البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/سنة ستمائة من الهجرة



سنة ستمائة من الهجرة


في هذه السنة كانت الفرنج قد جمعوا خلقا منهم ليستعيدوا بيت المقدس من أيدي المسلمين، فأشغلهم الله عن ذلك بقتال الروم، وذلك أنهم اجتازوا في طريقهم بالقسطنطينية فوجدوا ملوكها قد اختلفوا فيما بينهم، فحاصروها حتى فتحوها قسرا، وأباحوها ثلاثة أيام قتلا وأسرا، وأحرقوا أكثر من ربعها، وما أصبح أحد من الروم في هذه الأيام الثلاثة إلا قتيلا أو فقيرا أو مكبولا أو أسيرا، ولجأ عامة من بقي منها إلى كنيستها العظمى المسماة بأياصوفيا، فقصدهم الفرنج فخرج إليهم القسيسون بالأناجيل ليتوسلوا إليهم ويتلوا ما فيها عليهم، فما التفتوا إلى شيء من ذلك، بل قتلوهم أجمعين أكتعين أبصعين. وأخذوا ما كان في الكنيسة من الحلي والأذهاب والأموال التي لا تحصى ولا تعد، وأخذوا ما كان على الصلبان والحيطان، والحمد لله الرحيم الرحمن، الذي ما شاء كان، ثم اقترع ملوك الفرنج وكانوا ثلاثة وهم دوق البنادقة، وكان شيخا أعمى يقاد فرسه، ومركيس الإفرنسيس وكندا بلند، وكان أكثرهم عددا وعددا. فخرجت القرعة له ثلاث مرات فولوه ملك القسطنطينية وأخذ الملكان الآخران بعض البلاد، وتحول الملك من الروم إلى الفرنج بالقسطنطينية في هذه السنة ولم يبق بأيدي الروم هناك إلا ما وراء الخليج، استحوذ عليه رجل من الروم يقال له تسكرى، ولم يزل مالكا لتلك الناحية حتى توفي.

ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام وقد تقووا بملكهم القسطنطينية فنزلوا عكا وأغاروا على كثير من بلاد الإسلام من ناحية الغور وتلك الأراضي، فقتلوا وسبوا، فنهض إليهم العادل وكان بدمشق، واستدعى الجيوش المصرية والشرقية ونازلهم بالقرب من عكا، فكان بينهم قتال شديد وحصار عظيم، ثم وقع الصلح بينهم والهدنة وأطلق لهم شيئا من البلاد فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها: جرت حروب كثيرة بين الخوارزمية والغورية بالمشرق يطول ذكرها.

وفيها: تحارب صاحب الموصل نور الدين وصاحب سنجار قطب الدين وساعد الأشرف بن العادل القطب، ثم اصطلحوا وتزوج الأشرف أخت نور الدين، وهي الأتابكية بنت عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واقفة الأتابكية التي بالسفح، وبها تربتها.

وفيها: كانت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وقبرص وغيرها من البلاد. قاله ابن الأثير في (كامله).

وفيها: تغلب رجل من التجار يقال له محمود بن محمد الحميري على بعض بلاد حضرموت ظفار وغيرها، واستمرت أيامه إلى سنة تسع عشرة وستمائة وما بعدها.

وفي جمادى الأولى منها عقد مجلس لقاضي القضاة ببغداد وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سليمان الجيلي بدار الوزير، وثبت عليه محضر بأنه يتناول الرشا فعزل في ذلك المجلس وفسق ونزعت الطرحة عن رأسه، وكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر.

وفيها كانت وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان كان ينسب إلى اعتقاد الفلاسفة، وكان كهفا لمن ينسب إلى ذلك، وملجأ لهم، وظهر منه قبل موته تجهرم عظيم، وذلك أنه حاصر أخاه شقيقه - وكان صاحب أنكورية، وتسمى أيضا أنقرة - مدة سنين حتى ضيق عليه الأقوات بها فسلمها إليه قسرا، على أن يعطيه بعض البلاد.

فلما تمكن منه ومن أولاده أرسل إليهم من قتلهم غدرا وخديعة ومكرا فلم ينظر بعد ذلك إلا خمسة أيام فضربه الله تعالى بالقولنج سبعة أيام ومات { فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } [الدخان: 29]

وقام بالملك من بعده ولده أفلح أرسلان، وكان صغيرا فبقي سنة واحدة، ثم نزع منه الملك وصار إلى عمه كنخسروا.

وفيها: قتل خلق كثير من الباطنية بواسط.

قال ابن الأثير: في رجب منها اجتمع جماعة من الصوفية برباط ببغداد في سماع فأنشدهم، وهو الجمال الحلي:

أعاذلتي أقصري ** كفى بمشيبي عذل

شباب كأن لم يكن ** وشيب كأن لم يزل

وبثي ليال الوصا ** ل أواخرها والأول

وصفرة لون المحبـ ** ـب عند استماع الغزل

لئن عاد عتبي لكم ** حلالي العيش واتصل

فلست أبالي بما نالني ** ولست أبالي بأهل ومل

قال فتحرك الصوفية على العادة فتواجد من بينهم رجل يقال له أحمد الرازي فخر مغشيا عليه، فحركوه فإذا هو ميت. قال: وكان رجلا صالحا، وقال ابن الساعي كان شيخا صالحا صحب الصدر عبد الرحيم شيخ الشيوخ فشهد الناس جنازته، ودفن بباب إبرز.

وفيها توفي من الأعيان:

أبو القاسم بهاء الدين الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم علي بن هبة الله بن عساكر

كان مولده في سنة سبع وعشرين وخمسمائة، أسمعه أبوه الكثير، وشارك أباه في أكثر مشايخه، وكتب تاريخ أبيه مرتين بخطه، وكتب الكثير وأسمع وصنف كتبا عدة، وخلف أباه في إسماع الحديث بالجامع الأموي، ودار الحديث النورية.

مات يوم الخميس ثامن صفر ودفن بعد العصر على أبيه بمقابر باب الصغير شرقي قبور الصحابة خارج الحظيرة.

الحافظ عبد الغني المقدسي

ابن عبد الواحد بن علي بن سرور الحافظ أبو محمد المقدسي، صاحب التصانيف المشهورة، من ذلك الكمال في أسماء الرجال، والأحكام الكبرى والصغرى وغير ذلك، ولد بجماعيل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وهو أسن من عميه الإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، والشيخ أبي عمر، بأربعة أشهر،

وكان قدومهما مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح، خارج باب شرقي أولا، ثم انتقلوا إلى السفح فعرفت محلة الصالحية بهم، فقيل لها الصالحية فسكنوا الدير، وقرأ الحافظ عبد الغني القرآن وسمع الحديث وارتحل هو والموفق إلى بغداد سنة ستين وخمسمائة، فأنزلهما الشيخ عبد القادر عنده في المدرسة، وكان لا يترك أحدا ينزل عنده، ولكن توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما.

ثم توفي بعد مقدمهما بخمسين ليلة رحمه الله، وكان ميل عبد الغني إلى الحديث وأسماء الرجال، وميل الموفق إلى الفقه واشتغلا على الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي، وعلى الشيخ أبي الفتح ابن المنى، ثم قدما دمشق بعد أربع سنين فدخل عبد الغني إلى مصر وإسكندرية، ثم عاد إلى دمشق، ثم ارتحل إلى الجزيرة وبغداد، ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير، ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة.

قلت: وهو عندي بخط أبي نعيم. فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفيا في إزار. ولما دخل في طريقه إلى الموصل سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة، فخرج منها أيضا خائفا يترقب، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه، وكان رقيق القلب سريع الدمعة، فحصل له قبول من الناس جدا، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهزوا الناصح الحنبلي، فتكلم تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه، حتى يشوش عليه فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر، فذكر يوما عقيدته على الكرسي فثار عليه القاضي ابن الزكي، وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين.

وتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول، ومسألة ا لحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق؟ قال: نعم، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد.

فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك، ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون فكان يقرأ الحديث بها فثار عليه الفقهاء بمصر أيضا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة، وله سبع وخمسون سنة، ودفن بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمهما الله.

قال السبط: كان عبد الغني ورعا زاهدا عابدا، يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة كورد الإمام أحمد، ويقوم الليل ويصوم عامة السنة، وكان كريما جوادا لا يدخر شيئا، ويتصدق على الأرامل والأيتام حيث لا يراه أحد، وكان يرقع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد، وكان قد ضعف بصره من كثرة المطالعة والبكاء وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ.

قلت: وقد هذب شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي كتابه الكمال في أسماء الرجال - رجال الكتب الستة - بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة، نحوا من ألف موضع، وذلك الإمام المزي الذي لا يمارى ولا يجارى، وكتابه التهذيب لم يسبق إلى مثله، ولا يلحق في شكله فرحمهما الله،

فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظا وإتقانا وسماعا وإسماعا وسردا للمتون وأسماء الرجال، والحاسد لا يفلح ولا ينال منالا طائلا.

قال ابن الأثير وفيها توفي:

أبو الفتوح أسعد بن محمود العجلي

صاحب تتمة التتمة أسعد بن أبي الفضل بن محمود بن خلف العجلي الفقيه الشافعي الأصبهاني الواعظ منتخب الدين، سمع الحديث وتفقه وبرع وصنف تتمة التتمة لأبي سعد الهروي، كان زاهدا عابدا، وله شرح مشكلات الوسيط والوجيز، توفي في صفر سنة ستمائة.

البناني الشاعر أبو عبد الله محمد بن المهنا الشاعر المعروف بالبناني

مدح الخلفاء والوزراء وغيرهم، ومدح وكبر وعلت سنه، وكان رقيق الشعر ظريفه قال:

ظلما ترى مغرما في الحب تزجره ** وغيره بالهوى أمسيت تنكره

يا عاذل الصب لو عانيت قاتله ** لو جنة وعذار كنت تعذره

أفدى الذي بسحر عينيه يعلمني ** إذا تصدى لقتلي كيف أسحره

يستمتع الليل في نوم وأسهره ** إلى الصباح وينساني وأذكره

أبو سعيد الحسن بن خلد

ابن المبارك النصراني المازداني الملقب بالوحيد، اشتغل في حداثته بعلم: الأوائل وأتقنه وكانت له يد طولى في الشعر الرائق، فمن ذلك قوله قاتله الله:

أتاني كتاب أنشأته أنامل ** حوت أبحرا من فيضها يغرق البحر

فوا عجبا أني التوت فوق طرسه ** وما عودت بالقبض أنمله العشر

وله أيضا:

لقد أثرت صدغاه في لون خده ** ولاحا كفئ من وراء جاج

ترى عسكرا للروم في الريح مذ بدت ** كطائفة تسعى ليوم هياج

أم الصبح بالليل البهيم موشح ** حكى آبنوسا في صحيفة عاج

لقد غار صدغاه على ورد خده ** فسيجه من شعره بسياج

الطاووسي صاحب الطريقة.

العراقي محمد بن العراقي

ركن الدين أبو الفضل القزويني، ثم الهمداني، المعروف بالطاووسي كان بارعا في علم الخلاف والجدل والمناظرة، أخذ علم ذلك عن رضي الدين النيسابوري الحنفي، وصنف في ذلك ثلاث تعاليق قال ابن خلكان: أحسنهن الوسطى، وكانت إليه الرحلة بهمدان، وقد بنى له بعض الحجبة بها مدرسة تعرف بالحاجبية، ويقال إنه منسوب إلى طاووس بن كيسان التابعي فالله أعلم.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697