البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة



ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة


فيها: قدم السلطان الصالح نجم الدين من الديار المصرية إلى دمشق، وجهز الجيوش والمجانيق إلى حمص، لأنه كان صاحبها الملك الأشرف بن موسى بن المنصور بن أسد الدين قد قايض بها إلى تل باشر لصاحب حلب الناصر يوسف بن العزيز، ولما علمت الحلبيون بخروج الدماشقة، برزوا أيضا في جحفل عظيم ليمنعوا حمص منهم.

واتفق الشيخ نجم الدين البادزاي مدرس النظامية ببغداد في رسالة فأصلح بين الفريقين، ورد كلا من الفئتين إلى مستقرها ولله الحمد.

وفيها: قتل مملوك تركي شاب صبي لسيده علي دفعه عنه لما أراد به من الفاحشة، فصلب الغلام مسمرا، وكان شابا حسنا جدا فتأسف الناس له لكونه صغيرا ومظلوما وحسنا، ونظموا فيه قصائد، وممن نظم فيه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في (الذيل)، وقد أطال قصته جدا.

وفيها: سقطت قنطرة رومية قديمة البناء بسوق الدقيق من دمشق، عند قصر أم حكيم، فتهدم بسببها شيء كثير من الدور والدكاكين، وكان سقوطها نهارا.

وفي ليلة الأحد الخامس والعشرين من رجب وقع حريق بالمنارة الشرقية، فأحرق جميع حشوها، وكانت سلالمها سقالات من خشب، وهلك للناس ودائع كثيرة كانت فيها، وسلم الله الجامع وله الحمد.

وقدم السلطان بعد أيام إلى دمشق فأمر بإعادتها كما كانت.

قلت: ثم احترقت وسقطت بالكلية بعد سنة أربعين وسبعمائة، وأعيدت عمارتها أحسن مما كانت ولله الحمد.

وبقيت حينئذ المنارة البيضاء الشرقية بدمشق، كما نطق به الحديث في نزول عيسى عليه السلام عليها، كما سيأتي بيانه وتقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.

ثم عاد السلطان الصالح أيوب مريضا في محفة إلى الديار المصرية وهو ثقيل مدنف، شغله ما هو فيه عن أمره بقتل أخيه العادل أبي بكر بن الكامل الذي كان صاحب الديار المصرية بعد أبيه، وقد كان سجنه سنة استحوذ على مصر، فلما كان في هذه السنة في شوالها أمر بخنقه فخنق بتربة شمس الدولة، فما عمر بعده إلا إلى النصف من شعبان في العام القابل في أسوأ حال، وأشد مرض، فسبحان من له الخلق والأمر.

وفيها كانت وفاة قاضي القضاة بالديار المصرية فضل الدين الخونجي

الحكيم المنطقي البارع في ذلك، وكان مع ذلك جيد السيرة في أحكامه.

قال أبو شامة: أثنى عليه غير واحد.

علي بن يحيى جمال الدين أبو الحسن المحرمي

كان شابا فاضلا أديبا شاعرا ماهرا، صنف كتابا مختصرا وجيزا جامعا لفنون كثيرة في الرياضة والعقل وذم الهوى، وسماه: (نتائج الأفكار).

قال: فيه من الكلم المستفادة الحكمية: السلطان إمام متبوع، ودين مشروع، فإن ظلم جارت الحكام لظلمه، وإن عدل لم يجر أحد في حكمه، من مكنه الله في أرضه وبلاده وائتمنه على خلقه وعباده، وبسط يده وسلطانه، ورفع محله ومكانه، فحقيق عليه أن يؤدي الأمانة، ويخلص الديانة، ويجمل السريرة، ويحسن السيرة، ويجعل العدل دأبه المعهود، والأجر غرضه المقصود، فالظلم يزل القدم، ويزيل النعم، ويجلب الفقر، ويهلك الأمم.

وقال أيضا: معارضة الطبيب توجب التعذيب، رُبَّ حيلة أنفع من قبيلة، سمين الغضب مهزول، ووالي الغدر معزول، قلوب الحكماء تستشف الأسرار من لمحات الأبصار، ارض من أخيك في ولايته بعشر ما كنت تعهده في مودته، التواضع من مصائد الشرف.

ما أحسن حسن الظن لولا أن فيه العجز، ما أقبح سوء الظن لولا أن فيه الحزم.

وذكر في غضون كلامه: أن خادما لعبد الله بن عمر أذنب فأراد ابن عمر أن يعاقبه على ذنبه، فقال:

يا سيدي، أما لك ذنب تخاف من الله فيه؟.

قال: بلى.

قال: بالذي أمهلك لما أمهلتني، ثم أذنب العبد ثانيا فأراد عقوبته فقال له مثل ذلك فعفا عنه، ثم أذنب الثالثة فعاقبه وهو لا يتكلم فقال له ابن عمر: مالك لم تقل مثل ما قلت في الأولتين؟.

فقال: يا سيدي، حياء من حلمك مع تكرار جرمي.

فبكى ابن عمر وقال: أنا أحق بالحياء من ربي، أنت حر لوجه الله تعالى.

ومن شعره يمدح الخليفة:

يا من إذا بخل السحاب بمائه ** هطلت يداه على البرية عسجدا

جورت كسرى يا مبخل حاتم ** فغدت بنو الآمال نحوك سجدا

وقد أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة حسنة رحمه الله تعالى.

الشيخ أبو عمرو بن الحاجب

المالكي عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الرويني ثم المصري، العلامة أبو عمرو شيخ المالكية كان أبوه صاحبا للأمير عز الدين موسك الصلاحي، واشتغل هو بالعلم فقرأ القراءات وحرر النحو تحريرا بليغا، وتفقه وساد أهل عصره.

ثم كان رأسا في علوم كثيرة، منها الأصول والفروع والعربية والتصريف والعروض والتفسير وغير ذلك.

وقد كان استوطن دمشق في سنة سبع عشرة وستمائة، ودرس بها للمالكية بالجامع حتى كان خروجه بصحبة الشيخ عز الدين بن عبد السلام في سنة ثمان وثلاثين، فصارا إلى الديار المصرية حتى كانت وفاة الشيخ أبي عمرو في هذه السنة بالإسكندرية، ودفن بالمقبرة التي بين المنارة والبلد.

قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وكان من أذكى الأئمة قريحة، وكان ثقة حجة متواضعا عفيفا كثير الحياء منصفا محبا للعلم وأهله، ناشرا له محتملا للأذى صبورا على البلوى، قدم دمشق مرارا آخرها سنة سبع عشرة، فأقام بها مدرسا للمالكية وشيخا للمستفيدين عليه في علمي القراءات والعربية.

وكان ركنا من أركان الدين في العلم والعمل، بارعا في العلوم متقنا لمذهب مالك بن أنس رحمه الله تعالى.

وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيرا، وذكر أنه جاء إليه في أداء شهادة حين كان نائبا في الحكم بمصر وسأله عن مسألة اعتراض الشرط على الشرط، إذا قال:

إن أكلتِ إن شربتِ فأنتِ طالق، لم كان يقع الطلاق حين شربت أولا؟ وذكر أنه أجاب عن ذلك في تؤده وسكون.

قلت: ومختصره في الفقه من أحسن المختصرات، انتظم فيه فوائد ابن شاش، ومختصره في أصول الفقه، استوعب فيه عامة فوائد الأحكام لسيف الدين الآمدي، وقد منّ الله تعالى عليّ بحفظه وجمعت كراريس في الكلام على ما أودعه فيه من الأحاديث النبوية، ولله الحمد.

وله شرح المفصل والأمالي في العربية والمقدمة المشهورة في النحو، اختصر فيها مفصل الزمخشري وشرحها، وقد شرحها غيره أيضا، وله التصريف وشرحه، وله عروض على وزن الشاطبية رحمه الله ورضى عنه.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697