البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة
في مستهل صفر منها ركب السلطان من الديار المصرية في طائفة من العسكر إلى عسقلان فهدم ما بقي من سورها مما كان أهمل في الدولة الصلاحية.
ووجد فيما هدم كوزين فيهما ألفا دينار ففرقهما على الأمراء.
وجاءته البشارة وهو هنالك بأن منكوتمر كسر جيش أبغا ففرح بذلك، ثم عاد إلى القاهرة.
وفي ربيع الأول بلغ السلطان أن أهل عكا ضربوا رقاب من في أيديهم من أسرى المسلمين صبرا بظاهر عكا، فأمر بمن كان في يده من أسرى أهل عكا فضربت رقابهم في صبيحة واحدة، وكانوا قريبا من مائتي أسير.
وفيها: كمل جامع المنشية وأقيمت فيه الجمعة في الثاني والعشرين من ربيع الآخر.
وفيها: جرت حروب يطول ذكرها بين أهل تونس والفرنج، ثم تصالحوا بعد ذلك على الهدنة ووضع الحرب، بعدما قتل من الفريقين خلق لا يحصون.
وفي يوم الخميس ثامن رجب دخل الظاهر دمشق وفي صحبته ولده الملك السعيد وابن الحنا الوزير وجمهور الجيش ثم خرجوا متفرقين وتواعدوا أن يلتقوا بالساحل ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية ومرقب وعرقا وما هنالك من البلاد.
فلما اجتمعوا فتحوا صافينا والمجدل، ثم ساروا فنزلوا على حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب، وله ثلاث أسوار، فنصبوا المنجنيقات ففتحها قسرا يوم نصف شعبان، فدخل الجيش، وكان الذي يحاصره ولد السلطان الملك السعيد، فأطلق السلطان أهله ومنّ عليهم وأجلاهم إلى طرابلس، وتسلم القلعة بعد عشرة أيام من الفتح، فأجلى أهلها أيضا وجعل كنيسة البلد جامعا، وأقام فيه الجمعة.
وولى فيها نائبا وقاضيا وأمر بعمارة البلد، وبعث صاحب طرسوس بمفاتيح بلده يطلب منه الصلح على أن يكون نصف مغل بلاده للسلطان، وأن يكون له بها نائبا فأجابه إلى ذلك، وكذلك فعل صاحب المرقب فصالحه أيضا على المناصفة ووضع الحرب عشر سنين.
وبلغ السلطان وهو مخيم على حصن الأكراد أن صاحب جزيرة قبرص قد ركب بجيشه إلى عكا لينصر أهلها خوفا من السلطان، فأراد السلطان أن يغتنم هذه الفرصة فبعث جيشا كثيفا في اثني عشرة شيني ليأخذوا جزيرة قبرص في غيبة صاحبها عنها.
فسارت المراكب مسرعة فلما قاربت المدينة جاءتها ريح قاصف فصدم بعضها بعضا فانكسر فيها أربعة عشر مركبا بإذن الله فغرق خلق وأسر الفرنج من الصناع والرجال قريبا من ألف وثمانمائة إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم سار السلطان فنصب المجانيق على حصن عكا فسأله أهلها الأمان على أن يخليهم فأجابهم إلى ذلك، ودخل البلد يوم عيد الفطر فتسلمه، وكان الحصن شديد الضرر على المسلمين، وهو واد بين جبلين، ثم سار السلطان نحو طرابلس فأرسل إليه صاحبها يقول: ما مراد السلطان في هذه الأرض؟ فقال: جئت لأرعى زروعكم وأخرب بلادكم، ثم أعود إلى حصاركم في العام الآتي.
فأرسل يستعطفه ويطلب منه المصالحة ووضع الحرب بينهم عشر سنين فأجابه إلى ذلك، وأرسل إليه الإسماعيلية يستعطفونه على والدهم، وكان مسجونا بالقاهرة، فقال: سلموا إلىّ العليقة وانزلوا فخذوا إقطاعات بالقاهرة، وتسلموا أباكم.
فلما نزلوا أمر بحبسهم بالقاهرة واستناب بحصن العليقة.
وفي يوم الأحد الثاني عشر من شوال جاء سيل عظيم إلى دمشق فأتلف شيئا كثيرا، وغرق بسببه ناس كثير، لا سيما الحجاج من الروم الذين كانوا نزولا بين النهرين، أخذهم السيل وجمالهم وأحمالهم، فهلكوا وغلقت أبواب البلد، ودخل الماء إلى البلد من مراقي السور، ومن باب الفراديس فغرق خان ابن المقدم وأتلف شيئا كثيرا.
وكان ذلك في زمن الصيف في أيام المشمش، ودخل السلطان إلى دمشق يوم الأربعاء خامس عشر شوال فعزل القاضي ابن خلكان، وكان له في القضاء عشر سنين.
وولى القاضي عز الدين بن الصائغ، وخلع عليه، وكان تقليده قد كتب بظاهر طرابلس بسفارة الوزير ابن الحنا، فسار ابن خلكان في ذي القعدة إلى مصر.
وفي ثاني عشر شوال دخل حصن الكردي شيخ السلطان الملك الظاهر وأصحابه إلى كنيسة اليهود فصلوا فيها وأزلوا ما فيها من شعائر اليهود، ومدوا فيها سماطا وعملوا سماعا، وبقوا على ذلك أياما، ثم أعيدت إلى اليهود، ثم خرج السلطان إلى السواحل فافتتح بعضها وأشرف على عكا وتأملها ثم سار إلى الديار المصرية.
وكان مقدار غرمه في هذه المدة وفي الغزوات قريبا من ثمانمائة ألف دينار، وأخلفها الله عليه، وكان وصوله إلى القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة.
وفي اليوم السابع عشر من وصوله أمسك على جماعة من الأمراء منهم الحلبي وغيره بلغه أنهم أرادوا مسكه على الشقيف.
وفي اليوم السابع عشر من ذي الحجة أمر بإراقة الخمور من سائر بلاده وتهدد من يعصرها أو يعتصرها بالقتل، وأسقط ضمان ذلك، وكان ذلك بالقاهرة وحدها كل يوم ضمانة ألف دينار، ثم سارت البرد بذلك إلى الآفاق.
وفيها: قبض السلطان على العزيز بن المغيث صاحب الكرك، وعلى جماعة من أصحابه كانوا عزموا على سلطنته.
من الأعيان:
الملك تقي الدين عباس بن الملك العادل
أبي بكر بن أيوب بن شادي، وهو آخر من بقي من أولاد العادل، وقد سمع الحديث من الكندي وابن الحرستاني، وكان محترما عند الملوك لا يرفع عليه أحد في المجالس والمواكب، وكان لين الأخلاق حسن العشرة، لا تمل مجالسته.
توفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الآخرة بدرب الريحان، ودفن بتربته بسفح قاسيون.
قاضي القضاة شرف الدين أبو حفص
عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى السبكي المالكي، ولد سنة خمس وثمانين وخمسمائة، وسمع الحديث وتفقه وأفتى بالصلاحية، وولي حسبة القاهرة ثم ولي القضاء سنة ثلاث وستين، لما ولوا من كل مذهب قاضيا، وقد امتنع أشد الامتناع ثم أجاب بعد إكراه بشرط أن لا يأخذ على القضاء جامكية، وكان مشهورا بالعلم والدين، روى عنه القاضي بدر الدين ابن جماعة وغيره توفي لخمس بقين من ذي القعدة.
الطواشي شجاع الدين مرشد المظفري الحموي
كان شجاعا بطلا من الأبطال الشجعان، وكان له رأي سديد، كان أستاذه لا يخالفه وكذلك الملك الظاهر، توفي بحماه ودفن بتربته بالقرب من مدرسته بحماه.
ابن سبعين: عبد الحق بن إبراهيم بن محمد
ابن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن قطب الدين أبو محمد المقدسي الرقوطي، نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، واشتغل بعلم الأوائل والفلسفة فتولد له من ذلك نوع من الإلحاد، وصنف فيه، وكان يعرف السيميا.
وكان يلبس بذلك على الأغبياء من الأمراء والأغنياء، ويزعم أنه حال من أحوال القوم، وله من المصنفات كتاب (البدو) وكتاب (الهو)، وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها ابن سمي، وجاور في بعض الأوقات بغار حراء يرتجي فيما ينقل عنه أن يأتيه فيه وحي كما أتى النبي ﷺ، بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة، وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا، فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة، إن كان مات على ذلك.
وقد كان إذا رأى الطائفين حول البيت يقول عنهم كأنهم الحمير حول المدار، وأنهم لو طافوا به كان أفضل طوافهم بالبيت، فالله يحكم فيه وفي أمثاله.
وقد نقلت عنه عظائم من الأقوال والأفعال، توفي في الثامن والعشرين من شوال بمكة.
البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر | |
---|---|
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697 |