البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة



ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة


فيها كانت وفاة العزيز صاحب مصر

وذلك أنه خرج إلى الصيد، فكانت ليلة الأحد العشرين من المحرم، ساق خلف ذئب فكبا به فرسه فسقط عنه فمات بعد أيام، ودفن بداره.

ثم حول إلى عند تربة الشافعي، وله سبع أو ثمان وعشرون سنة، ويقال: إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده، ويكتب إلى بقية إخوته بإخراجهم من البلاد.

وشاع ذلك عنه وذاع، وسمع ذلك منه وصرح به، وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية، وقلة علمه بالحديث، فلما وقع منه هذا ونوى هذه النية القبيحة الفاسدة أهلكه الله ودمره سريعا، وعظم قدر الحنابلة بين الخلق بمصر والشام، عند الخاص والعام.

وقيل: إن بعض صالحيهم دعا عليه، فما هو إلا أن خرج إلى الصيد فكان هلاكه سريعا، وكتب الفاضل كتاب التعزية بالعزيز لعمه العادل، وهو محاصر ماردين ومعه العساكر، وولده محمد الكامل، وهو نائبه على بلاد الجزيرة المقاربة لبلاد الحيرة، وصورة الكتاب:

أدام الله سلطان مولانا الملك العادل، وبارك في عمره وأعلا أمره بأمره، وأعز نصر الإسلام بنصره، وفدت الأنفس نفسه الكريمة، وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة، وأحياه الله حياة طيبة هو والإسلام في مواقيت الفتوح الجسيمة، وينقلب عنها بالأمور المسلمة والعواقب السليمة، ولا نقص له رجالا ولا أعدمه نفسا ولا ولدا، ولا قصر له ذيلا ولا يدا، ولا أسخن له عينا ولا كبدا، ولا كدر له خاطرا ولا موردا.

ولما قدر الله ما قدر من موت الملك العزيز كانت حياته مكدرة عليه منغصة مهملة، فلما حضر أجله كانت بديهة المصاب عظيمة، وطالعة المكروه أليمة، وإذا محاسن الوجه بليت تعفى الثرى عن وجهه الحسن.

وكانت مدة مرضه بعد عوده من الفيوم أسبوعين، وكانت في الساعة السابعة من ليلة الأحد والعشرين من المحرم، والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض القلب والجسد، ووجع أطراف وعلة كبد، وقد فجع بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد، والأسى عليه في كل يوم جديد.

ولما توفي العزيز خلف من الولد عشرة ذكور، فعمد أمراؤه فملكوا عليهم ولده محمدا، ولقبوه بالمنصور، وجمهور الأمراء في الباطن مائلون إلى تمليك العادل، ولكنهم يستبعدون مكانه، فأرسلوا إلى الأفضل وهو بصرخد فأحضروه على البريد سريعا.

فلما حضر عندهم منع رفدهم ووجدوا الكلمة مختلفة عليه، ولم يتم له ما صار إليه، وخامر عليه أكابر الأمراء الناصرية، وخرجوا من مصر فأقاموا ببيت المقدس وأرسلوا يستحثون الجيوش العادلية، فأقر ابن أخيه على السلطنة ونوه باسمه على السكة والخطبة في سائر بلاد مصر، لكن استفاد الأفضل في سفرته هذه أن أخذ جيشا كثيفا من المصريين، وأقبل بهم ليسترد دمشق في غيبة عمه.

وذلك بإشارة أخيه صاحب حلب، وملك حمص أسد الدين، فلما انتهى إليها ونزل حواليها قطع أنهارها وعقر أشجارها، وأكل ثمارها، ونزل بمخيمه على مسجد القدم، وجاء إليه أخوه الظاهر وابن عمه الأسد الكاسر وجيش حماه، فكثر جيشه وقوي بأسه، وقد دخل جيشه إلى البلد، ونادوا بشعاره فلم يتابعهم من العامة أحد، وأقبل العادل من ماردين بعساكره وقد التف عليه أمراء أخيه وطائفة بني أخيه، وأمده كل مصر بأكابره، وسبق الأفضل إلى دمشق بيومين فحصنها وحفظها، وقد استناب على ما ردين ولده محمدا الكامل.

ولما دخل دمشق خامر إليه أكثر الأمراء من المصريين وغيرهم، وضعف أمر الأفضل ويئس من برهم وخيرهم، فأقام محاصر البلد بمن معه حتى انسلخ الحول ثم انفصل الحال في أول السنة الآتية على ما سيأتي.

وفيها: شرع في بناء سور بغداد بالآجر والكلس، وفرق على الأمراء وكملت عمارته بعد هذه السنة، فأمنت بغداد من الغرق والحصار، ولم يكن لها سور قبل ذلك.

وفيها توفي:

السلطان أبو محمد يعقوب بن يوسف

ابن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس بمدينته، وكان قد بنى عندها مدينة مليحة سماها المهدية، وقد كان دينا حسن السيرة صحيح السريرة، وكان مالكي المذهب، ثم صار ظاهريا حزميا ثم مال إلى مذهب الشافعي، واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة، وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة، وكان كثير الجهاد رحمه الله، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان قريبا إلى المرأة والضعيف رحمه الله.

وهو الذي كتب إليه صلاح الدين يستنجده على الفرنج فلما لم يخاطبه بأمير المؤمنين غضب من ذلك ولم يجبه إلى ما طلب منه، وقام بالملك بعده ولده محمد فسار كسيرة والده، ورجع إليه كثير من البلدان اللاتي كانت قد عصت على أبيه، ثم من بعد ذلك تفرقت بهم الأهواء وباد هذا البيت بعد الملك يعقوب.

وفيها: ادّعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى بن مريم، فأمر الأمير صارم الدين برغش نائب القلعة، بصلبه عند حمام العماد الكاتب، خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين، وقد باد هذا الحمام قديما، وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين، وذلك في ربيع الآخر منها.

وفيها: وقعت فتنة كبيرة ببلاد خراسان، وكان سببها أن فخر الدين محمد بن عمر الرازي وفد إلى الملك غياث الدين الغوري صاحب غزنة، فأكرمه وبنى له مدرسة بهراة، وكان أكثر الغورية كرامية فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك، فجمعوا له جماعة من الفقهاء الحنفية والكرامية، وخلقا من الشافعية، وحضر ابن القدوة وكان شيخا معظما في الناس، وهو على مذهب ابن كرام وابن الهيصم فتناظر هو والرازي، وخرجا من المناظرة إلى السب والشتم.

فلما كان من الغد اجتمع الناس في المسجد الجامع، وقام واعظ فتكلم فقال في خطبته:

أيها الناس، إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله ، وأما علم أرسطاطاليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي وما تلبّس به الرازي فإنا لا نعلمها ولا نقول بها، وإنما هو كتاب الله وسنة رسوله، ولأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام يذب عن دين الله وسنة رسوله، على لسان متكلم ليس معه على ما يقول دليل.

قال: فبكى الناس وضجوا وبكت الكرامية واستغاثوا، وأعانهم على ذلك قوم من خواص الناس، وأنهوا إلى الملك صورة ما وقع، فأمر بإخراج الرازي من بلاده، وعاد إلى هراة، فلهذا أشرب قلب الرازي بغض الكرامية، وصار يلهج بهم في كلامه في كل موطن ومكان.

وفيها: رضي الخليفة عن أبي الفرج بن الجوزي شيخ الوعاظ، وقد كان أخرج من بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين، فانتفع به أهلها واشتغلوا عليه واستفادوا منه، فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الوعظ على عادته عند التربة الشريفة المجاورة لقبر معروف الكرخي، فكثر الجمع جدا وحضر الخليفة وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة:

لا تعطش الروض الذي بنيته ** بصوب إنعامك قد روضا

لا تبر عودا أنت قد رشته ** حاشى لباني المجد أن ينقضا

إن كان لي ذنبٌ قد جنيته ** فاستأنف العفو وهب لي الرضا

قد كنت أرجوك لنيل المنى ** فاليوم لا أطلب إلا الرضا

ومما أنشده يومئذ:

شقينا بالنوى زمنا فلما ** تلاقينا كأنا ما شقينا

سخطنا عندما جنت الليالي ** وما زالت بنا حتى رضينا

ومن لم يحيى بعد الموت يوما ** فإنا بعد ما متنا حيينا

وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي الموصل ضياء الدين ابن الشهروزري فولاه قضاء قضاة بغداد.

وفيها: وقعت فتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي، وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي، فذكر يوما شيئا من العقائد، فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم، والأمير صارم الدين برغش.

فعقد له مجلسا فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت، فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه، واجتمع بقية الفقهاء عليه، وألزموه بإلزامات شنيعة لم يلتزمها، حتى قال له الأمير برغش كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق؟

قال: نعم

فغضب الأمير وأمر بنفيه من البلد؛ فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره، وأرسل برغش الأسارى من القلعة فكسروا منبر الحنابلة وتعطلت يومئذ صلاة الظهر في محراب الحنابلة، وأخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك، وجرت خبطة شديدة، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة، فارتحل الحافظ عبد الغني إلى بعلبك ثم سار إلى مصر فآواه المحدثون، فحنوا عليه وأكرموه.

من الأعيان:

الأمير مجاهد الدين قيماز الرومي

نائب الموصل المستولي على مملكتها أيام ابن أستاذه نور الدين أرسلان، وكان عاقلا ذكيا فقيها حنيفا، وقيل شافعيا، يحفظ شيئا كثيرا من التواريخ والحكايات، وقد ابتنى عدة جوامع ومدارس وربط وخانات، وله صدقات كثيرة دارة، قال ابن الأثير: وقد كان من محاسن الدنيا.

أبو الحسن محمد بن جعفر

ابن أحمد بن محمد بن عبد العزيز العباس الهاشمي، قاضي القضاة ببغداد، بعد ابن النجاري، كان شافعيا تفقه على أبي الحسن بن الخل وغيره، وقد ولي القضاء والخطابة بمكة، وأصله منها، ولكن ارتحل إلى بغداد فنال منها ما نال من الدنيا، وآل به الأمر إلى ما آل.

ثم إنه عزل عن القضاء بسبب محضر رقم خطه عليه، وكان فيما قيل مزورا عليه. فالله أعلم، فجلس في منزله حتى مات.

الشيخ جمال الدين أبو القاسم

يحيى بن علي بن الفضل بن بركة بن فضلان، شيخ الشافعية ببغداد، تفقه أولا على سعيد بن محمد الزار مدرس النظامية.

ثم ارتحل إلى خراسان فأخذ عن الشيخ محمد الزبيدي تلميذ الغزالي وعاد إلى بغداد وقد اقتبس علم المناظرة والأصلين، وساد أهل بغداد وانتفع به الطلبة والفقهاء، وبنيت له مدرسة فدّرس بها وبعد صيته، وكثرت تلاميذه، وكان كثير التلاوة وسماع الحديث، وكان شيخا حسنا لطيفا ظريفا، ومن شعره:

وإذا أردت منازل الأشراف ** فعليك بالإسعاف والإنصاف

وإذا بغا باغٍ عليك فخله ** والدهر فهو له مكاف كاف

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697