البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة أربعين وستمائة



ثم دخلت سنة أربعين وستمائة


فيها: توفي الخليفة المستنصر بالله وخلافة ولده المستعصم بالله، فكانت وفاة الخليفة أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة، وله من العمر إحدى وخمسون سنة، وأربعة أشهر وسبعة أيام، وكتم موته حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم، وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما، ودفن بدار الخلافة.

ثم نقل إلى الترب من الرصافة.

وكان جميل الصورة حسن السريرة جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات، محسنا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه، كان جده الناصر قد جمع ما يتحصل من الذهب في بركة في دار الخلافة، فكان يقف على حافتها ويقول: أترى أعيش حتى أملأها، وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول: أترى أعيش حتى أنفقها كلها فكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات.

وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان، وكان يتقصد الجواري اللائي قد بلغن الأربعين فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن، وفي كل وقت يبرز صلاته ألوف متعددة من الذهب، تفرق في المحال ببغداد على ذوي الحاجات والأرامل والأيتام وغيرهم، تقبل الله تعالى منه وجزاه خيرا.

وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث وحماما ودار طب، وجعل لمستحقيها من الجوامك والأطعمة والحلاوات والفاكهة ما يحتاجون إليه في أوقاته، ووقف عليها أوقافا عظيمة حتى قيل إن ثمن التبن من غلات ريعها يكفي المدرسة وأهلها.

ووقف فيها كتبا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير، فكانت هذه المدرسة جمالا لبغداد وسائر البلاد، وقد احترق في أول هذه السنة المشهدا لذي بسامرا المنسوب إلى علي الهادي والحسن العسكري، وقد كان بناه أرسلان البساسيري في أيام تغلبه على تلك النواحي، في حدود سنة خمسين وأربعمائة، فأمر الخليفة المستنصر بإعادته إلى ما كان عليه، وقد تكلمت الروافض في الاعتذار عن حريق هذا المشهد بكلام طويل بارد لا حاصل له، وصنفوا فيه أخبار وأنشدوا أشعارا كثيرة لا معنى لها.

وهو المشهد الذي يزعمون أنه يخرج منه المنتظر الذي لا حقيقة له، فلا عين ولا أثر، ولو لم يبن لكان أجدر، وهو الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن علي بن محمد بن الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بكر بلاء بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وقبح من يغلو فيهم ويبغض بسببهم من هو أفضل منهم.

وكان المستنصر رحمه الله كريما حليما رئيسا متوددا إلى الناس، وكان جميل الصورة حسن الأخلاق بهي المنظر، عليه نور بيت النبوة رضي الله عنه وأرضاه.

وحكى أنه اجتاز راكبا في بعض أزفة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان، فرأى شيخا كبيرا ومعه إناء فيه طعام قد حمله من محلة إلى محلة أخرى.

فقال: أيها الشيخ لم لا أخذت الطعام من محلتك؟ أو أنت محتاج تأخذ من المحلتين؟ فقال: لا والله يا سيدي - ولم يعرف أنه الخليفة - ولكني شيخ كبير، وقد نزل بي الوقت وأنا أستحي من أهل محلتي أن أزاحمهم وقت الطعام، فيشمت بي من كان يبغضني، فأنا أذهب إلى غير محلتي فآخذ الطعام وأتحين وقت كون الناس في صلاة المغرب فأدخل بالطعام إلى منزلي بحيث لا يراني أحد.

فبكى الخليفة رحمه الله وأمر له بألف دينار، فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحا شديدا حتى قيل إنه انشق قلبه من شدة الفرح، ولم يعش بعد ذلك إلا عشرين يوما.

ثم مات فخلف الألف دينار إلى الخليفة، لأنه لم يترك وارثا.

وقد أنفق منها دينارا واحدا، فتعجب الخليفة من ذلك وقال: شيء قد خرجنا عنه لا يعود إلينا، تصدقوا بها على فقراء محلته، فرحمه الله تعالى.

وقد خلف من الأولاد ثلاثة، اثنان شقيقان وهما أمير المؤمنين المستعصم بالله الذي ولي الخلافة بعده وأبو أحمد عبد الله، والأمير أبو القاسم عبد العزيز وأختهما من أم أخرى كريمة صان الله حجابها.

وقد رثاه الناس بأشعار كثيرة أورد منها بن الساعي قطعة صالحة، ولم يستوزر أحدا بل أقر أبا الحسن محمد بن محمد القمي على نيابة الوزارة.

ثم كان بعده نصر الدين أبو الأزهر أحمد بن محمد الناقد الذي كان أستاذ دار الخلافة والله تعالى أعلم بالصواب.

خلافة المستعصم بالله

أمير المؤمنين وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد، وهو الخليفة الشهيد الذي قتله التتار بأمر هولاكو ابن تولى ملك التتار بن جنكيز خان لعنهم الله، في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وهو أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر المنصور بن أمير المؤمنين الظاهر بالله أبي نصر محمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين المستضيء بالله أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الخليفة المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله وبقية نسبه إلى العباس في ترجمة جده الناصر.

وهؤلاء الذين ذكرناهم كلهم ولي الخلافة يتلو بعضهم بعضا، ولم يتفق هذا لأحد قبل المستعصم، أن في نسبه ثمانية نسقا ولوا الخلافة لم يتخللهم أحد، وهو التاسع رحمه الله تعالى بمنه.

لما توفي أبوه بكرة الجمعة عاشر جمادى الآخرة من سنة أربعين وستمائة استدعى هو من التاج يومئذ بعد الصلاة فبويع بالخلافة، ولقب بالمستعصم، وله من الأمر يومئذ ثلاثون سنة وشهور، وقد أتقن في شبيبته تلاوة القرآن حفظا وتجويدا.

وأتقن العربية والخط الحسن وغير ذلك من الفضائل على الشيخ شمس الدين أبي المظفر علي بن محمد بن النيار أحد أئمة الشافعية في زمانه، وقد أكرمه وأحسن إليه في خلافته، وكان المستعصم على ما ذكر كثير التلاوة حسن الأداء طيب الصوت، يظهر عليه خشوع وإنابة، وقد نظر في شيء من التفسير وحل المشكلات.

وكان مشهورا بالخير مشكورا مقتديا بأبيه المستنصر جهده وطاقته، وقد مشت الأمور في أيامه على السداد والاستقامة بحمد الله.

وكان القائم بهذه البيعة المستعصمية شرف الدين أبو الفضائل إقبال المستنصري، فبايعه أولا بنو عمه وأهله من بني العباس، ثم أعيان الدولة من الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والفقهاء ومن بعدهم من أولي الحل والعقد والعامة، وغيرهم وكان يوما مشهودا ومجمعا محمودا ورأيا سعيدا وأمرا حميدا، وجاءت البيعة من سائر الجهات والأقطار والبلدان والأمصار، وخطب له في سائر البلدان، والأقاليم والرساتيق، وعلى سائر المنابر شرقا وغربا، بعدا وقربا كما كان أبوه وأجداده، رحمهم الله أجمعين.

وفيها: وقع من الحوادث أنه كان بالعراق وباء شديد في آخر أيام المستنصر وغلا السكر والأدوية فتصدق الخليفة المستنصر بالله رحمه الله بسكر كثير على المرضى، تقبل الله منه.

وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان أذن الخليفة المستعصم بالله لأبي الفرج عبد الرحمن بن محيي الدين يوسف ابن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي - وكان شابا ظريفا فاضلا - في الوعظ بباب البدرية، فتكلم وأجاد وأفاد وامتدح الخليفة المستعصم بقصيدة طويلة فصيحة، سردها ابن الساعي بكمالها، ومن يشابه أباه فما ظلم، والشبل في المخبر مثل الأسد.

وفيها: كانت وقعة عظيمة بين الحلبيين وبين الخوارزمية، ومع الخوارزمية شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين، فكسرهم الحلبيون كسرة عظيمة منكرة، وغنموا من أموالهم شيئا كثيرا جدا، ونهبت نصيبين مرة أخرى، وهذه سابع عشر مرة نهبت في هذه السنين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وعاد الغازي إلى ميا فارقين وتفرقت الخوارزمية يفسدون في الأرض صحبة مقدمهم بركات خان، لا بارك الله فيه، وقدم على الشهاب غازي منشور بمدينة خلاط فتسلمها وما فيها من الحواصل.

وفيها عزم الصالح أيوب صاحب مصر على دخول الشام فقيل له إن العساكر مختلفة فجهز عسكرا إليها وأقام هو بمصر يدير مملكتها.

من الأعيان:

المستنصر بالله

أمير المؤمنين كما تقدم

خاتون بنت عز الدين مسعود

ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكية واقفة المدرسة الأتابكية بالصالحية، وكانت زوجة السلطان الملك الأشرف رحمه الله وفي ليلة وفاتها كانت وقفت مدرستها وتربتها بالجبل قاله أبو شامة: ودفنت بها رحمها الله تعالى وتقبل منها.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697