الفتاوى الكبرى/كتاب الصلاة2/1
كتاب الصلاة
وقد تنازع الناس في اسم الصلاة: هل هو من الأسماء المنقول عن مسماها في اللغة أو أنها باقية على ما كانت عليه في اللغة أو أنها تصرف فيها الشارع تصرف أهل العرف فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز وبالنسبة إلى الشارع حقيقة على ثلاثة أقوال
والتحقيق: أن الشارع لم يغيرها ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة كما تستعمل نظائرها كقوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت } فذكر بيتا خاصا فلم يكن لفظ الحج متناولا لكل قصد بل لقصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه ومن كان قبلنا كانت لهم صلاة ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات والهيئات
ولا تلزم الشرائع إلا بعد العلم وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد فعلى هذا لا تلزم الصلاة حربيا أسلم في دار الحرب ولا يعلم وجوبها والوجهان في كل من ترك واجبا قبل بلوغ الشرع من لم يتيمم لعدم الماء لظنه عدم الصحة أو لم يزك أو أكل حتى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لظنه ذلك أو لم تصل مستحاضة والأصح: لا قضاء ولا إثم إذا لم نقصد اتفاقا للعفو عن الخطأ والنسيان ومن عقد عقدا فاسدا مختلفا فيه باجتهاد أو تقليد واتصل به القبض لم يؤمر برده وإن كان مخالفا للنص وكذلك النكاح إذا بان له خطأ الاجتهاد أو التقليد وقد انقضى المفسد لم يفارق وإن كان المفسد قائما فارقها
بقي النظر فيمن ترك الواجب وفعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه ولكن جهلا وإعراضا عن طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه أو من سماع إيجاب هذا وتحريم هذا ولم يلتزمه إعراضا لا كفرا بالرسالة فإن هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي كما ترك الكافر الإسلام فهل يكون حال هذا إذا تاب فأقر بالوجوب والتحريم تصديقا والتزاما بمنزلة الكافر إذا أسلم لأن التوبة تجب ما قبلها كالإسلام
وأما على القول الذي جزمنا بصحته فهذا فيه نظر وقد يقال ليس هذا بأسوأ حالا من الكافر المعاند والتوبة والإسلام يهدمان ما قبلهما ولا تلزم الصلاة صبيا ولو بلغ عشرا وقاله جمهور العلماء وثواب عبادة الصبي له
قلت: وذكره الشيخ أبو محمد المقدسي في غير موضع والله أعلم
ولا يجب قضاء الصلاة على من زال عقله بمحرم وفي الفتاوى المصرية: يلزمه بلا نزاع ومن كفر بترك الصلاة الأصوب أنه يصير مسلما بفعلها من غير إعادة الشهادتين لأن كفره بالامتناع كإبليس وتارك الزكاة كذلك وفرضها متأخروا الفقهاء
مسألة يمتنع وقوعها: وهي أن الرجل إذا كان مقرا بوجوب الصلاة فدعي إليها وامتنع ثلاثا مع تهديده بالقتل فلم يصل حتى قتل هل يموت كافرا أو فاسقا على قولين وهذا الفرض باطل إذ يمتنع أن يعتقد أن الله فرضها ولا يفعلها ويصبر على القتل هذا لا يفعله أحد قط
ومن ترك الصلاة فينبغي الإشاعة عنه بتركها حتى يصلي ولا ينبغي السلام عليه ولا إجابة دعوته والمحافظ على الصلاة أقرب إلى الرحمة ممن لم يصلها ولو فعل ما فعل
ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لغير الجمع وأما المسافر العادم للماء إذا علم أنه يجد الماء بعد الوقت: لا يجوز له التأخير إلى ما بعد الوقت بل يصلي بالتيمم في الوقت بلا نزاع وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا علم بعد الوقت أنه يمكنه أن يصلي بإتمام الركوع والسجود والقراءة: كان الواجب أن يصلي في الوقت بحسب إمكانه
وأما قول بعض أصحابنا: لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لنا وجمعهما أو مشتغل بشرطها فهذا لم يقله أحد قبله من الأصحاب بل ولا من سائر طوائف المسلمين إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي
وهذا لا شك ولا ريب أنه ليس على عمومه وإنما أراد صورا معروفة كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلا يستقي به ولا يفرغ إلا بعد الوقت أو أمكن العريان أن يخيط ثوبا ولا يفرغ إلا بعد الوقت ونحو هذه الصورة ومع هذا فالذي قاله في ذلك هو خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وجماهير العلماء وما أظنه يوافقه إلا بعض أصحاب الشافعي
ويؤيد ما ذكرناه أيضا أن العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية يشتري منها ثوبا ولا يصلي إلا بعد الوقت لا يجوز له التأخير بلا نزاع وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد الأخير إذا ضاق الوقت صلى على حسب حاله وكذلك المستحاضة إذا كان دمها ينقطع بعد الوقت لم يجز لها التأخير بل تصلي في الوقت بحسب حالها
باب المواقيت
بدأ جماعة من أصحابنا كالخرقي والقاضي في بعض كتبه وغيرهما بالظهر ومنهم من بدأ بالفجر كابن أبي موسى وأبي الخطاب والقاضي في موضع وهذا أجود لأن الصلاة الوسطى هي العصر وإنما تكون الوسطى إذا كان الفجر الأول ومن زعم أن وقت العشاء بقدر حصة الفجر في الشتاء وفي الصيف فقد غلط غلطا بينا باتفاق الناس وجمهور العلماء يرون تقدم الصلاة أفضل إلا إذا كان في التأخير مصلحة راجحة مثل المتيمم يؤخر ليصلي آخر الوقت بوضوء والمنفرد يؤخر حتى يصلي آخر الوقت مع جماعة ونحو ذلك ويعمل بقول المؤذن في دخول الوقت مع إمكان العلم بالوقت وهو مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين وكما شهدت له النصوص خلافا لبعض أصحابنا
ومن دخل عليه الوقت ثم طرأ مانع من جنون أو حيض: لا قضاء إلا أن يتضايق الوقت عن فعلها ثم يوجد المانع وهو قول مالك وزفر رواه زفر عن أبي حنيفة ومتى زال المانع من تكليفه في وقت الصلاة لزمته إن أدرك فيا قدر ركعة وإلا فلا وهو قول الليث وقول الشافعي ومقالة في مذهب أحمد
ولا تسقط الصلاة بحج ولا تضعيف في المساجد الثلاثة ولا غير ذلك إجماعا وتارك الصلاة عمدا لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه بل يكثر من التطوع وكذا الصوم وهو قول طائفة من السلف: كأبي عبد الرحمن صاحب الشافعي وداود وأتباعه وليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه وأمره عليه السلام المجامع بالقضاء ضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه
وقال أبو الخطاب في الانتصار إذا مات في أثناء الصلاة قال بعض الحنفية لا يكون عاصيا بالاجماع
وقال أبو الخطاب: يحتمل عصيانه لأنه إنما يجوز له التأخير بشرط سلامة العاقبة كما يجوز له التأخير في قضاء رمضان وقضاء الصلاة والنذر والكفارة وكل ذلك بشرط سلامة العاقبة وإن قلنا لا يعصى وهو الصحيح فلأن ما وجب وجوبا موسعا لا يعصى من أخره إلى آخر الوقت إذا مات كالمسائل التي ذكرناها
قال أبو العباس: أما قضاء الصلاة والنذر والكفارة فعندنا علىالفور وقد قيل أنه على التراخي فلا تناظر المسألة وإنما نظيرها قضاء رمضان فإنه وقت موسع والمذاهب هناك أنه إذا مات بعد استطاعة أطعم عنه المشهور في الصلاة لا يعصى فيتوجه التخريج فيهما كما اقتضاه كلامه
وقال أبو الخطاب اتفق على الإيجاب الموسع في القضاء والحج والكفارة والزكاة والدين المؤجل وهذا غلط فيه ما هو مضيق وما هو على التراخي ويجب قضاء الفوائت على الفور وهو مذهب أحمد وغيره
والنائم ليس عليه أن يفعل الصلاة حال نومه بلا نزاع لكن تنازع العلماء هل وجبت في ذمته؟ بمعنى أنه وجب عليه أن يفعلها إذا استيقظ أو يقال لم تجب في ذمته لكن انعقد سبب وجوبها؟ على قولين وجمهور العلماء: على أنها قضاء ومنهم من يقول: هي أداء والنزاعان لفظيان ويشبه هذا النزاع فيمن غلب على ظنه في الواجب على التراخي أنه يموت في هذا الوقت فإنه يجب تقديمه فلو لم يمت ثم فعله فهل يكون أداء كقول الجمهور أو قضاء كقول الباقلاني وغيره: فيه نزاع ولا تأثير لهذا النزاع في الأحكام وإنما هو نزاع لفظي فقط بل لو اعتقد بقاء الوقت فصلى أداء ثم تبين خروجه أو بالعكس: صحت الصلاة من غير نزاع أعلمه
وقال أبو العباس في قديم خطه: قول الباقلاني قياس المذاهب إذ الاعتبار بحالة غلبة الظن لا بما يخالفها وذلك ما قلنا من غير خلاف أعلمه في المذاهب في المعضوب الذي لا يرجى برؤه إذا حج عن نفسه ثم برأ أنه لا يلزمه إعادة الحج فاعتبرنا حالة غلبة الظن ولم نعتبر تبين فساده ولا أعرف بينهما فرقا
باب الأذان والإقامة
والصحيح أنهما فرض كفاية وهو ظاهر مذهب أحمد وغيره وقد أطلق طوائف من العلماء أن الأذان سنة ثم من هؤلاء من يقول أنه إذا اتفق أهل بلد على تركه قوتلوا والنزاع مع هؤلاء قريب من النزاع اللفظي فإن كثيرا من العلماء من يطلق القول بالسنة على ما يذم تاركه ويعاقب تاركه شرعا
وأما من زعم أنه سنة لا إثم على تاركه فقد أخطأ وليس الأذان بواجب للصلاة الفائتة وإذا صلى وحده أداء أو قضاء وأذن وأقام فقد أحسن وإن اكتفى بالإقامة أجزأه وإن كان يقضي صلوات فأذن أول مرة وأقام لبقية الصلوات كان حسنا أيضا وهو أفضل من الإمامة وهو أصح الروايتين عن أحمد واختيار أكثر أصحابه
وأما إمامته ﷺ وإمامة الخلفاء الراشدين فكانت متعينة عنده فإنها وظيفة الإمام الأعظم ولم يمكن الجمع بينها وبين الأذان فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم وإن كان كثر الناس الأذان أفضل ويتخرج أن لا يجزئ لأذان القاعد لغير عذر كأحد الوجهين في الخطبة وأولى إذ لم ينقل عن أحد من السلف الأذان قاعدا لغير عذر وخطب بعضهم: قاعدا لغير عذر وأطلق أحمد الكراهة والكراهة المطلقة هل تنصرف إلى التحريم أو التنزيه على وجهين
قلت: قال أبو البقاء العبكري في شرح الهداية: نقل عن أحمد إن أذن القاعد يعيد قال القاضي: محمول على نفي الاستحباب وحمله بعضهم على نفي الاعتداد به والله أعلم
وأكثر الروايات عن أحمد المنع من أذان الجنب وتوقف عن الإعادة في بعضها وصرح بعدم الإعادة في بعضها وهو اختيار أكثر الأصحاب وذكر جماعة عنه رواية بالإعادة واختارها الخرقي وفي إحزاء الأذان من الفاسق روايتان أقواهما عدمه لمخالفة أمر النبي ﷺ
وأماترتيب الفاسق مؤذنا فلا ينبغي قولا واحدا والصبي المميز يستخرج أذانه للبالغ روايتان كشهادته وولايته وقال في موضع آخر: اختلف الأصحاب في تحقيق موضع الخلاف منهم من يقول موضع الخلاف سقوط الفرض به والسنة المؤكدة إذا لم يوجد سواه
وأما صحة أذانه في الجملة وكونه جائزا إذا أذن غيره فلا خلاف في جوازه ومنهم من أطلق الخلاف لأن أحمد قال: لا بأس أن يؤذن الغلام قبل أن يحتلم إذا كان قد راهق وقال في رواية علي بن سعيد: وقد سئل عن الغلام يؤذن قبل أن يحتلم فلم يعجبه والأشبه أن الأذان الذي يسقط الفرض عن أهل القرية ويعتمد في وقت الصلاة والصيام لا يجوز أن يباشره صبي قولا ولا يسقط الفرض ولا يعتمد في مواقيت العبادات
وأما الأذان الذي يكون سنة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر ونحو ذلك فهذا فيه الروايتان والصحيح جوازه ويكره أن يوصل الأذان بما قبله مثل قول بعض المؤذنين قبل الأذان: { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا } الآية
ويستحب للمؤذن أن يرفع فمه ووجهه إلى السماء إذا أذن أو أقام ونص عليه أحمد كما يستحب للذي يتشهد الوضوء أن يرفع رأسه إلى السماء
وكما يستحب للمحرم بالصلاة أن يرفع رأسه قليلا لأن التهليل والتكبير إعلان بذكر الله لا يصلح إلا له فاستحب الإشارة له كما تستحب الإشارة بالإصبع الواحدة في التشهد والدعاء هذا بخلاف الصلاة والدعاء إذ المستحب فيه خفض الطرف
وإذا أقيمت الصلاة وهو قائم يستحب له أن يجلس وإن لم يكن صلى تحية المسجد قال ابن منصور: رأيت أبا عبد الله أحمد يخرج عند المغرب فحين انتهى إلى موضع الصف أخذ المؤذن في الإقامة فجلس
والخروج من المسجد بعد الأذان منهى عنه وهل هو حرام أو مكروه في المسألة وجهان إلا أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت فلا يكره الخروج نص عليه أحمد والإقامة كالنداء بالأذان والسنة أن ينادي للكسوف بالصلاة جامعة لحديث عائشة: خسفت الشمس على عهد النبي ﷺ فبعث مناديا الصلاة جامعة ولا ينادي للعيد والاستسقاء وقاله طائفة من أصحابنا ولهذا لا يشرع للجنازة ولا للتراويح على نص أحمد خلافا للقاضي لأنه لم ينقل عن النبي ﷺ والقياس على الكسوف فاسد الاعتبار وقال الآمدي: السنة أن يكون المؤذن من أولاد من جعل رسول الله ﷺ فيهم الأذان وإن كان من غيرهم جاز
قال أبو العباس: ولم يذكر هذا أكثر أصحابنا وظاهر كلام أحمد لا يقدم بذلك فإنه نص على أن المتنازعين في الأذان لا يقدم أحدهما بكون أبيه هو المؤذن
وأما ما سوى التأذين قبل الفجر من تسبيح وتشيد ورفع الصوت بدعاء ونحو ذلك في المآذن فهذا ليس بمسنون عند الأئمة بل قد ذكر طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد: أن هذا من جملة البدع المكروهة ولم يقم دليل شرعي على استحبابه ولا حدث سبب يقتضي أحداثه حتى يقال أنه من البدع اللغوية التي دلت الشريعة على استحبابها وما كان كذلك لم يكن لأحد أن يأمر به ولا ينكر على من تركه ولا يعلق استحقاق الرزق به وإن شرطه واقف وإذا قيل: أن في بعض هذه الأصوات مصلحة راجحة على مفسدتها فتقتصر من ذلك على القدر الذي يحصل به المصحلة دون الزيادة التي هي ضرر بلا مصلحة راجحة
ويستحب أن يجيب المؤذن ويقول مثل ما يقول ولو في الصلاة وكذلك يقول في الصلاة كل ذكر ودعاء وجد سببه في الصلاة ويجيب مؤذنا ثانيا وأكثر حيث يستحب ذلك كما كان المؤذنان يؤذنان على عهد النبي ﷺ وأما المؤذنون الذين يؤذنون مع المؤذن الراتب يوم الجمعة في مثل صحن المسجد فليس أذانهم مشروعا باتفاق الأئمة بل ذلك بدعة منكرة وقد اتفق العلماء على أنه لا يستحب التبليغ وراء الإمام بل يكره إلا لحاجة
وقد ذهب طائفة من الفقهاء أصحاب مالك وأحمد إلى بطلان صلاة المبلغ إذا لم يحتج إليه وظاهر كلامه هذا أن المجيب يقول مثل ما يقول حتى في الحيعلة وقيل: يقول لا حول ولا قوة إلا بالله
ويجوز الأذان للفجر قبل دخول وقتها وقاله جمهور العلماء وليس عند أحمد نص في أول الوقت الذي يجوز فيه التأذين إلا أن اصحابنا قالوا: يجوز بعد نصف الليل كما يجوز بعد نصف الليل الإفاضة من مزدلفة وعلى هذا فينبغي أن يكون الليل الذي يعتبر نصفه أوله غروب الشمس وآخره طلوها كما أن النهار المعتبر نصفه أوله طلوع الشمس وآخره غروبها لانقسام الزمان ليلا ونهارا
ولعل قول النبي ﷺ في أحد الحديثين: [ ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل ] الذي ينتهي لطلوع الفجر وفي الآخر حين يمضي نصف الليل يعني الليل الذي ينتهي بطلوع الشمس فإنه إذا انتصف الليل الشمسي يكون قد بقي ثلث الليل الفجري تقريبا ولو قيل: تحديد وقت العشاء إلى نصف الليل تارة وإلى ثلثه أخرى من هذا الباب لكان متوجها ويستحب إذا أخر المؤذن في الأذان أن لا يقول إذ في ذلك تشبه بالسلطان قال أحمد: لا يقوم أو ما يبدي أو يصير
باب ستر العورة
اختلف عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة فقال بعضهم: ليس بعورة وقال بعضهم: عورة وإنما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة والتحقيق: أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر إذا لم يجز النظر إليه ولا يختلف المذهب في أن ما بين السرة والركبة من الأمة عورة وقد حكى جماعة من أصحابنا أن عورتها السوأتان فقط كالرواية في عورة الرجل وهذا غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصا وعلى الشريعة عموما وكلام أحمد أبعد شيء عن هذا القول ولا يصح الصلاة في الثوب المغصوب والحرير والمكان المغصوب هذا إذا كانت الصلاة فرضا وهو أصح الروايتين عن أحمد وإن كانت نفلا فقال الآمدي: لا تصح رواية واحدة
وقال أبو العباس: أكثر أصحابنا أطلقوا الخلاف وهو الصواب لأن منشأ القول بالصحة أن جهة الطاعة مغايرة لجهة المعصية فيجوز أن يثاب من وجه ويعاقب من وجه وينبغي أن يكون الذي يجر ثوبه خيلاء في الصلاة على هذا الخلاف لأن المذهب أنه حرام وكذلك من لبس ثوبا فيه تصاوير
قلت: لازم ذلك أن كل ثوب يحرم لبسه يجري على هذا الخلاف ن وقد أشار إليه صاحب المستوعب والله أعلم
ولو كان المصلي جاهلا بالمكان والثوب أنه حرام فلا إعادة عليه سواء قلنا: أن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين أن تكون نجسة وكذا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية بل يكون طاعة وأما المحبوس في مكان غصب فينبغي أن لا نجب عليه الإعادة إذا صلى فيه قولا واحدا لأن لبثه فيه ليس بمحرم
ومن أصابنا من يجعل فيمن لم يجد إلا الثوب الحرير روايتين كمن لم يجد إلا الثوب النجس وعلى هذا فمن لم يمكنه أن يصلي إلا في الموضع الغصب فيه الروايتان وأولى وكذلك كل مكره الكون بالمكان النجس والغصب بحيث يخاف ضررا من الخروج في نفسه أو ماله ينبغي أن يكون كالمحبوس وذكر ابن الزاغوني في صحة الصلاة في ملك غيره بغير أذنه إذا لم يكن محوطا عليه وجهين وأن المذهب الصحة يؤيده أنه يدخله ويأكل ثمره فلأن يدخله بلا أكل ولا أذى أولى وأجزى والمقبوض بتعد فاسد من الثياب والعقار أفتى بعض أصحابنا بأنه كالمغصوب سواء وعلى هذا فإن لم يكن المال الذي يلبسه ويسكنه حلالا في نفسه لم يتعلق به حق الله تعالى ولا لعباده وإلا لم تصح فيه الصلاة
وكذلك الماء في الطهارة وكذلك المركوب والزاد في الحج وهذا يدخل فيه شيء كثير وفيه نوع مشقة ومن لم يجد إلا ثوبا لطيفا أرسله على كتفه وعجزه وصلى جالسا ونص عليه أو اتزر به وصلى قائما وقال القاضي: يستر منكبيه ويصلي جالسا والأول هو الصحيح وقول القاضي ضعيف ولو صلى على راحلة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة وإن صلى على فراش مغصوب فوجهان أظهرهما البطلان ولو غصب مسجدا وغيره بأن حوله عن كونه مسجدا بدعوى ملكه أو وقفه على جهة أخرى لم تصح صلاته فيه وإن أبقاه مسجدا ومنع الناس من الصلاة فيه في صحة صلاته فيه وجهان اختار طائفة من المتأخرين الصحة والأقوى البطلان ولو تلف في يده لم يضمنه عند ابن عقيل وقياس المذهب ضمانه
وإن لم يجد العريان ثوبا ولا حشيشا ولكن وجد طينا لزمه الاستتار عند ابن عقيل ولا يلزمه عند الآمدي وغيره وهو الصواب المقطوع به وقيل: إنه المنصوص عن أحمد لأن ذلك يتناثر ولا يبقى ولكن يستحب أن يستتر بحائط أو شجرة ونحو ذلك إن أمكن
وتستحب الصلاة بالنعل وقاله طائفة من العلماء والعبد الآبق لا يصح نفله ويصح فرضه عند ابن عقيل وابن الزاغوني وبطلان فرضه قوي أيضا كما جاء في الحديث مرفوعا وينبغي قبول صلاته والله تعالى أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال: [ خذوا زينتكم عند كل مسجد ] فعلق الأمر باسم الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة
باب اجتناب النجاسة ومواضع الصلاة
وجوب تطهير البدن من الخبث يحتج عليه بأحاديث الاستنجاء وحديث التنزه من البول وبقوله ﷺ [ حتيه ثم اقرصيه ثم انضحيه بالماء ثم صلي فيه ] من حديث أسماء وغيرها وبحديث أبي سعيد في دلك النعلين بالتراب ثم الصلاة فيهما وطهارة البقعة يستدل عليها بقول النبي ﷺ في حديث الأعرابي: [ إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة ] وأمره بصب الماء على البول
ومن صلى بالنجاسة ناسيا أو جاهلا فلا إعادة عليه وقاله طائفة من العلماء لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله مخطئا أو ناسيا لا تبطل العبادة به وذكر القاضي في المجرد والأمدي أن الناسي يعيد رواية واحدة عن أحمد لأنه مفرط وإنما الروايتان في الجاهل والروايتان منصوصتان عن أحمد في الجاهل بالنجاسة فأما الناسي فليس عنه نص فلذلك اختلف الطريقان
والنهي عن قربان المسجد لمن أكل الثوم ونحوه عام في كل مسجد عند عامة العلماء وحكى القاضي عياض أن النهي خاص بمسجد النبي ﷺ
ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة لأنه لا يتناول اسم المقبرة وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور وهو الصواب والمقبرة كل ما قبر فيه لا أنه جمع قبر
وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه فهذا يعين أن المنع يكون متنا ولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه وذكر الأمدي وغيره أنه لا تجوز الصلاة فيه أي المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد ولا تصح الصلاة في الحش ولا إليه ولا فرق عند عامة أصحابنا بين أن يكون الحش في ظاهر جدار المسجد أو باطنه واختار ابن عقيل أنه إذا كان بين المصلى وبين الحش ونحوه حائل مثل جدار المسجد لم يكره والأول هو المأثور عن السلف والمنصوص عن أحمد والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنسية المصورة فالصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك ومقتضى كلام الأمدي وأبي الوفاء بن عقيل: أنه لا تصح الصلاة في أرض الخسف وهو قوي ونص أحمد لا يصلى فيها وقال الأمدي: ويكره في الرحى ولا فرق بين علوها وسفلها
قال أبو العباس: ولعل هذا لما فيها من الصوت الذي يلهي المصلي ويشغله ولا تصح الفريضة في الكعبة بل النافلة وهو ظاهر مذهب أحمد
وأما صلاة النبي ﷺ في البيت فإنها كانت تطوعا فلا يلحق الفرض لأنه ﷺ داخل البيت ركعتين ثم قال: هذه القبلة فيشبه والله أعلم أن يكون ذكره لهذا الكلام في عقيب الصلاة خارج البيت بيانا لأن القبلة المأمور بإستقبالها هي البينة كلها لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كاف في الفرض لأجل أنه صلى التطوع في البيت وإلا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة فلا بد لهذا الكلام من فائدة وعلم شيء قد يخفى ويقع في محل الشبهة وابن عباس روى هذا الحديث وفهم منه هذا المعنى وهو أعلم بمعنى ما سمع وأن نذر الصلاة في الكعبة جاز كما لو نذر الصلاة على الراحة وأما إن نذر الصلاة مطلقا اعتبر فيها شروط الفريضة لأن النذر المطلق يحذى به حذو الفرائض
باب استقبال القبلة
قال الدارقطني وغيره في قول الراوي أنه صلى النبي ﷺ على حمار غلط من عمرو بن يحيى المازني وإنما المعروف صلاته ﷺ على راحلته أو البعير والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم في رواية أخرى ولهذا لم يذكر البخاري حديث عمرو هذا وقيل في أن تغليطه نظرا وقيل إنه شاذ لمخالفته رواية الجماعة وقوله ﷺ ما بين المشرق والمغرب قبلة هذا خطاب منه لأخل المدينة ومن جرى مجراهم كأهل الشام والجزيرة والعراق
وأما أهل مصر فقبلتهم بين المشرق والجنوب من مطلع الشمس في الشتاء وذكر طائفة من الأصحاب أن الواجب في استقبال القبلة هواؤها دون بنيانها بدليل المصلي على أبي قبيس وغيره من الجبال العالية فإنه إنما يستقبل الهواء لا البناء وبدليل لو انتقضت الكعبة والعياذ بالله فإنه يكفيه استقبال العرصة
قال أبو العباس: الواجب استقبال البنيان وأما العرصة والهواء فليس بكعبة ولا ببناء
وأما ما ذكروه من الصلاة على أبي قبيس ونحوه فإنما ذلك لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفعة وإن لم تكن مسامتة فإن المسامتة لا تشترط كما لم تكن مشروطة في الائتمان بالإمام وأما إذا زال بناء الكعبة فنقول بموجبه وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئا يصلي إليه لأن أحمد جعل المصلي على ظهر الكعبة لا قبلة له فعلم أنه جعل القبلة الشيء الشاخص
وكذلك قال الآمدي: إن صلى بإزاء البيت وكان مفتوحا لاتصح صلاته وإن كان مردودا صحت وإن كان مفتوحا وبين يديه شيء منصوب كالسترة صحت لأنه يصلي إلى جزء من البيت فإن زال بنيان البيت والعياذ بالله وصلى بين يديه شيء صحت الصلاة وإن لم يكن بين يديه شيء لم تصح وهذا من كلام الأمدي يدل على أن البناء لو زال لم تصح الصلاة إلا أن يكون بين يديه شيء وإنما يعني به والله أعلم ما كان شاخصا كما قيده فيما إذا صلى إلى الباب ولأنه علل ذلك بأنه إذا صلى إلى سترة فقد صلى إلى جزء من البيت فعلم أن مجرد العرصة غير كاف ويدل على هذا ما ذكره الأزرق في أخبار مكة أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل الستور عليها حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها ففعل ذلك ابن الزبير وهذا من ابن عباس وابن الزبير دليل على أن الكعبة التي يطاف بها ويصلى إليها لا بد أن تكون شيئا منصوبا شاخصا وأن العرصة ليست قبلة ولم ينقل أن أحدا من السلف خالف في ذلك ولا أنكره نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الأشياء موضعها بأن يقع ذلك إذا هدمها ذو السويقتين من الحبشة في آخر الزمان فهنا ينبغي أن يكتفي حينئذ باستقبال العرصة كما يكتفي المصلي أن يخط خطا إذا لم يجد سترة فإن قواعد إبراهيم كالخط وذكر ابن عقيل وغيره من أصحابنا أن البناء إذا زال صحت الصلاة إلى هواء البيت مع قولهم أنه لا يصلي على ظهر الكعبة ومن قال هذا يفرق بأنه إذا لم يبق هناك شيء شاخص يستقبل بخلاف ما إذا كان هناك قبلة تستقبل ولا يلزم من سقوط الشيء الشاخص إذا كان معدوما سقوط استقباله إذا كان موجودا كما فرقنا بين حال إمكان نصب شيء وحال تعذره وكما يفرق في سائر الشروط بين حال الوجود والعدم والقدرة والعجز فإذا قلنا لا بد من الصلاة إلى شيء شاخص فإنه يكفي شخوصه ولو أنه شيء يسير كالعتبة التي للباب قاله ابن عقيل
وقال أبو الحسن الآمدي: لا يجوز أن يصلي إلى الباب إذا كان مفتوحا لكن إذا كان بين يديه شيء منصوب كالسترة صحت فعلى هذا لا يكفي ارتفاع العتبة ونحوها بل لا بد أن يكون مثل آخرة الرحل لأنها السترة التي قدر بها الشارع السترة المستحبة فلأن يكون تقديرها في الواجب أولى ثم إن كانت السترة التي فوق السطح ونحوه بناء أو خشبة مسمرة ونحو ذلك مما يتبع في مطلق البيع لو كان في موضع مملوك جازت الصلاة إليه لأنه جزء من البيت وإن كان هناك لبن وآجر بعضه فوق بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة ونحو ذلك لم يكن قبلة فيما ذكره أصحابنا لأنه ليس من البيت ويتوجه أن يكتفي في ذلك بما يكون سترة في الصلاة لأنه شيء شاخص ولأن حديث ابن عباس وابن الزبير دليل على الاكتفاء بكل ما يكون قبلة وسترة فإن الخشب والستور المعدة عليها لا يتبع في مطلق البيع
قلت: وقد يقال إنما اكتفي بما نصبه ابن الزبير وإن لم يتبع في مطلق البيع لأنه حال ضرورة ولا ضرورة بالمصلي إلى الصلاة على ظهر الكعبة أو باطنها إذ يمكنه أن يتوجه إلى جزء منها أو أن يستقبل جميعها والله أعلم
وقال ابن حامد بن عقيل في الواضح وأبو المعالي: لو صلى إلى الحجر من فرضه المعاينة لم تصح صلاته لأنه في المشاهدة والعيان ليس من الكعبة البيت الحرام وإنما وردت الأحاديث بأنه كان من البيت فعمل بتلك الأحاديث في وجوب الطواف دون الاكتفاء به للصلاة احتياطا للعبادتين
وقال القاضي في التعليق: يجوز التوجه إليه في الصلاة وتصح صلاته كما لو توجه إلى حائط الكعبة
قال أبو العباس: وهذا قياس المذهب لأنه من البيت بالسنة الثابتة المستفيضة وبعيان من شاهده من الخلق الكثير لما نقضه ابن الزبير
ونص أحمد أنه لا يصلي الفرض في الحجر فقال: لا يصلي في الحجر الحجر من البيت
قال أبو العباس: والحجر جميعه ليس من البيت وإنما الداخل في حدود البيت ستة أذرع وشيء فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته البتة
باب النية
والنية تتبع العلم فمن علم ما يريد فعله قصده ضرورة ويحرم خروجه لشكه في النية للعمل بأنه ما دخل إلا بالنية ولو أحرم منفردا ثم نوى الإمامة صحت صلاته فرضا ونفلا وهو رواية عن أحمد اختارها أبو محمد المقدسي وغيره
ولو سمى إماما أو جنازة فأخطأ صحت صلاته إن كان أفسده خلف من حضر وإلا فلا ووجوب مقارنة النية للتكبير قد يفسر بوقوع التكبير عقيب النية وهذا ممكن لا صعوبة فيه بل عامة الناس إنما يصلون هكذا
وقد يفسر بانبساط آخر النية على أجزاء التكبير بحيث يكون أولها مع أوله وآخرها مع آخره وهذا لا يصح لأنه يقتضي عزوب كمال النية عن أول الصلاة وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة وقد يفسر بحضور جميع النية الواجبة وقد يفسر بجميع النية مع جميع أجزاء التكبير وهذا قد نوزع في إمكانه فضلا عن وجوبه ولو قيل بإمكانه فهو متعسر فيسقط بالحرج
وأيضا فما يبطل هذا والذي قبله أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره فيكون قلبه مشغولا بمعنى التكبير لا بما يشغله عن ذلك من استحضار المنوي ولأن النية من الشروط والشرط يتقدم العبادة ويستمر حكمه إلى آخرها
باب تسوية الصفوف
وظاهر كلام أبي العباس أنه يجب تسوية الصفوف لأنه عليه السلام رأى رجلا باديا صدره فقال: [ لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ] وقال عليه السلام: [ سووا صفوفكم فإن تسويتها من تمام الصلاة ] متفق عليهما
وترجم عليه البخاري بباب: إثم من لم يقم الصف
قلت: ومن ذكر الإجماع على استحبابه فمراده ثبوت استحبابه لا نفي وجوبه والله أعلم
وإذا قدر المصلي أن يقول الله أكبر لزما ولا يجزئه غيرها وهو قول مالك وأحمد ولا يشترط أن يسمع المصلي نفسه القراءة الواجبة بل يكفيه الإتيان بالحروف وإن لم يسمعها وهو وجه في مذهب أحمد واختاره الكرخي من الحنفية وكذا كل ذكر واجب
ويستحب أن يجمع في الاستفتاح بين قوله: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره وبين: وجهت وجهي إلى آخره وهو اختيار أبي يوسف وأبي هبيرة ولا يجمع بين لفظي كبير وكثير بل يقول هذا تارة وهذه تارة وكذا المشروع في القراءات سبع أن يقرأ هذه تارة وهذه تارة لا الجمع بينهما ونظائره كثيرة والأفضل أن يأتي في العبادات الواردة على وجوه متنوعة بكل نوع منها: كالاستفتاحات وأنواع صلاة الخوف وغير ذلك والمفضول قد يكون أفضل لمن انتفاعه به إثم
ويستحب التعوذ أول كل قراءة ويجهر في الصلاة بالتعوذ وبالبسملة وبالفاتحة في الجنازة ونحو ذلك أحيانا فإنه المنصوص عن أحمد تعليما للسنة ويستحب الجهر بالبسملة للتأليف كما استحب أحمد ترك القنوت في الوتر تأليفا للمأموم ولو كان الإمام متطوعا تبعه المأموم والسنة أولى ونص عليه أحمد
قلت: وحكي عن أبي العباس التخيير بين الجهور والإسرار وهو مذهب إسحاق بن راهويه والظاهر أن هذا القول أخذ من قوله أن يجهر بها أحيانا وهذا المأخذ ليس بجيد والله أعلم
والبسملة آية منفردة فاصلة بين السور ليست من أول كل سورة لا الفاتحة ولا غيرهما وهذا ظاهر مذهب أحمد وروى الطبراني بإسناد حسن عن ابن العباس أن النبي ﷺ كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم إذا كان بمكة وأنه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات ورواه أبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ وهو مناسب للواقع فإن الغالب على أهل مكة كان الجهر بها وأما أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون والدارقطني لما حل مصر وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بالبسملة فجمعها فقيل له: هل فيها شيء صحيح؟ فقال: أما عن النبي ﷺ فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف وتكتب البسملة أوائل الكتب كما كتبها سليمان وكتبها النبي ﷺ في صلح الحديبية وإلى قيصر وغيره فتذكر في ابتداء جميع الأفعال وعند دخول المنزل والخروج منه للبركة وهي تطرد الشيطان وإنما تستحب إذا ابتدأ فعلا تبعا لغيرها لا مستقلة فلم تجعل كالهيللة والحمدلة ونحوهما
والفاتحة أفضل سورة في القرآن قال عليه السلام فيها [ أعظم سورة في القرآن ] رواه البخاري وذكر معناه ابن شهاب وغيره وآية الكرسي أعظم آي القرآن كما رواه مسلم عنه عليه السلام وحكي عن أبي العباس أن تفاضل القرآن عنده في نفس الحرف أي ذات الحرف وللف بعضه أفضل من بعض وهذا قول بعض أصحابنا ولعل المراد غير آية الكرسي والفاتحة لما تقدم والله أعلم
ومعاني القرآن ثلاثة أصناف: توحيد وقصص وأمر ونهي
{ قل هو الله أحد } متضمنة ثلث التوحيد ولا يستحب قراءتها ثلاثا إلا إذا قرئت منفردة وقال في موضع آخر: السنة إذا قرأ القرآن كله أن يقرأها كما في المصحف وأما إذا قرأها منفردة أو مع بعض القرآن ثلاثا فإنها تعدل القرآن وإذا قيل: ثواب قراءتها مرة يعدل ثلث القرآن فمعادلة الشيء يقتضي تساويهما في القدر لا تماثلهما في الوصف كما في قوله تعالى أو عدل لك صياما
ولهذا لا يجوز أن يستغني بقراءتها ثلاث مرات عن قراءة سائر القرآن لحاجته إلى الأمر والنهي والقصص كما لا يستغني من ملك نوعا شريفا من المال عن غيره ويحسن ترجمة القرآن لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة
قلت: وذكر غيره هذا المعنى والله أعلم
وقوله ﷺ: [ من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات ] رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب
المراد بالحرف الكلمة ووقوف القارئ على رؤوس الآيات سنة وإن كانت الآية الثانية متعلقة بالأولى تعلق الصفة بالموصوف أو غير ذلك والقراءة القليلة يتفكر أفضل من الكثير بلا تفكر وهو المنصوص عن الصحابة صريحا
ونقل عن أحمد ما يدل عليه نقل مثنى بن جامع رجل أكل فشبع وأكثر الصلاة والصيام ورجل أقل الأكل فقلت نوافله وكان أكثر فكرة أيهما أفضل؟ فذكر ما جاء في الفكر [ تفكر ساعة خير من قيام ليلة ] قال: فرأيت هذا عنده أفضل للفكر وما خالف المصحف وصح سنده صحت الصلاة به
وهذا نص الروايتين عن أحمد ومصحف عثمان أحد الحروف السبعة وقاله عامة السلف وجمهور العلماء ويكره أن يقول مع إمامه { إياك نعبد وإياك نستعين } ونحوه
وقراءة المأموم خلف الإمام أصول الأقوال فيها ثلاثة طرفان ووسط فأحد الطرفين لا يقرأ بحال الثاني يقرأ بكل حال والثالث وهو قول أكثر السلف إذا سمع قراءة الإمام أنصت وإذا لم يسمع قرأ بنفسه فإن قراءته أفضل من سكوته والاستماع لقراءة الإمام أفضل من السكوت
وعلى هذا فهل القراءة حال خافتة الإمام واجبة على المأموم أو مستحبة على قولين في مذهب أحمد أشهرهما أنها مستحبة ولا يقرأ حال تنفس إمامه وإذا سمع همهمة الإمام ولم يفهم قراءته قرأ لنفسه وهو رواية عن أحمد
وأحمد وغيره استحب في صلاة الجهر سكتتين عقيب التكبير للاستفتاح وقبل الركوع لأجل الفصل ولم يستحب أن يسكت سكتة تتسع لقراءة المأموم ولكن بعض أصحابه استحب ذلك والقراءة إذا سمع هل هي محرمة أو مكروهة وهل تبطل الصلاة أن قرأ على قولين في مذهب أحمد وغيره
أحدهما: القراءة محرمة وتبطل الصلاة بها حكاه ابن حامد
والثاني: لا تبطل وهو قول الأكثرين وهو المشهور من مذهب أحمد وهل الأفضل للمأموم قراءة الفاتحة للاختلاف في وجوبها أم غيرها لأنه استمعها مقتضى نصوص أحمد وأكثر أصحابه أن القراءة بغيرها أفضل
قلت: فمقتضى هذا أنه إنما يكون غيرها أفضل إذا سمعها وإلا فهي أفضل من غيرها والله أعلم
ولا يستفتح ولا يستعيذ حال جهر الإمام وهو رواية عن أحمد ومن أصحاب أحمد من قال لا يستفتح ولا يستعيذ حال جهر الإمام رواية واحدة وإنما الخلاف حال سكوت الإمام والمعروف عند أصحابه أن النزاع في حال الجهل لأنه بالاستماع يحصل مقصود القراءة بخلاف الاستفتاح والتعوذ وما ذكره ابن الجوزي من قراءة المأموم وقت مخافتة الإمام أفضل من استفتاحه: غلط بل قول أحمد وأكثر أصحابه الاستفتاح أولى لأن استماعه بدل عن قراءته والمرأة إذا صلت بالنساء جهرت بالقراءة وإلا فلا تجهر إذا صلت وحدها
ونقل ابن أصرم عن أحمد في من جهل ماقرأ به إمامه يعيد الصلاة قال أبو إسحاق بن شاقلا: لأنه لم يدر هل قرأ إمامه الحمد أم لا ولا مانع من السماع وقال أبو العباس: بل لتركه الإنصات الواجب وحديث عبد الرحمن بن أبزي أنه صلى مع النبي ﷺ فكان لا يتم تكبيره رواه أبو داود والبخاري في التاريخ
وقد حكى عن أبي داود الطيالسي أنه قال حديث باطل
قال أبو العباس وهذا وإن كان محفوظا فلعل ابن أبزي صلى خلف النبي ﷺ في مؤخر المسجد وكان النبي ﷺ صوته ضعيفا فلم يسمع تكبيره فاعتقد أنه لم يتم التكبير وإلا فالأحاديث المتواترة عن النبي ﷺ خلاف هذا
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن النخعي: إن أول من نقص التكبير زيادة وكان أميرا في زمن عمر وإذا رفع الإمام رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد وهو رواية عن أحمد واختارها أبو الخطاب والآجري وأبو البركات
ويسن رفع اليدين إذا قام المصلي من التشهد الأول إلى الثالثة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو البركات كما يسن في الركوع والرفع منه ومن لم يقدر على رفع يديه إلا بزيادة على أذنيه رفعهما لأنه يأتي بالسنة وزيادة لا يمكنه تركها
وتبطل الصلاة بتعمد تكرار الركن الفعلي لا القولي وهو مذهب الشافعي وأحمد ومن لم يحسن القراءة ولا الذكر أو الأخرس لا يحرك لسانه حركة مجردة ولو قيل أن الصلاة تبطل بذلك كان أقرب لأنه عبث ينافي الخشوع وزيادة على غير المشروع
وآل النبي ﷺ أهل بيته ونص عليه أحمد واختاره الشريف أبو جعفر وغيره فمنهم بنو هاشم وفي بني المطلب الروايتان في الزكاة وفي دخول أزواجه في أهل بيته روايتان والمختار الدخول
وأفضل أهل بيته علي وفاطمة وحسن وحسين الذين أدار عليهم الكساء وخصهم بالدعاء وظاهر كلام أبي العباس في موضع آخر أن حمزة أفضل من حسن وحسين واختاره بعض العلماء ولا تجوز الصلاة على غير الأنبياء إذا اتخذت شعارا وهو قول متوسط بين من قال بالمنع مطلقا وهو قول طائفة من أصحابنا ومن قال بالجواز مطلقا وهو منصوص أحمد
ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد لا التكبير عقيب الصلاة لا قاله بعض السلف ولا الخلف لا يقرأ آية الكرسي سرا لا جهرا لعدم نقله
والتسيح المأثور أنواع: أحدها: أن يسبح عشرا ويحمد عشرا ويكبر عشرا
والثاني: إن يسبح إحدى عشرة ويحمد إحدى عشرة ويكبر إحدى عشرة
والثالث: أن يسبح ثلاثا وثلاثين ويحمد ثلاثا وثلاثين ويكبر ثلاثا وثلاثين فيكون تسعة وتسعين
والرابع: أن يقول ذلك ويختم المائة بالتوحيد التام: وهو لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
الخامس: أن يسبح ثلاثا وثلاثين ويحمد ثلاثا وثلاثين ويكبر أربعا وثلاثين
السادس: أن يسبح خمسا وعشرين ويحمد خمسا وعشرين ويكبر خمسا وعشرين ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير خمسا وعشرين ولا يستحب الدعاء عقيب الصلوات لغير عارض كالاستسقاء والاتصار أو تعليم المأموم ولم تستحبه الأئمة الأربعة وما جاء في خبر ثوبان من أن الإمام إذا خص نفسه بالدعاء فقد خان المؤمنين المراد به الدعاء الذي يؤمن عليه كدعاء القنوات فإن المأموم إذا أمن كان داعيا قال تعالى لموسى وهارون: { قد أجيبت دعوتكما } وكان أحدهما يدعو والآخر يؤمن والمأموم إنما أمن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما فإن لم يفعل فقد خان الإمام المأموم
ويسن للداعي رفع يديه والابتداء بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي ﷺ وأن يختمه بذلك كله وبالتأمين وصفة المشروع في الصلاة على النبي ﷺ ما صحت به الأخبار
قال أبو العباس: الأحاديث التي في الصحاح لم أجد في شيء منها: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ وآل إبراهيم بإسناد ضعيف عن ابن مسعود مرفوعا ورواه ابن ماجه موقوفا على ابن مسعود قلت: بل روى البخاري في صحيحه الجمع بينهما والله أعلم
واتفق المسلمون على أن محمد ﷺ أفضل الرسل لكن وقع النزاع في أنه هل هو أفضل من جملتهم قطع طائفة من العلماء بأنه وحده أفضل من جملتهم كما أن صديقه وزن بمجموع الأمة فرجع بهم
وقد أنكر طائفة من العلماء على محمد بن أبي زيد في صفة الصلاة على النبي ﷺ: اللهم ارحم محمدا وآل محمد لأنه خلاف الوارد في تعليم الصلاة
قلت: وحكى القاضي عياض في شرح مسلم المنع قول الأكثرين والله أعلم ويحرم الإعتداء في الدعاء لقوله تعالى أنه لا يحب المعتدين وقد يكون الإعتداء في نفس الطلب وقد يكون في نفس المطلوب
ولا يكره رفع بصره إلى السماء في الدعاء لفعله ﷺ وهو قول مالك والشافعي ولا يستحب
وإذا لم يخلص الداعي الدعاء ولم يجتنب الحرام تبعد إجابته إلا مضطرا أو مظلوما ويستحب للمصلي أن يدعو قبل السلام بما أوصى به النبي ﷺ لمعاذ أن يقوله دبر كل صلاة: [ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ] ولا يفرد المنفرد ضمير الدعاء لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين ويكون دعاء الإستخارة قبل السلام
وقال ابن الزاغوني: بل والدعاء سبب لجلب المنافع ودفع المضار لأنه عبادة يثاب عليها الداعي ولا يحصل بها جلب المنافع ودفع المضار وهو مذهب أهل السنة والجماعة وإذا ارتاضت نفس العبد على الطاعة وانشرحت بها وتنعمت بها وبادرت إليها طواعية ومحبة: كان أفضل ممن يجاهد نفسه على الطاعات ويكرهها عليها
وهو قول الجنيد وجماعة من عباد البصرة والتكبير مشروع في الأماكن العالية وحال ارتفاع العبد وحيث يقصد الإعلان: كالتكبير في الأذان والأعياد وإذا علا شرفا وإذا رقى الصفا والمروة وإذا ركب دابة والتسبيح في الأماكن المنخفضة كما في السنن عن جابر: كنا مع النبي ﷺ فإذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك وفي نهيه ﷺ عن قراءة القرآن في الركوع والسجود دليل على أن القرآن أشرف الكلام إذ هو كلام الله وحالة الركوع والسجود ذلك وانخفاض من العبد فمن الأدب منع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين والانتظار أولى