الفتاوى الكبرى/كتاب الأيمان
كتاب الأيمان
الحالف لا بد له من شيئين من كراهة الشرط الجزاء عند الشرط ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفا سواء قصده الحض والمنع أو لم يكن قال أصحابنا فإن حلف باسم من أسماء الله تعالى التي قد يسمى بها غيره وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى فهو يمين إن نوى به الله أو أطلق وإن نوى غيره فليس بيمين
قال أبو العباس: هذا من التأويل لأنه نوى خلاف الظاهر فإن كان ظالما لم تنفعه وتنفع المظلوم وفي غيرهما وجهان إذ الكلام المحلوف به كالمحلوف عليه وأظن أن كلام أحمد في المحلوف به نصا قال في المحرر فإن قال اسم الله مرفوعا مع الواو أو عدمه أو منصوبا مع الواو ويعني في القسم باسم فهو يمين إلا أن يكون من أهل العربية ولا يريد اليمين
قال أبو العباس: يتوجه فيمن يعرف العربية إذا أطلق وجهان كما جاء في الحاسب والنحوي في الطلاق كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة في اثنين ويتوجه أن هذا يمين بكل حال لأن ربطه جملة القسم يوجب في اللغة أن يكون يمينا لأنه لحن لحنا لا يحيل المعنى بخلاف مسألة الطلاق
قال في المحرر: وإن قال إيمان البيعة لازم لي أو لم يلزم لي إن فعلت كذا فهذه يمين رتبها الحجاج تتضمن اليمين بالله تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال فإن عرفها الحالف ونواها انعقدت يمينه بما فيها وإلا فلا وقيل تنعقد إذا نواها وإن لم يعرفها وقيل لا تنعقد الأيمان بالله بشرط النية ( قال أبو العباس ) قياس إيمان المسلمين تلزمني أنه عرف إيمان البيعة انعقدت بلا نية ويتوجه أيضا أنها تلزمه بكل حال يعرفها وهو مقتضى قول الخرقي وابن بطة ثم قال صاحب المحرر ولو قال إيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا ألزمه يمين الظهار والطلاق والعتاق والنذر واليمين بالله نوى ذلك أو لم ينو ذكره القاضي وقيل لا يتناوله اليمين بالله تعالى
قال أبو العباس: قياس إيمان البيعة تلزمني أن لا تنعقد إيمان المسلمين تلزمني إلا بالنية وجمع المسلمين كما ذكره صاحب لمحرر كأنه من طريقين ولو قال علي لأفعلن فيمين لأن هذه لام القسم فلا تذكر إلا معه مظهرا أو مقدرا قال في المحرر وإن عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه فهو كمن حلف على عدم فعل شيء في المستقبل ففعله ناسيا
قال أبو العباس: وهذا ذهول لأن أبا حنيفة ومالكا يحنثان الناسي ولا يحنثان هذا لأن تلك اليمين انعقدت بلا شك وهذه لم تنعقد ولم يقل أحد أن اليمين على شيء تغيره عن صفته بحيث توجب إيجابا أو تحرم تحريما لا ترفعه الكفارة ويجب إبرار القسم على معين
ويحرم الحلف بغير الله تعالى وهو ظاهر المذهب وعن ابن مسعود وغيره لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا
قال أبو العباس: لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق وسبب الكذب أسهل من سبب الشرك
واختلف كلام أبي العباس في الحلف بالطلاق فاختار في موضع آخر أنه لا يكره وأنه قول غير واحد من أصحابنا لأنه لم يحلف بمخلوق ولم يلتزم لغير الله شيئا وإنما التزم لله كما يلتزم بالنذر والالتزام به بدليل النذر له واليمين به ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك كما أنكروا على من حلف بالكعبة
والعهود والعقود متقاربة المعنى أو متفقة فإذا قال أعاهد الله أني أحج العام فهو نذر وعهد ويمين وإن قال لا أكلم زيدا فيمين وعهد لا نذر فالإيمان تضمنت معنى النذر وهو أن يلتزم لله قربة لزمه الوفاء وهي عقد وعهد ومعاهدة لله لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس وهو أن يلتزم كل من المتعاقدين للآخر ما اتفقا عليه فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها إن كان العقد لازما وإن لم يكن لازما خير وهذه إيمان بنص القرآن ولم يعرض لها ما يحل عقدتها إجماعا ولو حلف لا يغدر فغدر كفر للقسم إلا لعذر مع أن الكفارة لا ترفع إثمه ومن كرر إيمانا قبل التكفير فروايتان ثالثها وهو الصحيح إن كانت على فعل فكفارة وإلا فكفارتان ومثل ذلك الحلف بنذور مكفرة وطلاق مكفر ولا يجوز التعريض لغير ظالم وهو قول بعض العلماء كما لظالم بلا حاجة ولأنه تدليس كتدليس المبيع وقد كره أحمد التدليس وقال لا يعجبني ونصه لا يجوز التعريض مع اليمين ولو حلف ليتزوجن على امرأته المنصوص عن أحمد لا يبر حتى يتزوج ويدخل بها ولا يشترط مماثلتها
والكلام يتضمن فعلا كالحركة ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني ولهذا يجعل القول قسيما للفعل تارة وقسما منه أخرى وبنى عليه من حلف لا يعمل عملا فقال قولا كالقراءة ونحوها هل يحنث وفيه وجهان في مذهب أحمد وغيره والزيات ليست سكين اتفاقا ولو طالت مدتها
باب النذر
توقف أبو العباس في تحريمه وحرمه طائفة من أهل الحديث وأما ما وجب بالشرع إذا العبد أو عاهد عليه الله أو بايع عليه الرسول أو للإمام أو تحالف عليه جماعة فإن هذه العقود والمواثيق تقتضي له وجوبا ثانيا غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فيكون واجبا من وجهين وكان تركه موجبا لترك الواجب بالشرع والواجب بالنذر هذا هو التحقيق وهو رواية عن أحمد وقاله طائفة من العلماء ونذر للجاج وللغضب يخير فيه بين فعل ما نذره والتكفير ولا يضر قوله على مذهب من يلزم بذلك ولا أقلد من نوى الكفارة ونحوه لأن الشرع لا يتغير بتوكيد وإن قصد الجزاء عند الشرط لزمه مطلقا عند أحمد ولو قال إن قدم فلان أصوم كذا فهذا نذر يجب الوفاء به مع القدرة
قال أبو العباس: لا أعلم فيه نزاعا ومن قال هذا ليس بنذر فقد أخطأ وقول القائل لئن ابتلاني الله لأصبرن ولئن لقيت عدوا لأجاهدن ولو علمت أي العمل أحب إلى الله لعلمته فهو نذر معلق بشرط كقول الله تعالى: { لئن آتانا من فضله } الآية
ولو نذر الصدقة بمال صرفه مصرف الزكاة ومن أسرج بئرا أو مقبرة أو جبلا أو شجرة أو نذر لها أو لسكانها أو المصافين إلى ذلك المكان لم يجز ولا يجوز الوفاء به إجماعا ويصرف في المصالح ما لم علم ربه ومن الجائز صرفه في نظيره من المشروع وفي لزوم الكفارة خلاف ومن نذر قنديلا يوقد للنبي ﷺ صرفت قيمته لجيرانه عليه السلام وهو أفضل من الختمة والصواب على أصلنا أن يقال في جميع العبادات والكفارات بل وسائر الواجبات التي هي من جنس الجائز أنه يجوز تقديمها إذا وجد سبب الوجوب ولا يتقدم على سببه فعلى هذا إذا قال إن شفى الله مريضي فلله علي صوم شهر فله تعجيل الصوم قبل الشفاء لوجود النذر ومن نذر صوما معينا فله الانتفال إلى زمن أفضل منه ومن نذر صوم الدهر أو صوم الخميس أو الاثنين فله صوم يوم وإفطار يوم واستحب أحمد لمن نذر الحج مفردا أو قارنا أن يتمتع لأنه أفضل لأمر النبي ﷺ أصحابه بذلك في حجة الوداع
قال في المحرر: ومن نذر صوم سنة بعينها لم يتناول شهر رمضان ولا أيام النهي عن صوم الفرض فيها وعنه يتناولها فيقضيها وفي الكفارة وجهان وعنه يتناول أيام النهي دون أيام رمضان
قال أبو العباس: الصواب أنه يتناول رمضان ولا قضاء عليه إذا صامها لأنه نذر صوما واجبا وغير واجب بخلاف أيام النهي وهذا القول غير الثلاثة المذكورة وإنما تجب الرواية الثالثة على قول من لا يصح نذر الواجب استغناء بإيجاب الشارع وأما قضاؤها مع صومها فبعيد لأن النظر لم يقتض صوما آخر كمسألة قدوم زيد قال أصحابنا إذا نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم ليلا لم يلزمه شيء
قال أبو العباس: لو قيل يلزمه كفارة يمين كما لو نذر صوم الليل وأيام الحيض أو القضاء مع ذلك أو بدونه لتوجه ولو نذر الصلاة في وقت النهي أو صوم أيام التشريق لم يجز وإن كان يفعل فيها الوجه بالشرع بل الواجب عليه فعل الصلاة في وقتها وفعل الصوم في أيام العشر فإن لم يفعل قضاه على سبيل البدل للضرورة وما وجب للضرورة لا يجوز أن يوجب مثله بالنذر ولو نذر صوم يوم معين أبدا ثم جهله أفتى بعض العلماء بصيام الأسبوع
قال أبو العباس: بل يصوم يوما من الأيام مطلقا أي يوم كان وعليه كفارة يمين فإنها لا تجزئ إلا بتعين النية على المشهور والتعيين يسقط بالعذر إلى كفارة أو إلى غير كفارة كالتعيين في رمضان والواجبات غير الصلاة المنذورة أيضا قال أصحابنا ومن نذر المشي إلى بيت الله تعالى أو موضع من الحرم لزمه أن يمشي في حج أو عمرة فإن ترك المشي وركب لعذر أو غيره يلزمه كفارة يمين وعنه دم
قال أبو العباس: إما لغير عذر فالمتوجه لزوم الإعادة كما لو قطع التتابع في الصوم المشروط فيه التتابع أو يتخرج لزوم الكفارة لأن البدل قائم مقام المبدل ولو نذر الطواف على أربع طاف طوافين وهو المنصوص عن أحمد ونقل عن ابن عباس ولو قال إن فعلت كذا فعلي ذبح ولدي أو معصية غير ذلك أو نحوه وقصد اليمين فيمين وإلا فنذر معصية فيذبح في مسألة الذبح كبشا ولو فعل المعصية لم تسقط عنه الكفارة ولو في اليمين ويلزم الوفاء بالوعد وهو وجه في مذهب أحمد ويخرج رواية عنه من تعجيل العارية والصلح عن عوض المتلف بمؤجل وإن نذر أن يهب بر بالإيجاب ليمينه وقد يحمل على الكمال انتهى