البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة



ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة


استهلت هذه السنة وسلطان دمشق نجم الدين الصالح أيوب بن الكامل مخيم عند نابلس، يستدعي عمه الصالح إسماعيل ليسير إلى الديار المصرية، بسبب أخذها من صاحبها العادل بن الكامل، وقد أرسل الصالح إسماعيل ولده وابن يغمور إلى صحبة الصالح أيوب، فهما ينفقان الأموال في الأمراء ويحلفانهم على الصالح أيوب للصالح إسماعيل.

فلما تم الأمر وتمكن الصالح إسماعيل من مراده أرسل إلى الصالح أيوب يطلب منه ولده ليكون عوضه ببعلبك، ويسير هو إلى خدمته، فأرسله إليه وهو لا يشعر بشيء مما وقع، وكل ذلك عن ترتيب أبي الحسن غزال المتطبب وزير الصالح - وهو الأمين واقف أمينية بعلبك - فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر هجم الملك الصالح إسماعيل وفي صحبته أسد الدين شيركوه صاحب حمص إلى دمشق، فدخلاها بغتة من باب الفراديس، فنزل الصالح إسماعيل بداره من درب الشعارين، ونزل صاحب حمص بداره.

وجاء نجم الدين بن سلامة فهنأ الصالح إسماعيل ورقص بين يديه وهو يقول: إلى بيتك جئت.

وأصبحوا فحاصروا القلعة وبها المغيث عمر بن الصالح نجم الدين، ونقبوا القلعة من ناحية باب الفرج، وهتكوا حرمتها ودخلوها وتسلموها واعتقلوا المغيث في برج هنالك.

قال أبو شامة: واحترقت دار الحديث وما هنالك من الحوانيت والدور حول القلعة.

ولما وصل الخبر بما وقع إلى الصالح أيوب تفرق عنه أصحابه والأمراء خوفا على أهاليهم من الصالح إسماعيل وبقي الصالح أيوب وحده بمماليكه وجاريته أم ولده خليل، وطمع فيه الفلاحون والفوارنة، وأرسل الناصر داود صاحب الكرك إليه من أخذه من نابلس مهانا على بغلة بلا مهماز ولا مقدمة، فاعتقله عنده سبعة أشهر، وأرسل العادل من مصر إلى الناصر يطلب منه أخاه الصالح أيوب ويعطيه مائة ألف دينار، فما أجابه إلى ذلك، بل عكس ما طلب منه بإخراج الصالح من سجنه والإفراج عنه وإطلاقه من الحبس يركب وينزل، فعند ذلك حاربت الملوك من دمشق ومصر وغيرهما الناصر داود.

وبرز العادل من الديار المصرية إلى بلبيس قاصدا قتال الناصر داود، فاضطرب الجيش عليه واختلفت الأمراء، وقيدوا العادل واعتقلوه في خركاه، وأرسلوا إلى الصالح أيوب يستدعونه إليهم، فامتنع الناصر داود من إرساله حتى اشترط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب بلاد الجزيرة وبلاد ديار بكر ونصف مملكة مصر، ونصف ما في الخزائن من الحواصل والأموال والجواهر.

قال الصالح أيوب: فأجبت إلى ذلك مكرها، ولا تقدر على ما اشترط جميع ملوك الأرض، وسرنا فأخذته معي خائفا أن تكون هذه الكائنة من المصريين مكيدة، ولم يكن لي به حاجة، وذكر أنه كان يسكر ويخبط في الأمور ويخالف في الآراء السديدة.

فلما وصل الصالح إلى المصريين ملكوه عليهم ودخل الديار المصرية سالما مؤيدا منصورا مظفرا محبورا مسرورا، فأرسل إلى الناصر داود عشرين ألف دينار فردها عليه ولم يقبلها منه.

واستقر ملكه بمصر.

وأما الملك الجواد فإنه أساء السيرة في سنجار وصادر أهلها وعسفهم، فكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فقصدهم - وقد خرج الجواد للصيد - فأخذ البلد بغير شيء وصار الجواد إلى عانة.

ثم باعها من الخليفة بعد ذلك.

وفي ربيع الأول درّس القاضي الرفيع عبد العزيز بن عبد الواحد الجيلي بالشامية البرانية. وفي يوم الأربعاء ثالث ربيع الآخر ولي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي خطابة جامع دمشق، وخطب الصالح إسماعيل لصاحب الروم ببلد دمشق وغيرها، لأنه حالفه على الصالح أيوب.

قال أبو شامة: وفي حزيران أيام المشمش جاء مطر عظيم هدم كثيرا من الحيطان وغيرها، وكنت يومئذ بالمزة.

من الأعيان:

صاحب حمص الملك المجاهد أسد الدين شيركوه

بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي، ولاه إياها الملك الناصر صلاح الدين بعد موت أبيه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، فمكث فيها سبعا وخمسين سنة، وكان من أحسن الملوك سيرة، طهّر بلاده من الخمور والمكوس والمنكرات، وهي في غاية الأمن والعدل، لا يتجاسر أحد من الفرنج ولا العرب يدخل بلاده إلا أهانه غاية الإهانة، وكانت ملوك بني أيوب يتقونه لأنه يرى أنه أحق بالأمر منهم، لأن جده هو الذي فتح مصر، وأول من ملك منهم، وكانت وفاته رحمه الله بحمص وعمل عزاءه بجامع دمشق عفا الله عنه بمنه.

القاضي الخويي شمس الدين أحمد بن خليل

ابن سعادة جعفر الحويي قاضي القضاة بدمشق يومئذ، وكان عالما بفنون كثيرة من الأصول والفروع وغير ذلك، وكانت وفاته يوم السبت بعد الظهر السابع من شعبان، وله خمس وخمسون سنة بالمدرسة العادلية، وكان حسن الأخلاق جميل المعاشرة، وكان يقول لا أقدر على إيصال المناصب إلى مستحقيها، له مصنفات منها عروض.

قال فيه أبو شامة:

أحمد بن الخليل أرشده الـ ** ـله لما أرشد الخليل بن أحمد

ذاك مستخرج العروض وهـ ** ـذا مظهر السر منه والعود أحمد

وقد ولي القضاء بعد رفيع الدين عبد العزيز بن عبد الواحد بن إسماعيل بن عبد الهادي الحنبلي مع تدريس العادلية، وكان قاضيا بعلبك.

فأحضره إلى دمشق الوزير أمين الدين الذي كان سامريا فأسلم، وزر للصالح إسماعيل، واتفق هو وهذا القاضي على أكل أموال الناس بالباطل.

قال أبو شامة: ظهر منه سوء سيرة وعسف وفسق وجور ومصادرة في الأموال.

قلت: وقد ذكر غيره عنه أنه ربما حضر يوم الجمعة في المشهد الكمالي بالشباك وهو سكران، وأن قناني الخمر كانت تكون على بركة العادلية يوم السبت، وكان يعتمد في التركات اعتمادا سيئا جدا، وقد عامله الله تعالى بنقيض مقصوده، وأهلكه الله على يدي من كان سبب سعادته، كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697