كتاب الأم/كتاب ما اختلف فيه أبو حنيفة وابن أبي ليلى/باب الاختلاف في العيب
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا اشترى الرجل من الرجل الجارية، أو الدابة، أو الثوب، أو غير ذلك فوجد المشتري به عيبا وقال بعتني وهذا العيب به فأنكر ذلك البائع فعلى المشتري البينة فإن لم تكن له بينة فعلى البائع اليمين بالله لقد باعه وما هذا العيب به فإن قال البائع أنا أرد اليمين عليه فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول لا أرد اليمين عليه ولا يحولها عن الموضع الذي وضعها رسول الله ﷺ وبه يأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول مثل قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى إلا أنه إذا اتهم المدعي رد اليمين عليه فيقال احلف وردها فإن أبى أن يحلف لم يقبل منه وقضى عليه.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا اشترى الرجل الدابة، أو الثوب، أو أي بيع ما كان فوجد المشتري به عيبا فاختلف المشتري، والبائع فقال البائع حدث عندك وقال المشتري، بل عندك فإن كان عيبا يحدث مثله بحال فالقول قول البائع مع يمينه على البت بالله لقد باعه وما هذا العيب به إلا أن يأتي المشتري على دعواه ببينة، فتكون البينة أولى من اليمين وإن نكل البائع رددنا اليمين على المشتري اتهمناه، أو لم نتهمه فإن حلف رددنا على السلعة بالعيب وإن نكل عن اليمين لم نرددها عليه ولم نعطه بنكول صاحبه فقط إنما نعطيه بالنكول إذا كان مع النكول يمينه، فإن قال قائل ما دل على ما ذكرت؟ قيل قضى رسول الله ﷺ للأنصاريين بالأيمان يستحقون بها دم صاحبهم فنكلوا ورد الأيمان على يهود يبرءون بها، ثم رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأيمان على المدعى عليهم الدم يبرءون بها فنكلوا فردها على المدعين ولم يعطهم بالنكول شيئا حتى رد الأيمان وسنة رسول الله ﷺ النص المفسرة تدل على سنته الجملة، وكذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقول النبي ﷺ: (البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)، ثم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك جملة دل عليها نص حكم كل واحدة منهما والذي قال لا يعدو باليمين المدعى عليهم يخالف هذا فيكثر ويحمل الحديث ما ليس فيه، وقد وضعنا هذا في كتاب الأقضية، واليمين بين المتبايعين على البت فيما تبايعا فيه.
، وإذا باع الرجل بيعا فبرئ من كل عيب فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول البراءة من كل ذلك جائزة ولا يستطيع المشتري أن يرده بعيب كائنا ما كان، ألا ترى أنه لو أبرأه من الشجاج برئ من كل شجة، ولو أبرأه من القروح برئ من كل قرحة وبهذا يأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول لا يبرأ من ذلك حتى يسمي العيوب كلها بأسمائها ولم يذكر أن يضع يده عليها.
[قال الشافعي]: رضي الله تعالى عنه: وإذا باع الرجل العبد، أو شيئا من الحيوان بالبراءة من العيوب فالذي نذهب إليه - والله تعالى أعلم - قضاء عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أنه برئ من كل عيب لم يعلمه ولم يبرأ من عيب علمه ولم يسمه البائع ويقفه عليه وإنما ذهبنا إلى هذا تقليدا وأن فيه معنى من المعاني يفارق فيه الحيوان ما سواه، وذلك أن ما كانت فيه الحياة فكان يتغذى بالصحة والسقم وتحول طبائعه قلما يبرأ من عيب يخفى، أو يظهر فإذا خفى على البائع أبرئه ببرئه منه فإذا لم يخف عليه فقد وقع اسم العيوب على ما نقصه يقل ويكثر ويصغر ويكبر وتقع التسمية على ذلك فلا يبرئه منه إلا أن يقفه عليه وإن أصح في القياس لولا التقليد وما وصفنا من تفريق الحيوان غيره لان لا يبرأ من عيب كان به لم يره صاحبه ولكن التقليد وما وصفنا أولى بما وصفناه.
، وإذا اشترى الرجل دابة، أو خادما، أو دارا، أو ثوبا، أو غير ذلك فادعى فيه رجل دعوى ولم يكن للمدعي على دعواه بينة فأراد أن يستحلف المشتري الذي في يديه ذلك المتاع على دعواه فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول اليمين عليه ألبتة بالله ما لهذا فيه حق وبهذا يأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول عليه أن يحلف بالله ما يعلم أن لهذا فيه حقا.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: اليمين عليه بالبت ما لهذا فيه حق ويسعه ذلك إذا لم يكن يعلم لهذا فيه حقا وهكذا عامة الأيمان والشهادات.
، وإذا اشترى المشتري بيعا على أن البائع بالخيار شهرا، أو على أن المشتري بالخيار شهرا فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول البيع فاسد ولا يكون الخيار فوق ثلاثة أيام بلغنا عن رسول الله ﷺ أنه كان يقول: (من اشترى شاة محفلة فهو بخير النظرين ثلاثة أيام إن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر، أو صاعا من شعير) فجعل الخيار كله على قول رسول الله ﷺ وكان ابن أبي ليلى يقول الخيار جائز شهرا كان، أو سنة وبه يأخذ.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا اشترى الرجل العبد، أو أي سلعة ما اشترى على أن البائع بالخيار، أو المشتري، أو هما معا إلى مدة يصفانها فإن كانت المدة ثلاثا، أو أقل فالبيع جائز وإن كانت أكثر من ذلك بطرفة عين فأكثر فالبيع منتقض فإن قال قائل وكيف جاز الخيار ثلاثا ولم يجز أكثر من ثلاث؟ قيل لولا الخبر عن رسول الله ﷺ ما جاز أن يكون الخيار بعد تفرق المتبايعين ساعة؛ لأن رسول الله ﷺ إنما جعل لهما الخيار إلى أن يتفرقا، وذلك أن رجلا لا يجوز أن يدفع ماله إلى البائع ويدفع البائع جاريته للمشتري فلا يكون للبائع الانتفاع بثمن سلعته ولا للمشتري أن ينتفع بجاريته، ولو زعمنا أن لهما أن ينتفعا زعمنا أن عليهما إن شاء أحدهما أن يرد رد فإذا كان من أصل مذهبنا أنه لا يجوز أن أبيع الجارية على أن لا يبيعها صاحبها لأني إذا شرطت عليه هذا فقد نقصته من الملك شيئا ولا يصلح أن أملكه بعوض آخذه منه إلا ما ملكه عليه تام فقد نقصته بشرط الخيار كل الملك حتى حظرته عليه وأصل البيع على الخيار لولا الخبر كان ينبغي أن يكون فاسدا؛ لأنا نفسد البيع بأقل منه مما ذكرت فلما شرط رسول الله ﷺ: (في المصراة خيار ثلاث بعد البيع) وروي عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه جعل لحبان بن منقذ خيار ثلاث فيما ابتاع) انتهينا إلى ما أمر به رسول الله ﷺ من الخيار ولم نجاوزه إذا لم يجاوزه رسول الله ﷺ ولك أن أمره به يشبه أن يكون كالحد لغايته من قبل أن المصراة قد تعرف تصريتها بعد أول حلبة في يوم وليلة وفي يومين حتى لا يشك فيها فلو كان الخيار إنما هو ليعلم استبانة عيب التصرية أشبه أن يقال له الخيار حتى يعلم أنها مصراة طال ذلك، أو قصر كما يكون له الخيار في العيب إذا علمه بلا وقت طال ذلك، أو قصر، ولو كان خيار حبان إنما كان لاستشارة غيره أمكنه أن يستشيره في مقامه وبعده بساعة وأمكن فيه أن يدع الاستشارة دهرا فكان الخبر دل على أن خيار ثلاث أقصى غاية الخيار فلم يجز لنا أن نجاوزه ومن جاوزه كان عندنا مشترطا بيعا فاسدا.
[قال]: وإذا اشترى الرجل بيعا على أن البائع بالخيار يوما وقبضه المشتري فهلك عنده فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول المشتري ضامن بالقيمة لأنه أخذه على بيع وبه يأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول هو أمين في ذلك لا شيء عليه فيه، ولو أن الخيار كان للمشتري فهلك عنده فهو عليه بثمنه الذي اشتراه به في قولهما.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا باع الرجل العبد بالخيار ثلاثا، أو أقل وقبضه فمات العبد في يدي المشتري فهو ضامن لقيمته وإنما منعنا أن نضمنه ثمنه أن البيع لم يتم فيه ومنعنا أن نطرح الضمان عنه أنه لم يأخذه إلا على بيع يأخذ من المشتري به عوضا فلا نجعل البيع إلا مضمونا ولا وجه لان يكون أمينا فيه إنما يكون الرجل أمينا فيما لا يملك ولا ينتفع به منفعة عاجلة ولا آجلة وإنما يمسكه لمنفعة ربه لا لمنفعة نفسه.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وسواء في ذلك كان الخيار للبائع، أو المشتري؛ لأن البيع لم يتم فيه حتى مات.
وإذا اشترى الرجل الجارية فباع نصفها ولم يبع النصف الآخر، ثم وجد بها عيبا قد كان البائع دلسه له فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول لا يستطيع أن يرد ما بقي منها ولا يرجع بما نقصها العيب، ويقول رد الجارية كلها كما أخذتها وإلا فلا حق لك وبه يأخذ، وكان ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول يرد ما في يده منها على البائع بقدر ثمنها، وكذلك قولهما في الثياب وفي كل بيع.
[قال الشافعي]: رضي الله تعالى عنه، وإذا اشترى الرجل من الرجل الجارية، أو الثوب، أو السلعة فباع نصفها من رجل، ثم ظهر منها على عيب دلسه البائع لم يكن له أن يرد النصف بحصته من الثمن على البائع ولا يرجع عليه بشيء من نقص العيب من أصل الثمن ويقال له ردها كما هي، أو احبس وإنما يكون له أن يرجع بنقص العيب إذا ماتت الجارية، أو أعتقت فصارت لا ترد بحال، أو حدث بها عنده عيب فصار ليس له أن يردها عليه بحال فأما إذا باعها، أو باع بعضها فقد يمكن أن يردها، وإذا أمكن أن يردها فيلزم ذلك البائع لم يكن له أن يردها ويرجع بنقص العيب كما لا يكون له أن يمسكها بيده ويرجع بنقص العيب.
[قال]: وإذا اشترى الرجل عبدا واشترط فيه شرطا أن يبيعه من فلان، أو يهبه لفلان، أو على أن يعتقه فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول البيع في هذا فاسد وبه يأخذ، وقد بلغنا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نحو من ذلك، وكان ابن أبي ليلى يقول البيع جائز والشرط باطل.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا باع الرجل الرجل العبد على أن لا يبيعه من فلان، أو على أن لا يستخدمه، أو على أن ينفق عليه كذا، أو على أن يخارجه فالبيع فيه كله فاسد؛ لأن هذا كله غير تمام ملك ولا يجوز الشرط في هذا إلا في موضع واحد وهو العتق اتباعا للسنة ولفراق العتق لما سواه فنقول إن اشتراه منه على أن يعتقه فأعتقه فالبيع جائز فإن قال رجل ما فرق بين العتق وغيره قيل قد يكون لي نصف العبد فأهبه وأبيعه وأصنع فيه ما شئت غير العتق فلا يلزمني ضمان نصيب شريكي فيه ولا يخرج نصيب شريكي من يده لأن كلا مالك لما ملك فإن أعتقته وأنا موسر عتق على نصيب شريكي الذي لا أملك ولم أعتق وضمنت قيمته وخرج من يدي شريكي بغير أمره وأعتق الحمل فتلده لأقل من ستة أشهر فيقع عليه العتق، ولو بعته لم يجز البيع مع خلافه لغيره في هذا وفي أم الولد، والمكاتب وما سواهما.
[قال]: وإذا كان لرجل على رجل مال من بيع فحل المال فأخره عنه إلى أجل آخر فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول تأخيره جائز وهو إلى الأجل الآخر الذي أخره عنه وبه يأخذ، وكان ابن أبي ليلى يقول له أن يرجع في ذلك إلا أن يكون ذلك على وجه الصلح منهما.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا كان للرجل على الرجل مال حال من سلف، أو من بيع، أو أي وجه كان فأنظره صاحب المال بالمال إلى مدة من المدد كان له أن يرجع في النظرة متى شاء، وذلك أنها ليست بإخراج شيء من ملكه إلى الذي عليه الدين ولا شيئا أخذ منه به عوضا فنلزمه إياه للعوض الذي يأخذه منه، أو نفسده ويرد العوض ولا فرق بين السلف وبين البيع إلا أن يتفاسخا في البيع، والمبيع قائم فيجعلانه بيعا غيره بنظرة، أو يتداعيان فيه دعوى فيصيرانه بيعا مستأنفا إلى أجل فيلزمهما البيع الذي أحدثاه.
ولو أن رجلا كان له على رجل مال فتغيب عنه المطلوب حتى حط عنه بعض ذلك المال على أن يعطيه بعضه، ثم ظهر له بعد فإن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه كان يقول ما حط عنه من ذلك المال فهو جائز. وكان ابن أبي ليلى يقول: له أن يرجع فيما حط عنه لأنه تغيب عنه وبه يأخذ، ولو أن الطالب قال إن ظهر لي فله مما عليه كذا، وكذا لم يكن قوله هذا يوجب عليه شيئا في قولهم جميعا.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا تغيب الرجل عليه الدين من الرجل فحط عنه وهو متغيب شيئا وأخذ منه البقية، ثم قال إنما حططت عنه للتغيب فليس له أن يرجع فيما حط عنه ولا يكون هذا من معاني الإكراه التي نطرحها عمن أكره عليها؛ لأن الإكراه موضوع عن العبد فيما بينه وبين الله وفي الحكم وليس هذا إكراها قد كان يظهر له بعد التغيب ويعدى عليه في التغيب ويظن أنه غاب عنه ولم يغب.
ولو قال الطالب إن ظهر لي فله وضع كذا فظهر له لم يكن له وضع؛ لأنه عطية مخاطرة.
وإذا باع الرجل الرجل بيعا إلى العطاء فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يقول في ذلك البيع فاسد. وكان ابن أبي ليلى يقول البيع جائز، والمال حال، وكذلك قولهما في كل مبيع إلى أجل لا يعرف فإن استهلكه المشتري فعليه القيمة في قول أبي حنيفة وإن حدث به عيب رده ورد ما نقصه العيب وإن كان قائما بعينه فقال المشتري لا أريد الأجل وأنا أنقد لك المال جاز ذلك له في هذا كله في قول أبي حنيفة وبه يأخذ.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا باع الرجل الرجل بيعا إلى العطاء فالبيع فاسد من قبل أن الله عز وجل أذن بالدين إلى أجل مسمى، والمسمى الموقت بالأهلة التي سمى الله عز وجل فإنه يقول: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}، والأهلة معروفة المواقيت وما كان في معناها من الأيام المعلومات فإنه يقول: {في أيام معلومات} والسنين فإنه يقول: {حولين كاملين} وكل هذا الذي لا يتقدم ولا يتأخر، والعطاء لم يكن قط فيما علمت ولا نرى أن يكون أبدا إلا يتقدم ويتأخر، ولو اجتهد الإمام غاية جهده لدخله التقدم والتأخر [أخبرنا الربيع] أخبرنا الشافعي قال أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال لا تبايعوا إلى العطاء ولا إلى الأندر ولا إلى العصير.
[قال الشافعي]: وهذا كله كما قال؛ لأن هذا يتقدم ويتأخر وكل بيع إلى أجل غير معلوم فالبيع فيه فاسد.
[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فإن هلكت السلعة التي ابتيعت إلى أجل غير معلوم في يدي المشتري رد القيمة وإن نقصت في يديه بعيب ردها وما نقصها العيب فإن قال المشتري أنا أرضى السلعة بثمن حال وأبطل الشرط بالأجل لم يكن ذلك له إذا انعقد البيع فاسدا لم يكن لأحدهما أن يصلحه دون الآخر ويقال لمن قال قول أبي حنيفة أرأيت إذا زعمت أن البيع فاسد فمتى صلح فإن قال صلح بإبطال هذا شرطه قيل له: فلهذا أن يكون بائعا مشتر، أو إنما هذا مشتر ورب السلعة بائع. فإن قال، بل رب السلعة بائع قيل له: فهل أحدث رب السلعة بيعا غير البيع الأول؟ فإن قال: لا، قيل فقولك متناقض تزعم أن بيعا فاسدا حكمه كما لم يصر فيه بيع يصير بيعا من غير أن يبيعه مالكه.