عندهم معناه أن فساق الملة مخلدون في النار لا يخرجون منها بشفاعة ولا غير ذلك كما تقوله الخوارج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتضمن عندهم أكثر الناس إليها ولا لمقاصده فيها مع ما فيه من الأحاديث الموضوعة ومن قلة النقل عن الصحابة والتابعين
وتفسير القرطبي خير منه بكثير وأقرب إلى طريقة أهل الكتاب والسنة وأبعد عن البدع وإن كان كل من كتب هذه الكتب لا بد أن تشتمل على ما ينقد لكن يجب العدل بينهما وإعطاء كل ذي حق حقه
وتفسير ابن عطية خير من تفسير الزمخشري وأصح نقلا وبحثا وأبعد عن البدع وإن اشتمل على بعضها بل هو خير منه بكثير بل لعله أرجح هذه التفاسير لكن تفسير ابن جرير أصح من هذه كلها
وثم تفاسير أخر كثيرة جدا كتفسير ابن الجوزي والماوردي
وأما كتاب قوت القلوب وكتاب الأحياء تبع له فيما يذكره من أعمال القلوب مثل الصبر والشكر والحب والتوكل والتوحيد ونحو ذلك وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي وكلامه أشد وأجود تحقيقا وأبعد عن البدعة من أن في قوت القلوب أحاديث ضعيفة وموضوعة وأشياء مردودة كثيرة
وأما ما في الأحياء من المهلكات مثل الكلام على الكبر والعجب والرياء والحسد ونحو ذلك فغالبه منقول من كلام الحارث المحاسبي في الرعاية ومنه ما هو مقبول ومنه ما هو مردود ومنه ما هو متنازع فيه والإحياء فيه فوائد كثيرة لكن فيه مواد مذمومة فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد - فإذا ذكرت معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدوا للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه وقالوا: أمرضه الشفاء يعني شفاء ابن سينا في الفلسفة - وفيه أحاديث وآثار ضعيفة بل موضوعة كثيرة وفيه أشياء من أغاليط الصوفية وترهاتهم وفيه مع ذلك من كلام المشايخ الصوفية العارفين المستقيمين في أعمال القلوب الموافق للكتاب والسنة ومن غير ذلك من العبادات والأدب ما هو موافق للكتاب والسنة ما هو أكثر مما يرد منه فلهذا اختلف فيه اجتهاد الناس وتنازعوا فيه
وأما كتب الحديث المعروفة مثل البخاري ومسلم فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن وبعدهما ما جمع بينهما مثل الجمع بين الصحيحين للحميدي ولعبد الحق الاشبيلي وبعد ذلك كتب السنن كسنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي والمسانيد كمسند الشافعي ومسند الإمام أحمد وموطأ مالك فيه الأحاديث والآثار وغير ذلك وهو من أجل الكتب حتى قال الشافعي: ليس تحت أديم الاسماء بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك يعني بذلك ما صنف على طريقته فإن المتقدمين كانوا يجمعون في الباب بين المأثور عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين ولم تكن وضعت كتب الرأي التي تسمى كتب الفقه
وبعد هذا جمع الحديث المسند في جمع الصحيح للبخاري ومسلم والكتب التي تحب ويؤجر الإنسان على كتابتها سواء كتبها لنفسه أو كتبها لبيعها كما قال النبي ﷺ: [ إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه والرامي به والممد به ] فالكتابة كذلك لينتفع به أو لينتفع به غيره كلاهما يثاب عليه
وأما كتب المنطق فتلك تشتمل على علم يؤمر به شرعا وإن كان قد أدى اجتهاد بعض الناس إلى أنه فرض على الكفاية وقال بعض الناس أن العلوم لا تقوم إلا به كما ذكر ذلك أبو حامد فهذا غلط عظيم عقلا وشرعا - أما عقلا فإن جميع عقلاء بني آدم من جميع أصناف المتكلمين في العلم حرزوا علومهم بدون المنطق اليوناني - وأما شرعا فإنه من المعلوم بالاضطرار في دين الإسلام أن الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان - وأما هو في نفسه فبعضه حق وبعضه باطل والحق الذي فيه كثير منه أو أكثره لا يحتاج إليه والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به والبليد لا يتنفع به والذكي لا يحتاج إليه ومضرته على من لم يكن خبيرا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه فإن فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء وكانت سبب نفاقهم وفساد علومهم - قول من قال أنه كله حق كلام باطل بل في كلامهم في الحد والصفات الذاتية والعرضية وأقسام القياس والبرهان وموارده من الفساد ما قد بيناه في غير هذا الموضع وقد بين ذلك علماء المسلمين الله أعلم
1043 - / 19 - مسألة: سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عما يروى عن النبي ﷺ عن الله عز وجل قال: [ ما وسعني لاسمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ]
أجاب: الحمد لله هذا ما ذكروه في الإسرائيليات ليس له إسناد معروف عن النبي ﷺ ومعناه وضع قلبه محبتي ومعرفتي
وما يروى: القلب بيت الرب هذا من جنس الأول فإن القلب بيت الإيمان بالله تعالى ومعرفته ومحبته
وما يروونه: كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي فبي عرفوني هذا ليس من كلام النبي ﷺ ولا أعرف له إسنادا صحيحا ولا ضعيفا
وما يروونه عن النبي ﷺ: أن الله خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أشرف منك فبك آخذ وبك أعطي هذا الحديث باطل موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث
وما يروونه: حب الدنيا رأس كل خطيئة هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي وأما عن النبي ﷺ فليس له إسناد معروف
وما يروونه: الدنيا خطوة رجل مؤمن هذا لا يعرف عن النبي ﷺ ولا غيره من سلف الأمة ولا أئمتها
وما يروونه: من بورك له في شيء فليلزمه ومن ألزم نفسه شيئا لزمه
الأول: يؤثر عن بعض السلف. الثاني: باطل فإن من ألزم نفسه شيئا قد يلزمه وقد لا يلزمه بحسب ما يأمر به الله ورسوله
وما يروونه عن النبي ﷺ: اتخذوا مع الفقراء أيادي فإن لهم في غد دولة وأي دولة الفقر فخري وبه افتخر كلاهما كذب لا يعرف في شيء من كتب المسلمين المعرفة
وما يروونه عن النبي ﷺ: أنا مدينة العلم وعلي بابها هذا الحديث ضعيف بل موضوع عند أهل العلم بالحديث ولكن قد رواه الترمذي وغيره ووقع هذا وهو كذب
وما يروونه: أنه ﷺ يقعد الفقراء يوم القيامة ويقول: وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنكم لهوانكم علي ولكن أردت أن أرفع قدركم في هذا اليوم انطلقوا إلى الموقف فمن أحسن إليكم بكسرة أو سقاكم شربة ماء أو كساكم خرقة انطلقوا به إلى الجنة قال الشيخ: الثاني كذب لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث وهو باطل خلاف الكتاب والسنة والإجماع
وما يروونه عن النبي ﷺ لما قدم إلى المدينة خرجن بنات النجار بالدفوف وهن يقلن: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع إلى آخر الشعر فقال لهن رسول الله ﷺ: هزوا غرابيلكم بارك الله فيكم حديث النسوة وضرب الدف في الأفراح صحيح فقد كان على عهد رسول الله ﷺ وأما قوله: هزوا غرابيلكم هذا لا يعرف عنه
وما يرونه عن النبي ﷺ أنه قال: اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك هذا حديث باطل كذلك وقد رواه الترمذي وغيره بل إنه قال لمكة: إنك أحب بلاد الله إلي وقال: إنك لأحب البلاد إلى الله
وما يروونه عن النبي ﷺ: من زارني وزار أبي إبراهيم في عام دخل الجنة هذا كذب موضوع ولم يروه أحد من أهل العلم بالحديث
وما يروونه عن علي رضي الله عنه: أن أعرابيا صلى ونقر صلاته فقال علي: لا تنقر صلاتك فقال الأعرابي: يا علي لو نقرها أبوك ما دخل النار هذا كذب
وما يروونه عن عمر أنه قتل أباه هذا كذب فإن أباه مات قبل مبعث النبي ﷺ
وما يروونه عن النبي ﷺ: كنت نبيا وآدم بين الماء والطين وكنت وآدم لا ماء ولا طين هذا اللفظ كذلك باطل
وما يروونه: العازب فراشه من نار مسكين رجل بلا امرأة ومسكينة امرأة بلا رجل هذا ليس من كلام النبي ﷺ
ولم يثت عن إبراهيم الخليل عليه السلام لما بنى البيت صلى في كل ركن الف ركعة فأوحى الله تعالى إليه: يا إبراهيم ما هذا سد جوعة أو ستر عورة هذا كذب ظاهر ليس هو في شيء من كتب المسلمين
وما يروونه: لا تكرهوا الفتنة فإن فيها حصاد المنافقين هذا ليس معروفا عن النبي ﷺ
وما يروونه: من علم أخاه آية من كتاب الله ملك رقه هذا كذب ليس في شيء من كتب أهل العلم
وما يروونه عن النبي ﷺ: اطلعت على ذنوب أمتي فلم أجد أعظم ذنبا ممن تعلم آية ثم نسيها وإذا صح هذا الحديث فهذا عنى بالنسيان التلاوة ولفظ الحديث أنه قال: [ يوجد من سيئات أمتي الرجل يؤتيه الله آية من القرآن فينام عنها حتى ينساها ] والنسيان الذي هو بمعنى الإعراض عن القرآن وترك الإيمان والعمل به وأما إهمال درسه حتى ينسى فهو من الذنوب
وما يروونه: إن آية من القرآن خير من محمد وآل محمد القرآن كلام الله منزل غير مخلوق فلا يشبه بغيره اللفظ المذكور غير مأثور
وما يروونه عن النبي ﷺ: من علم علما نافعا وأخفاه عن المسلمين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار وهذا معناه معروف في السنن عن النبي ﷺ: [ من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ]
وما يروونه عن النبي ﷺ: إذا وصلتم إلى ما شجر بين أصحابي فامسكوا وإذا وصلتم إلى القضاء والقدر فأمسكوا هذا مأثور بأسانيد منقطعة
وما يروونه عن النبي ﷺ أنه قال لسلمان الفارسي وهو يأكل العنب: دو دو يعني عنبتين عنبتين هذا ليس من كلام النبي ﷺ وهو باطل
وما يروونه عن النبي ﷺ: من زنى بامرأة فجاءت منه ببنت فللزاني أن يتزوج بابنته من الزنا وهذا يقوله من ليس من أصحاب الشافعي وبعضهم ينقله عن الشافعي ومن أصحاب الشافعي من أنكر ذلك عنه وقال: إنه لم يصرح بتحليل ذلك ولكن صرح بحل ذلك من الرضاعة إذا رضع من لبن المرأة الحامل من الزنا وعامة العلماء كأحمد وأبي حنيفة وغيرهما متفقون على تحريم ذلك وهذا أظهر القولين في مذهب مالك
ما يروونه: أحق ما أخذتم عليه أجرة كتاب الله نعم ثبت ذلك أنه قال: [ أحق ما أخذتم عليه أجرة كتاب الله ] لكنه في حديث الرقية وكان الجعل على عافية مريض القوم لا على التلاوة
وهل يحرم اتخاذ أبراج الحمام إذا طارت من الأبراج تحط على زراعات الناس وتأكل الحب فهل يحرم اتخاذ أبراج الحمام في القرى والبلدان لهذا السبب؟ نعم إذا كان يضر بالناس منع منه
وما يروونه عن النبي ﷺ: من ظلم ذميا كان الله خصمه يوم القيامة أو كنت خصمه يوم القيامة هذا ضعيف لكن المعروف عنه أنه قال: [ من قتل معاهدا بغير حق لم يرح رائحة الجنة ]
وما يروونه عنه: من أسرج سراجا في مسجد لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في المسجد ضوء ذلك السراج هذا لا أعرف له إسنادا عن النبي ﷺ
1044 - / 20 - مسألة: وردت هذه المسألة من أصبهان على الشيخ الإمام العالم شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية وسئل أن يشرح ما ذكره نجم الدين بن حمدان في آخر كتاب الرعاية وهو قوله: من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقلييد أو عذر آخر
ويبين لنا ما أشكل علينا من كون بعض المسائل يذكر فيها في الكافي والمحور والمقنع والرعاية والخلاصة والهداية روايتاه أو وجهان ولم يذكر الأصح والأرجح فلا ندري بأيهما نأخذ وإن سألونا عنه أشكل علينا؟
أجاب: الحمد لله أما هذه الكتب التي يذكر فيها روايتان أو وجهان ولا يذكر فيها الصحيح فطالب العلم يمكنه معرفة ذلك من كتب أخرى مثل: كتاب التعليق للقاضي أبي يعلى والانتصار لأبي الخطاب وعمدة الأدلة لابن عقيل وتعليق القاضي يعقوب البرزيني وأبي الحسن الزاغوني وغير ذلك من الكتب الكبار التي يذكر فيها مسائل الخلاف ويذكر فيها الراجح
وقد اختصرت رؤوس مسائل هذه الكتب في كتب مختصرة مثل رؤوس المسائل للقاضي أبي يعلى ورؤوس المسائل للشريف أبي جعفر ورؤوس المسائل لأبي الخطاب وورؤوس المسائل للقاضي أبي الحسين وقد نقل عن الشيخ أبي البركات صاحب المحرر أنه كان يقول لمن يسأله عن ظاهر مذهب أحمد أنه ما رجحه أبو الخطاب في رؤوس مسائله ومما يعرف منه ذلك: كتاب المغني للشيخ أبي محمد وكتاب شرح الهداية لجدنا أبي البركات وقد شرح الهداية غير واحد كأبي حليم النهرواني وأبي عبد الله بن تيمية صاحب التفسير الخطيب عم أبي البركات وأبي المعالي بن المنجا وأبي البقاء النحوي لكن لم يكمل ذلك
وقد اختلف الأصحاب فيما يصححونه فمنهم من يصحح رواية ويصحح آخرون رواية فمن عرف ذلك نقله ومن ترجح عنده قول واحد على قول آخر اتبع القول الراجح ومن كان مقصوده نقل مذهب أحمد نقل ما ذكروه من اختلاف الروايات والوجوه والطرق كما ينقل أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ومالك مذاهب الأئمة فإنه في كل مذهب من اختلاف الأقوال عن الأئمة واختلاف أصحابهم في معرفة مذهبهم ومعرفة الراجح شرعا ما هو معروف
ومن كان خبيرا بأصول أحمد ونصوصه عرف الراجح في مذهبه في عامة المسائل وإن كان له بصر بالأدلة الشرعية عرف الراجح في الشرع وأحمد كان أعلم من غيره بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولهذا لا يكاد يوجد له قول يخالف نصا كما يوجد لغيره ولا يوجد له قول ضعيف في الغالب إلا وفي مذهبه قول يوافق القول الأقوى وأكثر مفاريده التي لم يختلف فيها مذهبه يكون قوله فيها راجحا كقوله فسخ الإفراد والقران إلى التمتع وقبوله شهادة أهل الذمة على المسلمين عند الحاجة كالوصية في السفر وقوله بتحريم نكاح الزانية حتى تتوب وقوله بجواز شهادة العبد وقوله بأن السنة للمتيمم أن يمسح الكوعين بضربة واحدة وقوله: في المستحاضة بأنها تارة ترجع إلى التمييز وتارة ترجع إلى غالب عادات النساء فإنه روي عن النبي ﷺ فيها ثلاث سنن عمل بالثلاثة أحمد دون غيره
وقوله: بجواز المساقاة والمزارعة على الأرض البيضاء والتي فيها شجر وسواء كان البذر منهما أو من أحدهما وجواز ما يشبه ذلك وإن كان من باب المشاركة ليس من باب الإجارة ولا هو على خلاف القياس ونظير هذا كثير
وأما ما يسميه بعض الناس مفردة لكونه انفرد بها عن أبي حنيفة والشافعي مع أن قول مالك فيها موافق لقول أحمد أو قريب منه وهي التي صنف لها الهراسي ردا عليها وانتصر لها جماعة كابن عقيل والقاضي أبي يعلى الصغير وأبي الفرج بن الجوزي وأبي محمد بن المثنى فهذه غالبها يكون قول مالك وأحمد أرجح من القول الآخر وما يترجح فيها القول الآخر يكون مما اختلف فيه قول أحمد وهذا كإبطال الحيل المسقطة للزكاة والشفعة ونحو ذلك الحيل المبيحة للربا والفواحش ونحو ذلك
وكاعتبار المقاصد والنيات في العقود والرجوع في الأيمان إلى سبب اليمين وما هيجها مع نية الحالف وكإقامة الحدود على أهل الجنايات كما كان النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون يقيمونها كما كانوا يقيمون الحد على الشارب برائحة والقيء ونحو ذلك وكاعتبار العرف في الشروط وجعل الشرط العرفي كالشرط اللفظي والاكتفاء في العقود المطلقة بما يعرفه الناس وأن ما عده الناس بيعا فهو بيع وما عدوه إجارة فهو إجارة وما عدوه هبة وما عدوه وقف فهو وقف لا يعتبر في لفظ معين ومثل هذا كثير
فصل
وأما قول الشيخ نجم الدين بن حمدان: من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد أو عذر آخر فهذا يراد به شيئان:
أحدهما: أن من التزم مذهبا معينا ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ومن غير عذر شرعي يبيح له فعله فإنه يكون متبعا لهواه وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلا للتحريم بغير عذر شرعي وهذا منكر
وهذا المعنى هو الذي أراد الشيخ نجم الدين رحمه الله وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما ثم يعتقده غير واجب أو محرم بمجرد هواه مثل أن يكون طالبا لشفعة الجوار فيعتقدها أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقدها أنها ليست ثابتة أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الأخوة تقاسم الجد فإذا صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الأخوة أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها كشرب النبيذ المختلف فيه ولعب الشطرنج وحضور السماع اعتقد أن هذا ينبغي أن يهجر وينكر عليه فإذا فعل ذلك صديقه اعتقد ذلك أن هذا من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر فمثل هذا ممن يكون في اعتقاد حل الشي وحرمته ووجوبه وسقوطه بسبب هواه هو مذموم مجروح خارج عن العدالة وقد نص أحمد وغيره على أن هذا لا يجوز
وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن ترى أحد رجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر أو هو أتقى لله فيما يقول فيرجح عن قول إلى قول لمثل هذا فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد على ذلك وما ذكره ابن حمدان المراد به القسم الأول ولهذا قال من التزم مذهبا أنكر عليه مخالفته بغير دليل أو تقليد يسوغ له أن يقلد في خلافه أو عذر شرعي أباح المحظور الذي يباح بمثل ذلك العذر لم ينكر عليه
وهنا مسألة ثانية قد يظن أنه أرادها ولم يردها لكنا نتكلم على تقدير غرادتهما وهو أن من التزم مذهبا لم يكن له أن ينتقل عنه قاله بعض أصحاب أحمد وكذلك غير هذا ما يذكره ابن حمدان وغيره يكون مما قاله بعض أصحابه وإن لم يكن منصوصا عنه وكذلك ما يوجد في كتب أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة كثير منه يكون مما ذكره بعض أصحابهم وليس منصوصا عنهم بل قد يكون خلاف ذلك
وأصل هذه المسألة أن العامي هل عليه أن يلتزم مذهبا معينا يأخذ بعزائمه ورخصه؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد وهما وجها لأصحاب الشافعي والجمهور من هؤلاء وهؤلاء لا يوجبون ذلك والذين أوجبوه يقولون إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما له أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه
ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني مثل أن يلتزم مذهبا لحصول غرض دنيوي من مال أو جاه ونحو ذلك فهذا مما لا يحمد عليه بل يذم عليه في نفس الأمر ولو كان ما انتقل إليه خيرا مما انتقل عنه وهو بمنزلة من يسلم لا يسلم إلا لغرض دنيوي أو يهاجر من مكة إلى المدينة لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها
وقد كان في زمن النبي ﷺ رجل هاجر إلى امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قيس فقال النبي ﷺ على المنبر في الحديث الصحيح: [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ]
وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني مثل أن يتبين له رجحان قول على قول فرجع إلى القول الذي يرى أنه أقرب إلى الله ورسوله فهو مثاب على ذلك بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل ولا يتبع أحدا في مخالفة حكم الله ورسوله فإن الله فرض طاعة رسوله ﷺ على كل أحد في كل حال فقال تعالى: { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم }
وقد صنف الإمام أحمد كتابا في طاعة الرسول ﷺ وهذا متفق عليه بين أئمة المسلمين فطاعة الله ورسوله وتحليل ما أحله الله ورسوله وتحريم ما حرمه الله ورسوله وإيجاب ما أوجبه الله ورسوله واجب على جميع الثقلين الإنس والجن واجب على كل أحد في كل حال سرا وعلانية لكن لما كان من الأحكام ما لا يعرفه كثير من الناس رجع الناس في ذلك إلى من يعلمهم ذلك لأنه أعلم بما قال الرسول وأعلم بمراده
فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده بحسب اجتهادهم واستطاعتهم وقد يخص الله هذا العالم من العلم والفهم ما ليس عند الآخر
وقد يكون عند ذلك في مسألة أخرى من العلم ما ليس عند هذا وقد قال تعالى: { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما }
فهذان نبيان كريمان حكما في قضية واحدة فخص الله أحدهما بالفهم وأثنى على كل منهما والعلماء ورثة الأنبياء واجتهاد العلماء في الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة فإذا كان أربعة أنفس يصلي كل واحد بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن الكعبة هناك فإن صلاة الأربعة صحيحة والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد فأخطأ فله أجر ]
وأكثر الناس إنما التزموا المذاهب بل الأديان بحكم ما تبين لهم فإن الإنسان ينشأ على دين أبيه أو سيده أو أهل بلده كما يتبع الطفل في الدين أبويه وسادته وأهل بلده ثم إذا بلغ الرجل فعليه أن يلتزم طاعة الله ورسوله حيث كانت ولا يكون من إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فكل من عدل عن ابتاع الكتاب والسنة وطاعة الله ورسوله إلى عادته وعادة أبيه وقومه فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد وكذلك من تبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله به رسوله ثم عدل عنه إلىعادته فهو من أهل الذم والعقاب
وأما من كان عاجزا عن معرفة ما أمر الله به ورسوله وقد اتبع فيها من هو من أهل العلم والدين ولم يتبين له أن قول غيره أرجح من قوله فهو محمود مثاب لا يذم على ذلك ولا يعاقب
وإن كان قادرا على الاستدلال ومعرفة ما هو الراجح ولو في بعض المسائل فعدل عن ذلك إلى التقليد فهذا قد اختلف فيه فمذهب أحمد المنصوص عنه الذي عليه أصحابه أن هذا آثم أيضا وهذا مذهب الشافعي وأصحابه وحكي عن محمد ابن الحسن وغيره: أنه يجوز له التقليد قيل مطلقا وقيل: يجوز تقليد الأعلم
وحكى بعضهم هذا عن أحمد كما ذكره أبو اسحق في اللمع وهذا غلط على أحمد فإن أحمد إنما يقول هذا في الصحابة فقط على اختلاف عنه في ذلك
وأما مثل مالك والشافعي وسفيان ومثل إسحق بن راهويه وأبي عبيد فقد نص في غير موضع على أنه لا يجوز للعالم القادر على الاستدلال أن يقلدهم وقال: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري وكان يحب الشافعي ويثني عليه ويحب إسحق ويثني عليه ويثني على مالك والثوري وغيرهما من الأئمة ويأمر العامي بأن يستفتي إسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وأبا مصعب وينهي العلماء من أصحابه كأبي داود وعثمان بن سعيد وإبراهيم الحربي وأبي بكر الأثرم وأبي زرعة وأبي حاتم السجستاني ومسلم وغير هؤلاء أن لا يقلدوا أحدا من العلماء ويقول عليكم بالأصل بالكتاب والسنة
فصل
وأما العنب الذي يصير زبيبا فإذا أخرج عنه زبيبا بقدر عشرة لو كان يصير زبيبا جاز وهو أفضل وأجزأه ذلك بلا ريب
ولا يتعين على صاحب المال الإخراج من عين المال لا في هذه الصورة ولا غيرها بل من كان معه ذهب أو فضة أو عرض تجارة أو له حب أو ثمر يجب فيه العشر أو ماشية تجب فيها الزكاة وأخرج مقدار الواجب المنصوص من غير ذلك المال أجزأه فكيف في هذه الصورة
وإن أخرج العشر عنبا ففيه قولان في مذهب أحمد:
أحدهما: وهو المنصوص عنه أنه لا يجزئه
والثاني: يجزئه وهو قول القاضي أبي يعلى وهذا قول أكثر العلماء وهو أظهر
وأما العنب الذي يصير زبيبا لكنه قطعه قبل أن يصير زبيبا فهنا يخرج زبيبا بلا ريب فإن النبي ﷺ كان يبعث سعاته فيخرصون النخل والكرم ويطالب أهله بمقدار الزكاة يابسا وإن كان أهل الثمار يأكلون كثيرا منها رطبا ويأمر النبي ﷺ الخارصين أن يدعوا لأهل الأموال الثلث أو الربع لا يؤخذ منه عشر ويقول: [ إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع ] وفي رواية: [ فإن في المال العرية والرطبة والسائلة ] يعني أن صاحب المال ينتزع بما يعريه من النخل لمن يأكله وعليه ضيف يطأون حديقته يطعمهم ويطعم السائلة وهم أبناء السبيل وهذا الإسقاط مذهب الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء وكذلك في الأولى
وأما الثانية: فما علمت فيها نزاعا فإن حق أهل السهمين لا يسقط باختيار قطعه رطبا إذا كان ييبس نعم لو باع عنبه أو رطبه بعد بدو صلاحه فقد نص أحمد في هذه الصورة على أنه يجزئه إخراج القيمة نزاعا في مذهبه ونصوصه الكثيرة تدل على أنه يجوز ذلك للحاجة ولا يجوز بدون الحاجة والمشهور عند كثير من أصحابه لا يجوز مطلقا وخرجت عنه رواية بالجواز مطلقا ونصوصه الصريحة إنما هي بالفرق
ومثل هذا كثير في مذهبه الشافعي ومذهب الشافعي وغيرهما من الأئمة قد ينص على مسألتين متشابهتين بجوابين مختلفين ويخرج بعض أصحابه جواب كل واحدة إلى الأخرى ويكون الصحيح إقرار نصوصه بالفرق بين المسألتين كما قد نص على أن الوصية للقاتل تجوز بعد الجرح ونص على أن المدبر إذا قتل سيده بطل التدبير
فمن أصحابه من خرج في المسألتين روايتين ومنهم من قال: بل إذا قتل بعد الوصية بطلت الوصية كما يمنع قتل الوارث لمورثه أن يرثه وأما إذا أوصى له بعد الجرح فهنا الوصية صحيحة فإنه وصى بها بعد جرحه ونظائر هذا كثيرة
فصل
وأما المزارعة فإذا كان البذر من العامل أو من رب الأرض أو كان من شخص أرض ومن آخر بذر ومن ثالث العمل ففي ذلك روايتان عن أحمد والصواب أنها تصح في ذلك كله
وأما إذا كان البذر من العامل فهو أولى بالصحة مما إذا كان البذر من المالك إن النبي ﷺ عامل أهل خيبر على أن يعمروها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر وزرع رواه البخاري وغيره
وقصة أهل خيبر هي الأصل في جواز المساقاة والمزارعة وإنما كانوا يبذرون من أموالهم لم يكن النبي ﷺ يعطيهم بذرا من عنده وهكذا خلفاؤه وأصحابه من بعده مثل: عمر وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وغير واحد من الصحابة كانوا يزارعون ببذر من العامل
وقد نص الإمام أحمد في رواية عامة أصحابه في أجوبة كثيرة جدا على أنه: يجوز أن يؤجر الأرض ببعض ما يخرج منها واحتج على ذلك بقصة أهل خيبر وأن النبي ﷺ عاملهم عليها ببعض الخارج منها وهذا هو معنى إجارتهم ببعض الخارج منها إذا كان البذر من العامل فإن المستأجر هو الذي يبذر الأرض
وفي الصورتين للمالك بعض الزرع ولهذا قال من حق هذا الموضع من أصحابه كأبي الخطاب وغيره: إن هذا مزارعة على أن البذر من العامل
وقالت طائفة من أصحابه كالقاضي وغيره: بل يجوز هذا العقد بلفظ الإجارة ولا يجوز بلفظ المزارعة لأنه نص في موضع آخر أن المزارعة يجب أن يكون فيها البذر من المالك
وقالت طائفة ثالثة: بل يجوز هذا مزارعة ولا يجوز مؤاجرة لأن الإجارة عقد لازم بخلاف المزارعة في أحد الوجهين ولأن هذا يشبه قفيز الطحان وروي عن النبي ﷺ أنه نهى عن قفيز الطحان وهو أن يستأجر ليطحن الحب بجزء من الدقيق
والصواب: هو الطريقة الأولى فإن الاعتبار في العقود بالمعاني والمقاصد لا بمجرد اللفظ هذا أصل أحمد وجمهور العلماء وأحد الوجهين في مذهب الشافعي
ولكن بعض أصحاب أحمد قد يجعلون الحكم يختلف بتغاير اللفظ كما قد يذكر الشافعي ذلك في بعض المواضع وهذا كالسلم الحال في لفظ البيع والخلع بلفظ الطلاق والإجارة بلفظ البيع ونحو ذلك مما هو مبسوط في موضعه
وأما من قال أن المزارعة يشترط فيها أن يكون البذر من المالك فليس معهم بذلك حجة شرعية ولا أثر عن الصحابة ولكنهم قاسوا ذلك على المضاربة
قالوا: كما أنه في المضاربة يكون العمل من شخص والمال من شخص فكذلك المساقاة والمزارعة يكون العمل من واحد والمال من واحد والبذر من رب المال
وهذا قياس فاسد لأن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه ويقتسمان الربح فنظيره الأرض أو الشجر يعود إلى صاحبه ويقتسمان الثمر والزرع وأما البذر فإنهم لا يعيدونه إلى صاحبه بل يذهب بلا بدل كما يذهب عمل العامل وعمل بقرة بلا بذل فكان من جنس النفع لا من حنس المال وكان اشتراط كونه من العامل أقرب في القياس مع موافقة هذا المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم فإن منهم من كان يزارع والبذر من العامل وكان عمر يزارع على أنه إن كان البذر من المالك فله كذا وإن كان من العامل فله كذا ذكره البخاري فجوز عمر هذا وهذا من الصواب
وأما الذين قالوا لا يجوز ذلك إجارة لنهيه عن قفيز الطحان فيقال: هذا الحديث باطل لا أصل له وليس هو في شيء من كتب الحديث المعتمدة ولا رواه إمام من الأئمة والمدينة النبوية لم يكن بها طحان يطحن بالأجرة ولا خباز يخبز بالأجرة وأيضا فأهل المدينة لم يكن لهم على عهد النبي ﷺ مكيال يسمى القفيز وإنما حدث هذا المكيال لما فتحت العراق وضرب عليهم الخراج فالعراق لم يفتح على عهد النبي ﷺ وهذا وغيره مما يبين أن هذا ليس من كلام النبي ﷺ وإنما هو من كلام بعض العراقيين الذين لا يسوغون مثل هذا قولا باجتهادهم
والحديث ليس فيه نهيه عن اشتراط جزء مشاع من الدقيق بل عن شء مسمى وهو لقفيز وهو من المزارعة لو شرط لأحدهما زرعه بقعة بعينها أو شيئا مقرا كانت المزارعة فاسدة وهذا هو المزارعة التي نهى عنها النبي ﷺ في حديث رافع بن خديج في حديثه المتفق عليه أنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة بعينها فنهى النبي صلىالله عليه وسلم عن ذلك قد بسط الكلام على هذه المسائل في غير هذا الموضع وبين أن المزارعة أحل من المؤاجرة بأجرة مسماة
وقد تنازع المسلمون في الجميع فإن المزارعة مبناها على العدل إن حصل شيء فهو لهما وإن لم يحصل شيء اشترطا في الحرمان - وأما الإجارة فالمؤجر يقبض الأجرة والمستأجر على خطر قد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل فكانت المزارعة أبعد عن المخاطرة من الإجارة وليست المزارعة مؤاجرة على عمل معين حتى يشترط فيها العمل بالأجرة بل هي من جنس المشاركة كالمضاربة ونحوها وأحمد عنده هذا الباب هو القياس
ويجوز عنده أن يدفع الخيل والبغال الحمير والجمال إلى من يكاري عليها والكراء بين المالك والعامل وقد جاء في ذلك أحاديث في سنن أبي داود وغيره
ويجوز عنده أن يدفع ما يصطاد به الصقر والشباك البهائم وغيرها إلى من يصطاد بها وما حصل بينهما
ويجوز عنده أن يدفع الحنطة إلى من يطحنها وله الثلث أو الربع وكذلك الدقيق إلى من يعجنه والغزل إلى من ينسجه والثياب إلى من يخيطها بجزء في الجميع من النماء وكذلك الجلود إلى من يحذوها نعالا وإن حكي عنه في ذلك خلاف وكذلك يجوز عنده في أظهر الروايتين أن يدفع الماشية إلى من يعمل عليها بجزء من درها ونسلها ويدفع دود القز والورق إلى من يطعمه ويخدمه وله جزء من القز
وأما قول من فرق بين المزارعة والإجارة بأن: الإجارة عقد لازم بخلاف المزارعة - فيقال له هذا ممنوع بل إذا زارعه حولا بعينه فالمزارعة عقد لازم كما تلزم إذا كانت بلفظ الإجارة والإجارة قد لا تكون لازمه كما إذا قال: آجرتك هذه الدار كل شهر بدرهمين فإنها صحيحة في ظاهر مذهب أحمد وغيره وكلما دخل شهر فله فسخ الإجارة - والجعالة في معنى الإجارة وليست عقدا لازما - فالعقد المطلق الذي لا وقت له لا يكون لازما وأما الموقت فقد يكون لازما
فصل
وأما إجارة الأرض بجنس الطعام الخارج منها: كإجارة الأرض لمن يزرعها حنطة أو شعيرا بمقدار معين من الحنطة والشعير فهو أيضا جائز في أظهر الروايتين عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي
وفي الأخرى ينهى عنه كقول مالك - قالوا: لأن المقصود بالإجارة هو الطعام فهو في معنى بيعه بجنسه وقالوا: هو من المخابرة التي نهى عنها النبي ﷺ وهو في معنى المزابنة لأن المقصود بيع الشيء بجنسه جزافا
والصحيح قول الجمهور لأن المستحق بعقد الإجارة هو الانتفاع بالأرض ولهذا إذا تمكن من الزرع ولم يزرع وجبت عليه الأجرة والطعام إنما يحصل بعلمه وبذره وبذره لم يعطه إياه المؤجر فليس هذا من الربا في شيء - ونظير هذا أن يستأجر قوما ليستخرجوا له معدن الذهب أو فضة أو ركازا من الأرض بدراهم أو دنانير فليس هذا كبيع الدراهم بدراهم وكذلك من استأجر من يشق الأرض ويبذر فيها ويسقيها بطعام من عنده وقد استأجره على أن يبذر له طعاما فهذا مثل ذلك
والمخابرة التي نهى عنها النبي ﷺ قد فسرها رافع راوي الحديث بأنها المزارعة التي يشترط فيها لرب الأرض زرع بقعة بعينها
ولكن من العلماء من جعل المزارعة كلها من المخابرة كأبي حنيفة
ومنهم من قال: المزارعة على الأرض البيضاء من المخابرة كالشافعي
ومنهم من قال: المزارعة على أن يكون البذر من العامل من المخابرة
ومنهم من قال: كراء الأرض بجنس الخارج منها من المخابرة كمالك
والصحيح أن المخابرة المنهى عنها كما فسرها به رافع بن خديج وكذلك قال الليث بن سعد: الذي نهى عنه رسول الله ﷺ شيء إذا نظر فيه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه محرم وهذا مذهب عامة فقهاء الحديث كأحمد وإسحاق ن وابن المنذر وابن خزيمة وغيرهم والنبي ﷺ حرم أشياء داخلة فيما حرمه الله في كتابه فإن الله حرم في كتابه الربا والميسر [ وحرم النبي ﷺ بيع الغرر فإنه من نوع الميسر وكذلك بيع الثمار قبل بدو صلاحها وبيع حبل الحبلة وحرم ﷺ بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ] وغير ذلك مما يدخل في الربا - فصار بعض أهل العلم يظنون أنه دخل في العام أو علته العامة أشياء وهي غير داخلة في ذلك كما أدخل بعضهم ضمان البساتين حولا كاملا أو أحوالا لمن يسقيها ويخدمها حتى تثمر فظنوا أن هذا من باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها فحرموه وإنما هذا من باب الإجارة كإجارة الأرض فلما نهى عن بيع الحب حتى يشتد وجوز إجارة الأرض لمن يعمل عليها حتى تنبت
وكذلك نهى عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها ولم ينه أن تضمن لمن يخدمها حتى تثمر ويحصل الثمر بخدمته على ملكه وبائع الثمر والزرع عليه سقيه إلى كمال صلاحه خلاف المؤجر فإنه ليس يسقي ما للمستأجر من ثمر وزرع بل سقي ذلك على الضامن المستأجر وعمر بن الخطاب ضمن حديقة أسيد بن الحضير ثلاث سنين وتسلف كراءها فوفى به دينا كان عليه ونظائر هذا الباب كثيرة
فصل
وأما العشر فهو عند جمهور العلماء: كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم على من نبت الزرع على ملكه كما قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض }
فالأول يتضمن زكاة التجارة - والثاني يتضمن زكاة ما أخرج الله لنا من الأرض فمن أخرج الله له الحب فعليه العشر فإذا استأجر أرضا ليزرعها فالعشر على المستأجر عند هؤلاء العلماء كلهم وكذلك عند أبي يوسف ومحمد وأبو حينفة يقول: العشر على المؤجر
وإذا زرع أرضا على النصف فما حصل للمالك فعليه عشره وما حصل للعامل فعليه عشره على كل واحد منهما عشر ما أخرجه الله له ومن أعير أرضا أو أقطعها أو كانت موقوفة عينه فازدرع فيها زرعا فعليه عشره وإن آجرها فالعشر على المستأجر وإن زارعها فالعشر بينهما
وأصل هؤلاء الأئمة أن العشر حق الزرع ولهذا كان عندهم يجتمع العشر والخراج لأن العشر حق الزرع ومستحقه أهل الزكاة والخراج حق الزرع ومستحقه أهل الفيء فهما حقان لمستحقين بسببين مختلفين فاجتمعا كما لو قتل مسلما خطأ فعليه الدية لأهله والكفارة حقا لله وكما لو قتل صيدا مملوكا وهو محرم فعليه البدل لمالكه وعليه الجزاء حقا لله
وأبو حنيفة قول: العشر حق الأرض فلا يجتمع عليها حقان
وما احتج به الجمهور أن الخراج يجب في الأرض التي يمكن أن تزرع سواء زرعت أو لم تزرع وأما العشر فلا يجب إلا في الزرع والحديث المرفوع لا يجتمع العشر والخراج كذب باتفاق أهل الحديث
فصل
وأما من أدى فرضه إماما أو مأموما أو منفرد فهل يجوز أن يؤم في تلك الصلاة لمن يؤدي فرضه مثل أن يصلي الإمام مرتين هذه فيها نزاع مشهور وفيها ثلاث روايات عن أحمد:
إحداها: أنه لا يجوز وهي اختيار كثير من أصحابه ومذهب أبي حنيفة ومالك
والثانية: يجوز مطلقا وهي اختيار بعض أصحابه كالشيخ أبي محمد المقدسي وهي مذهب مذهب الشافعي
والثالثة: يجوز عند الحاجة كصلاة الخوف
قال الشيخ: وهو اختيار جدنا أبي البركات لأن النبي ﷺ صلى بأصحابه بعض الأوقات صلاة الخوف مرتين وصلى بطائفة وسلم ثم صلى بطائفة أخرى وسلم ومن جوز ذلك مطلقا احتج بحديث معاذ المعروق أنه كان يصلي خلف النبي ﷺ ثم ينطلق فيؤم قومه
وفي رواية فكانت الأولى فرضا له والثانية نفلا والذين منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة فإنهم احتجوا بلقظ لا يدل على محل النزاع
كقوله: [ إنما جعل الإمام ليؤتم به قلا تختلفوا عليه ] وبأن الإمام ضامن فلا تكون صلاته أنقص من صلاة المأموم وليس في هذين ما يدفع تلك الحجج
والاختلاف المراد به الاختلاف في الأفعال كما جاء مفسرا وإلا فيجوز للمأموم أن يعيد الصلاة فيكون متنفلا خلف مفترض كما هو قول جماهير العلماء وقد دل على ذلك قوله في الحديث الصحيح: [ يصلون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ]
[ وأيضا: فإنه صلى بمسجد الخيف فرأى رجلين لم يصليا فقال: ما منعكما أن تصليا قالا: صلينا في رحالنا فقال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة ]
وفي السنن: [ أنه رأى رجلا وحده فقال: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه ]
فهذا قد ثبت صلاة المتنفل خلف المفترض في عدة أحاديث وثبت أيضا بالعكس فعلم أن موافقة الإمام في نية الفرض أو النفل ليست بواجبة والإمام ضامن وإن كان متنفلا
ومن هذا الباب صلاة العشاء الآخرة خلف من يصلي قيام رمضان يصلي خلفه ركعتين ثم يقوم فيتم ركعتين فأظهر الأقوال جواز هذا كله لكن لا ينبغي أن يصلي بغيرهم ثانيا إلا لحاجة أو مصلحة مثل: أن يكون ليس هنالك من يصلح للإمامة غيره أو هو أحق الحاضرين بالإمامة لكونه أعلمهم بكتاب الله وسنة رسوله أو كانوا مستوين في العلم وهو أسبقهم إلى هجرة ما حرم الله ورسوله أو أقدمهم سنا
فإنه قد ثبت في الصحيح: عن النبي ﷺ أنه قال: [ يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ]
فقدم النبي ﷺ بالفضيلة في العلم بالكتاب والسنة فإن استووا في العلم قدم بالسبق إلى العمل الصالح وقدم السابق باختياره وهو المهاجر على من سبق بخلق الله وهو الكبير السن
وقد ثبت في الصحيحين: عن النبي ﷺ أنه قال: [ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ]
فمن سبق إلى هجرة السيئات بالتوبة منها فهو أقدمهم هجرة فيقدم في الإمامة فإذا حضر من هو أحق بالإمامة وكان قد صلى فرضه فإنه يؤمهم كما أم النبي ﷺ لطائفة بعد طائفة من أصحابه مرتين وكما كان معاذ يصلي ثم يؤم قومه أهل قباء لأنه كان أحقهم بالإمامة وقد ادعى بعضهم أن حديث معاذ منسوخ ولم يأتوا على ذلك بحجة صحيحة وما ثبت من الأحكام بالكتاب والسنة لا يجوز دعوى نسخه بأمور محتملة للنسخ وعدم النسخ وهذا باب واسع قد وقع في بعضه كثير من الناس كما هو مبسوط في غير هذا الوضع وكذلك الصلاة على الجنازة إذا صلى عليها الرجل إماما ثم قدم آخرون فله أن يصلي بالطائفة الثانية إذا كان أحقهم بالإمامة وله إذا صلى غيره على الجنازة مرة ثانية أن يعيدها معهم تبعا كما يعيد الفريضة تبعا مثل: أن يصلي في بيته ثم يأتي مسجدا فيه إمام راتب فيصلي معهم فإن هذا مشروع في مذهب الإمام أحمد بلا نزاع وكذلك مذهبه فيمن لم يصل على الجنازة فله أن يصلي عليها بعد غيره وله أن يصلي على القبر إذا فاتته الصلاة هذا مذهب فقهاء الحديث قاطبة كالشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم ومالك لا يرى الإعادة وأبو حنيفة لا يراها إلا للولي
وأما إذا صلى هو على الجنازة ثم صلى عليها غيره فهل له أن يعيدها مع الطائفة الثانية فيه وجهان في مذهب أحمد:
قيل: لا يعيدها قالوا: لأن الثانية نفل وصلاة الجنازة لا يتنفل بها
وقيل: بل له أن يعيدها وهو الصحيح فإن النبي ﷺ لما صلى على قبر مدفون صلى معه من كان صلى عليها أولا وإعادة صلة الجنازة من جنس إعادة الفريضة فتشرع حيث شرعها الله ورسوله وعلى هذا فهل يؤم على الجنازة مرتين؟ على روايتين والصحيح أن له ذلك والله أعلم
1045 - / 21 - مسألة: في حكم البناء في طريق المسلمين الواسع
إذا كان البناء لا يضر في المارة وذلك نوعان:
أحدهما: أن يبني لنفسه فهذا لا يجوز في المشهور من مذهب أحمد وجوزه بعضهم بإذن الإمام وقد ذكر القاضي أبو يعلى ومن خطه نقلته أن هذه المسألة حدثت في أيامه واختلف فيها جواب المفتين فذكر في المسألة حادثة في الطريق الواسع هل يجوز للإمام أن يأذن في حيازة بعضه؟ بينا أن بعضهم أفتى بالجواز وأفتى بعضهم بالمنع وأختاره القاضي وذكر أنه ظاهر كلام أحمد فإنه قال في رواية ابن القاسم: إذا كان الطريق قد سلكه الناس وصير طريقا فليس لأحد أن يأخذ منه شيئا قليلا ولا كثيرا قيل له: وإن كان واسعا مثل الشوارع قال: وإن كان واسعا قال: وهو أشد ممن أخذ حدا بينه وبين شريكه لأن هذا يأخذ من واحد وهذا يأخذ من جماعة المسلمين
قلت: وقد صنف أبو عبد الله بن بطة مصنفا فيمن أخذ شيئا من طريق المسلمين وذكر في ذلك آثارا عن أحمد وغيره من السلف وقد ذكر هذه المسألة غير واحد من المتقدمين والمتأخرين من أصحاب أحمد منهم: الشيخ أبو محمد المقدمي
قال في المغني: وما كان من الشوارع والطرقات والرحبات بين العمران فليس لأحد إحياؤه سواء كان واسعا أو ضيقا وسواء ضيق على الناس بذلك أو لم يضيق لأن ذلك يشترك فيه المسلمون وتتعلق به مصلحتهم فأشبه مساجدهم ويجوز الارتفاق بالعقود في الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا ضيق على أحد ولا يضر بالمار لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار ولأنه ارتفاق بمباح من غير أضرار فلم يمنع كالإحتياز
قال أحمد في السابق إلى دكاكين السوق غدوة فهو له إلى الليل وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى وقد قال النبي ﷺ: [ مني مناخ من سبق ] وله أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية وتابوت وكساء ونحوه لأن الحاجة تدعو إليه من غير مضرة فيه وليس له البناء لا دكة ولا غيرها لأنه يضيق على الناس وتعثر به المارة بالليل والضرير بالليل والنهار ويبقى على الدوام فربما ادعى ملكه بسبب ذلك والسابق أحق به ما دام فيه
قلت: هذا كله فيما إذا بنى الدكة لنفسه كما يدل عليه أول الكلام وآخره ولهذا علل بأنه قد يدعي ملكه بسبب ذلك مع أن تعليله هذه المسألة يقتضي أن المنع إنما يكون في مظنة الضرر فإذا قدر أن البناء يحاذي ما على يمينه وشماله ولا يضر بالمارة أصلا فهذه العلة منتفية فيه وموجب هذا التعليل الجواز إذا انتفت العلة كأحد القولين الذين ذكرهما القاضي
وفي الجملة: في جواز البناء المختص بالباني الذي لا ضرر فيه أصلا بإذن الإمام قولان ونظير هذا إذا أخرج روشنا أو ميزابا إلى الطريق النافذ ولا مضرة فيه فهل يجوز بإذن الإمام؟ على قولين في مذهب أحمد:
أحدهما: يجوز كما اختاره ابن عقيل وأبو البركات
والثاني: لا يجوز كما اختاره غير واحد والمشهور عن أحمد تحريما أو تنزيها وذكر أبو بكر المروزي في كتاب الورع آثارا في ذلك - منها ما نقله المروزي عن أحمد: أنه سقف له دارا وجعل ميزابها إلى الطريق فلما أصبح قال: ادع لي النجار حتى يحول الماء إلى الدار فدعوته له فحوله وقال: إن يحيى القطان كانت مياهه في الطريق فعزم عليها وصيرها إلى الدار
وذكر عن أحمد: أنه ذكر ورع شعيب بن حرب وأنه قال: ليس لك أن تطين الحائط لئلا يخرج إلى الطريق
وسأله المروزي عن الرجل يحتفر في فنائه البئر أو المحرم للعلو؟ قال: لا هذا طريق المسلمين قال المروزي: قلت: إنما هو بئر يحفر ويسد رأسها قال: أليس هي في طريق المسلمين
وسأله ابن الحكم عن الرجل يخرج إلى طريق المسلمين الكنيف أو الإسطوانة هل يكو عدلا؟ قال: لا يكون عدلا ولا تجوز شهادته
وروى أحمد بإسناده عن علي أنه كان يأمر بالمثاعب والكنف تقطع عن طريق المسلمين وعن عائذ بن عمرو المزني قال: لأن يصب طيني في حجلتي أحب إلي من أن يصب في طريق المسلمين
قال: وبلغنا أنه لم يكن يخرج من داره إلى الطريق ماء السماء وقال: فرئي له أنه من أهل الجنة قيل له: بم ذلك؟ قال: تكف أذاه عن المسلمين
ومن جوز ذلك احتج بحديث ميزاب العباس
النوع الثاني: أن يبني في الطريق الواسع ما لا يضر المارة لمصلحة المسلمين مثل بناء مسجد يحتاج إليه الناس أو توسيع مسجد ضيق بإدخال بعض الطريق الواسع فيه أو أخذ بعض الطريق لمصلحة المسجد مثل: حانوت ينتفع به المسجد فهذا النوع يجوز في مذهب أحمد المعروف وكذلك ذكره أصحاب أبي حنيفة ولكن هل يفتقر إلى إذن ولي الأمر على روايتين عن أحمد ومن أصحاب أحمد من لم يحك نزاعا في جواز هذا النوع ومنهم من ذكر رواية ثالثة بالمنع مطلقا والمسألة في كتب أصحاب أحمد القديمة والحديثة من زمن أصحابه وأصحابه إلى زمن متأخري المصنفين منهم كأبي البركات وابن تميم وابن حمدان وغيرهم
وألفاظ أحمد في جامع الخلال والشافي لأبي بكر عبد العزيز وزاد المسافر والمترجم لأبي إسحاق الجوزجاني وغير ذلك قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: سألت أحمد عن طريق واسع وللمسلمين عنه غنى وبهم إلى أني يكون مسجدا حاجة هل يجوز أن يبنى هناك مسجد؟ قال: لا بأس إذا لم يضر بالطريق
ومسائل إسماعيل بن سعيد هذا من أجل مسائل أحمد وقد شرحها أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في كتابه المترجم وكان خطيبا بجامع دمشق هنا وله عن أحمد مسائل وكان يقرأ كتب أحمد إليه على منبر جامع دمشق فأحمد أجاز البناء هنا مطلقا ولم يشترط إذن الإمام وقال له محمد بن الحكم: تكره الصلاة في المسجد الذي يؤخذ من الطريق؟ فقال: أكره الصلاة فيه إلا أن يكون بإذن الإمام فهنا اشترط في الجواز إذن الإمام
ومسائل إسماعيل عن أحمد بعد مسائل ابن الحكم فإن ابن الحكم صحب أحمد قديما ومات قبل موته بنحو عشرين سنة وأما إسماعيل فإنه كان على مذهب أهل الرأي ثم انتقل إلى مذهب أهل الحديث وسأل أحمد متأخرا وسأل معه سليمان بن داود الهاشمي وغيره من علماء أهل الحديث وسليمان كان يقرن بأحمد حتى قال الشافعي: ما رأيت ببغداد أعقل من رجلين أحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمي
وأما الذين جعلوا في المسألة رواية ثالثة فأخذوها من قوله في رواية المروزي حكم هذه المساجد التي قد بنيت في الطريق أن تهدم وقال محمد بن يحيى الكحال: قلت لأحمد: الرجل يزيد في المسجد من الطريق؟ قال: لا يصلي فيه
ومن لم يثبت رواية ثالثة فإنه يقول هذا إشارة من أحمد إلى مساجد ضيقت الطريق وأضرت بالمسلمين وهذه لا يجوز بناؤها بلا ريب فإن في هذا جمعا بين نصوصه فهو أولى من التناقض بينها وأبلغ من ذلك أن أحمد يجوز إبدال المسجد بغيره للمصلحة كما فعل ذلك الصحابة
قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: المسجد يخرب ويذهب أهله ترى أن يحول إلى مكان آخر؟ قال إذا يريد منفعة الناس فنعم وإلا فلا قال: وابن مسعود قد حول الجامع المسجد من التمارين فإذا كان على المنفعة فلا بأس وإلا فلا وقد سألت أبي: عن رجل بنى مسجدا ثم أراد تحويله إلى موضع آخر قال: إن كان الذي بنى المسجد يريد أن يحوله خوفا من لصوص أو يكون موضعه موضعا قذرا فلا بأس
قال أحمد: حدثنا يزيد بن هارون ثنا المسعودي عن القاسم قال: لما قدم عبد الله بن مسعود إلى بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر واتخذ مسجدا عند أصحاب النمر قال فنقب بيت المال فأخذ الرجل الذي نقبه فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب فكتب عمر: أن اقطع الرجل وانقل المسجد واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنه لن يزال في المسجد مصل فنقله عبد الله فخط له هذه الخطة
قال صلاح: قال أبي: يقال أن بيت المال نقب في مسجد الكوفة فحول عبد الله بن مسعود موضع التأذين اليوم في موضع المسجد العتيق يعني أحمد أن المسجد الذي بناه ابن مسعود كان موضع التأذين في زمان أحمد وهذا المسجد هو المسجد العتيق ثم غير مسجد الكوفة مرة ثالثة
وقال أبو الخطاب: سئل أبو عبد الله يحول المسجد؟ قال: إذا كان ضيقا لا يسع أهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه وجوز أحمد أن يرفع المسجد الذي على الأرض ويبنى تحته سقاية للمصلحة وإن تنازع الجيران فقال بعضهم: نحن شيوخ لا تصعد في الدرج واختار بعضهم بناءه فقال أحمد: ينظر إلى ما يختار الأكثر
وقد تأول بعض أصحابه هذا على أنه ابتدأ البناء ومحققو أصحابه يعلمون أن هذا التأويل خطأ لأن نصوصه في غير موضع صريحة بتحويل المسجد لأجل المصلحة مع أن حرمة المسجد أعظم من حرمة سائر البقاع فإنه قد ثبت في صحيح مسلم: عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: [ وأحب البقاع إلى الله مساجدها وأبغض البقاع إلى الله أسواقها ] فإذا جاز جعل البقعة المحترمة المشتركة بين المسلمين بقعة غير محترمة للمصلحة فلأن يجوز جعل المشتركة التي ليست محترمة: كالطريق الواسع بقعة محترمة وتابعة للبقعة المحترمة بطريق الأولى والأحرى فإنه لا ريب أن حرمة المساجد أعظم من حرمة الطرقات وكلاهما منفعة مشتركة