البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة



ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة


استهلت هذه السنة وليس للمسلمين خليفة، وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن أبي الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين، وهو واقع بينه وبين المصريين.

وقد ملكوا نور الدين علي بن المعز أيبك التركماني ولقبوه: بالمنصور، وقد أرسل الملك الغاشم هولاكو خان إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستدعيه إليه، فأرسل إليه ولده العزيز وهو صغير ومعه هدايا كثيرة وتحف، فلم يحتفل به هولاكو خان بل غضب على أبيه إذ لم يقبل إليه، وأخذ ابنه وقال: أنا أسير إلى بلاده بنفسي.

فانزعج الناصر لذلك، وبعث بحريمه وأهله إلى الكرك ليحصنهم بها، وخاف أهل دمشق خوفا شديدا، ولا سيما لما بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات، سافر كثير منهم إلى مصر في زمن الشتاء، فمات ناس كثير منهم ونهبوا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وأقبل هولاكو خان فقصد الشام بجنوده وعساكره، وقد امتنعت عليه ميافارقين مدة سنة ونصف، فأرسل إليها ولده أشموط فافتتحها قسرا وأنزل ملكها الكامل بن الشهاب غازي بن العادل فأرسله إلى أبيه وهو محاصر حلب فقتله بين يديه، واستناب عليها بعض مماليك الأشرف، وطيف برأس الكامل في البلاد.

ودخلوا برأسه إلى دمشق فنصب على باب الفراديس البراني، ثم دفن بمسجد الرأس داخل باب الفراديس الجواني، فنظم أبو شامة في ذلك قصيدة يذكر فيها فضله وجهاده، وشبهه بالحسين في قتله مظلوما ودفن رأسه عند رأسه:

وفيها: عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة، ونقل إليه شيئا كثيرا من كتب الأوقاف التي كانت ببغداد، وعمل دار حكمة، ورتب فيها فلاسفة، ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم.

ودار طب فيها للطبيب في اليوم درهان.

ومدرسة لكل فقيه في اليوم درهم.

ودار حديث لكل محدث نصف درهم في اليوم.

وفيها: قدم القاضي الوزير كمال الدين عمر بن أبي جرادة المعروف: بابن العديم إلى الديار المصرية رسولا من صاحب دمشق الناصر بن العزيز يستنجد المصريين على قتال التتار، وأنهم قد اقترب قدومهم إلى الشام، وقد استولوا على بلاد الجزيرة وغيرها.

وقد جاز أشموط بن هولاكو خان الفرات، وقرب من حلب، فعند ذلك عقدوا مجلسا بين يدي المنصور بن المعز التركماني، وحضر قاضي مصر بدر الدين السنجاري والشيخ عز الدين بن عبد السلام، وتفاوضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شيء من أموال العامة لمساعدة الجند، وكانت العمدة على ما يقوله ابن عبد السلام، وكان حاصل كلامه أنه قال:

إذا لم يبق في بيت المال شيء، ثم أنفقتم أموال الحوائض المذهبة وغيرها من الفضة والزينة، وتساويتم أنتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب بحيث لم يبق للجندي سوى فرسه التي يركبها، ساغ للحاكم حينئذ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء عنهم، لأنه إذا دهم العدو البلاد، وجب على الناس كافة دفعهم بأموالهم وأنفسهم.

ولاية الملك المظفر قطز

وفيها: قبض الأمير سيف الدين قطز علي ابن أستاذه نور الدين علي الملقب بالمنصور، وذلك في غيبة أكثر الأمراء من مماليك أبيه وغيرهم في الصيد، فلما مسكه سيره مع أمه وأبنيه وأخوته إلى بلاد الإشكري، وتسلطن هو وسمى نفسه: بالملك المظفر.

وكان هذا من رحمة الله بالمسلمين، فإن الله جعل على يديه كسر التتار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وبان عذره الذي اعتذر به إلى الفقهاء والقضاة وإلى ابن العديم، فإنه قال: لا بد للناس من سلطان قاهر يقاتل عن المسلمين عدوهم، وهذا صبي صغير لا يعرف تدبير المملكة.

وفيها: برز الملك الناصر صاحب دمشق إلى وطاء، برز في جحافل كثيرة من الجيش والمتطوعة والأعراب، وغيرهم ولما علم ضعفهم عن مقاومة المغول أرفض ذلك الجمع، ولم يسر لا هو ولا هم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وفيها توفي من الأعيان:

واقف الصدرية صدر الدين أسعد بن المنجاة بن بركات بن مؤمل

التنوخي المغربي ثم الدمشقي الحنبلي أحد المعدلين، ذوي الأموال، والمروءات والصدقات الدارة البارة، وقف مدرسة للحنابلة، وقبره بها إلى جانب تربة القاضي المصري في رأس درب الريحان من ناحية الجامع الأموي، وقد ولي نظر الجامع مدة.

استجد أشياء كثيرة منها: سوق النحاسين قبلي الجامع، ونقل الصاغة إلى مكانها الآن، وقد كانت قبل ذلك في الصاغة العتيقة، وجدد الدكاكين التي بين أعمدة الزيارة، وثمر الجامع أموالا جزيلة، وكانت له صدقات كثيرة، وذكر عنه أنه كان يعرف صنعة الكيميا، وأنه صح معه عمل الفضة، وعندي أن هذا لا يصح ولا يصح عنه، والله أعلم.

الشيخ يوسف الأقميني

كان يعرف بالأقميني لأنه كان يسكن قمين حمام نور الدين الشهيد، وكان يلبس ثيابا طوالا تحف على الأرض، ويبول في ثيابه، ورأسه مكشوفة، ويزعمون أن له أحوالا وكشوفا كثيرة.

وكان كثير من العوام وغيرهم يعتقدون صلاحه وولايته، وذلك لأنهم لا يعملون شرائط الولاية ولا الصلاح، ولا يعملون أن الكشوف قد تصدر من البر والفاجر، والمؤمن والكافر، كالرهبان وغيرهم، وكالدجال وابن صياد وغيرهم.

فإن الجن تسترق السمع وتلقيه على أذن الإنسي، ولا سيما من يكون مجنونا أو غير نقي الثياب من النجاسة، فلا بد من اختبار صاحب الحال بالكتاب والسنة، فمن وافق حاله كتاب الله وسنة رسوله فهو رجل صالح، سواء كاشف أو لم يكاشف، ومن لم يوافق فليس برجل صالح سواء كاشف أم لا.

قال الشافعي: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة.

ولما مات هذا الرجل دفن بتربة بسفح قاسيون، وهي مشهورة به شرقي الرواحية، وهي مزخرفة قد اعتنى بها بعض العوام ممن كان يعتقده، فزخرفها وعمل على قبره حجارة منقوشة بالكتابة، وهذا كله من البدع.

وكانت وفاته في سادس شعبان من هذه السنة، وكان الشيخ إبراهيم بن سعيد جيعانة لا يتجاسر فيما يزعم أن يدخل البلد والقميني حي، فيوم مات الأقميني دخلها، وكانت العوام معه فدخلوا دمشق وهم يصيحون ويصرخون أذن لنا في دخول البلد، وهم أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، فقيل لجيعانة:

ما منعك من دخولها قبل اليوم؟

فقال: كنت كلما جئت إلى باب من أبواب البلد، أجد هذا السبع رابضا فيه فلا أستطيع الدخول.

وقد كان سكن الشاغور، وهذا كذب واحتيال ومكر وشعبذة، وقد دفن جيعانة عنده في تربته بالسفح والله أعلم بأحوال العباد.

الشمس علي بن الشبي المحدث

ناب في الحسبة عن الصدر البكري، وقرأ الكثير بنفسه، وسمع وأسمع، وكتب بخطه كثيرا.

أبو عبد الله الفاسي شارح (الشاطبية)

اشتهر بالكنية، وقيل: إن اسمه القاسم، مات بحلب وكان عالما فاضلا في العربية والقراءات وغير ذلك، وقد أجاد في شرحه (للشاطبية) وأفاد، واستحسنه الشيخ شهاب الدين أبو شامة شارحها أيضا.

النجم أخو البدر مفضل

وكان شيخ الفاضلية بالكلاسة، وكان له إجازة من السلفي خطيب العقبية بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ودفن بباب الصغير على جده، وكانت جنازته حافلة رحمه الله.

سعد الدين محمد بن الشيخ محي الدين بن عربي

ذكره أبو شامة وأثنى عليه في فضيلته وأدبه وشعره، هذا إن لم يكن من أتباع أبيه، وقد ذكره أبو شامة وفاة الناصر داود في هذه السنة.

سيف الدين بن صبرة

متولي شرطة دمشق، ذكر أبو شامة: أنه حين مات جاءت حية فنهشت أفخاذه، وقيل: إنها التفت في أكفانه، وأعيي الناس دفعها.

قال وقيل: إنه كان نصيريا رافضيا خبيثا مدمن خمر، نسأل الله الستر والعافية.

النجيب بن شعيشعة الدمشقي

أحد الشهود بها، له سماع حديث، ووقف داره بدرب البانياسي دار حديث، وهي التي كان يسكنها شيخنا الحافظ المزي قبل انتقاله إلى دار الحديث الأشرفية.

قال أبو شامة: وكان ابن شعيشعة وهو النجيب أبو الفتح نصر الله بن أبي طالب الشيباني، مشهورا بالكذب ورقة الدين وغير ذلك، وهو أحد الشهود المقدوح فيهم، ولم يكن بأهل أن يؤخذ عنه، قال: وقد أجلسه أحمد بن يحيى الملقب بالصدر ابن سني الدولة في حال ولايته القضاء بدمشق، فأنشد فيه بعض الشعراء:

جلس الشعيشعة الشقي ليشهدا ** تبا لكم، ماذا عدا فيما بدا؟

هل زلزل الزلزال؟ أم قد خرج الد ** جال أم عدم الرجال ذوو الهدى؟

عجبا لمحلول العقيدة جاهلٍ ** بالشرع قد أذنوا له أن يقعدا

قال أبو شامة: في سنة سبع وخمسين وستمائة مات شخص زنديق يتعاطى الفلسفة والنظر في علم الأوائل، وكان يسكن مدارس المسلمين، وقد أفسد عقائد جماعة من الشبان المشتغلين فيما بلغني، وكان أبوه يزعم أنه من تلامذة ابن خطيب الري الرازي صاحب المصنفات حية ولد حية.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697