البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة



ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة


فيها: أ صبح الملك المعظم صاحب مصر عز الدين أيبك بداره ميتا وقد ولي الملك بعد أستاذه الصالح نجم الدين أيوب بشهور.

كان فيها ملك توران شاه المعظم بن الصالح، ثم خلفته شجرة الدر أم خليل مدة ثلاثة أشهر ثم أقيم هو في الملك، ومعه الملك الأشرف موسى بن الناصر يوسف بن أقسيس ابن الكامل مدة.

ثم استقل بالملك بلا منازعة، وكسر الناصر لما أراد أخذ الديار المصرية وقتل الفارس إقطاي في سنة ثنتين وخمسين، وخلع بعده الأشرف واستقل بالملك وحده، ثم تزوج بشجرة الدر أم خليل.

وكان كريما شجاعا حييا دينا، ثم كان موته في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول، وهو واقف المدرسة المعزية بمصر ومجازها من أحسن الأشياء، وهي من داخل ليست بتلك الفائقة.

وقد قال بعضهم: هذه مجاز لا حقيقة له.

ولما قتل رحمه الله فإنهم مماليكه زوجته أم خليل شجرة الدر به، وقد كان عزم على تزوج ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ، فأمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقبها والجواري يعركن في معاربه حتى مات وهو كذلك، ولما سمعوا مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز، فقتلوها وألقوها على مزبلة غير مستورة العورة، بعد الحجاب المنيع والمقام الرفيع، وقد علمت على المناشير والتواقيع، وخطب الخطباء باسمها، وضربت السكة برسمها، فذهبت فلا تعرف بعد ذلك بعينها ولا رسمها. { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران: 26] .

وأقامت الأتراك بعد أستاذهم عز الدين أيبك التركماني، بإشارة أكبر مماليكه الأمير سيف الدين قطز، ولده نور الدين عليا ولقبوه الملك المنصور، وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وجرت الأمور على ما يختاره برأيه ورسمه.

وفيها: كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة، فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي، وكان ذلك من أقوى الأسباب في ممالأته للتتار.

وفيها: دخلت الفقراء الحيدرية الشام، ومن شعارهم لبس الراحي والطراطير ويقصون لحاهم ويتركون شواربهم، وهو خلاف السنة، تركوها لمتابعة شيخهم حيدر حين أسره الملاحدة فقصوا لحيته وتكروا شواربه، فاقتدوا به في ذلك، وهو معذور مأجور.

وقد نهى رسول الله عن ذلك، وليس لهم في شيخهم قدوة.

وقد بنيت لهم زاوية بظاهر دمشق قريبا من العونية.

وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة المباركة عمل عزاء واقف البادرائية بها الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد البادرائي البغدادي مدرس النظامية، ورسول الخلافة إلى ملوك الآفاق في الأمور المهمة، وإصلاح الأحوال المدلهمة، وقد كان فاضلا بارعا رئيسا وقورا متواضعا، وقد ابتنى بدمشق مدرسة حسنة مكان دار الأمير أسامة، وشرط على المقيم بها العزوبة وأن لا يكون الفقيه في غيرها من المدارس.

وإنما أراد بذلك توفر خاطر الفقيه وجمعه على طلب العلم، ولكن حصل بذلك خلل كثير وشر لبعضهم كبير، وقد كان شيخنا الإمام العلامة شيخ الشافية بالشام وغيرها برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الفزاري مدرس هذه المدرسة وابن مدرسها، يذكر أنه لما حضر الواقف في أول يوم درس بها وحضر عنده السلطان الناصري، قرأ كتاب الوقف وفيه ولا تدخلها امرأة.

فقال السلطان: ولا صبي؟

فقال الواقف: يا مولانا السلطان ربنا ما يضرب بعصاتين.

فإذا ذكر هذه الحكاية تبسم عندها رحمه الله تعالى.

وكان هو أول من درس بها ثم ولده كمال الدين من بعده، وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد، ثم صار في ذريته إلى الآن.

وقد نظر فيه بعض الأوقات القاضي شمس الدين ابن الصائغ ثم انتزع منه حيث أثبت لهم النظر، وقد أوقف البادرائي على هذه المدرسة أوقافا حسنة دارة، وجعل فيها خزانة كتب حسنة نافعة، وقد عاد إلى بغداد في هذه السنة فولي بها قضاء القضاة كرها منه، فأقام فيه سبعة عشر يوما ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في مستهل ذي الحجة من هذه السنة. ودفن بالشونيزيه رحمه الله تعالى.

وفي ذي الحجة من هذه السنة بعد موت البادرائي بأيام قلائل نزلت التتار على بغداد مقدمة لملكهم هولاكو بن تولى بن جنكيز خان عليهم لعائن الرحمن، وكان افتتاحهم لها وجنايتهم عليها في أول السنة الآتية على ما سيأتي بيانه وتفصيله - وبالله المستعان.

وممن توفي في هذه السنة من الأعيان البادرائي واقف البادرائية التي بدمشق كما تقدم بيانه رحمه الله تعالى.

والشيخ تقي الدين عبد الرحمن بن أبي الفهم

البلداني بها في ثامن ربيع الأول ودفن فيها، وكان شيخا صالحا مشتغلا بالحديث سماعا وكتابة وإسماعا، إلى أن توفي وله نحو مائة سنة.

قلت وأكثر كتبه ومجاميعه التي بخطه موقوفة بخزانة الفاضلية من الكلاسة، وقد رأى في المنام رسول الله فقال له: يا رسول الله ما أنا رجل جيد؟

قال: بلى أنت رجل جيد، رحمه الله وأكرم مثواه.

الشيخ شرف الدين محمد بن أبي الفضل المرسي

وكان شيخا فاضلا متقنا محققا للبحث كثير الحج، له مكانه عند الأكابر، وقد اقتنى كتبا كثيرة، وكان أكثر مقامه بالحجاز، وحيث حل عظمه رؤساء تلك البلدة وكان مقتصدا في أموره، وكانت وفاته رحمه الله بالذعقة بين العريش والداروم في منتصف ربيع الأول من هذه السنة رحمه الله.

المشد الشاعر الأمير سيف الدين

علي بن عمر بن قزل مشد الديوان بدمشق، وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور، وقد رآه بعضهم بعد موته فسأله عن حاله فأنشده:

نقلت إلى رمس القبور وضيقها ** وخوفي ذنوبي أنها بي تعثرُ

فصادفت رحمانا رؤوفا وأنعما ** حباني بها سقيا لما كنت أحذرُ

ومن كان حسن الظن في حال موته ** جميلا بعفو الله فالعفو أجدرُ

بشارة بن عبد الله الأرمني الأصل

بدر الدين الكاتب مولى شبل الدولة المعظمي، سمع الكندي وغيره، وكان يكتب خطا جيدا، وأسند إليه مولاه النظر في أوقافه وجعله في ذريته، فهم إلى الآن ينظرون في الشبليتين، وكانت وفاته في النصف من رمضان من هذه السنة.

القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة جمال الدين المصري

ناب عن أبيه ودرّس بالشامية، وله شعر فمنه قوله:

صيرت فمي لفيه باللثم لئام ** عمدا ورشفت من ثناياه مدامْ

فأزور وقال أنت في الفقه إمام ** ريقي خمر وعندك الخمر حرامْ

الملك الناصر داود بن المعظم عيسى بن العادل

ملك دمشق بعد أبيه.

ثم انتزعت من يده وأخذها عمه الأشرف واقتصر على الكرك ونابلس.

ثم تنقلت به الأحوال وجرت له خطوب طوال حتى لم يبق معه شيء من المحال، وأودع وديعة تقارب مائة ألف دينار عند الخليفة المستنصر فأنكره إياها ولم يردها عليه، وقد كان له فصاحة وشعر جيد، ولديه فضائل جمة، واشتغل في علم الكلام على الشمس الخسر وشاهي تلميذ الفخر الرازي، وكان يعرف علوم الأوائل جدا، وحكوا عنه أشياء تدل إن صحت على سوء عقيدته فالله أعلم.

وذكر أنه حضر أول درس ذكر بالمستنصرية في سنة ثنتين وثلاثين وستمائة، وأن الشعراء أنشدوا المستنصر مدائح كثيرة، فقال بعضهم في جملة قصيدة له:

لو كنت في يوم السقيفة شاهدا ** كنت المقدم والإمام الأعظما

فقال الناصر داود للشاعر: اسكت فقد أخطأت، قد كان جد أمير المؤمنين العباس شاهدا يومئذ، ولم يكن المقدم، وما الإمام الأعظم إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال الخليفة: صدقت فكان هذا من أحسن ما نقل عنه رحمه الله تعالى.

وقد تقاصر أمره إلى أن رسم عليه الناصر بن العزيز بقرية البويضا لعمه مجد الدين يعقوب حتى توفي بها في هذه السنة، فاجتمع الناس بجنازته، وحمل منها فصلّي عليه ودفن عند والده بسفح قاسيون.

الملك المعز عز الدين أيبك التركماني أول ملوك الأتراك

كان من أكبر مماليك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وكان دينا صينا عفيفا كريما، مكث في الملك نحوا من سبع سنين ثم قتلته زوجته شجرة الدر أم خليل، وقام في الملك من بعده ولده نور الدين علي، ولقب بالملك المنصور، وكان مدير مملكة مملوك أبيه سيف الدين قطز، ثم عزله واستقل بالملك بعده نحوا من سنة وتلقب بالمظفر، فقدر الله كسرة التتار على يديه بعين جالوت.

وقد بسطنا هذا كله في الحوادث فيما تقدم وما سيأتي.

شجرة الدر بنت عبد الله

أم خليل التركية، كانت من حظايا الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكان ولدها منه خليل من أحسن الصور، فمات صغيرا، وكانت تكون في خدمته لا تفارقه حضرا ولا سفرا من شدة محبته لها وقد ملكت الديار المصرية بعد مقتل ابن زوجها المعظم توران شاه، فكان يخطب لها وتضرب السكة باسمها وعلمت على المناشير مدة ثلاثة أشهر.

ثم تملك المعز كما ذكرنا، ثم تزوجها بعد تملكه الديار المصرية بسنوات، ثم غارت عليه لما بلغها أنه يريد أن يتزوج بنت صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ فعملت عليه حتى قتلته كما تقدم ذكره، فتمالأ عليها مماليكه المعزية فقتلوها وألقوها على مزبلة ثلاثة أيام.

ثم نقلت إلى تربة لها بالقرب من قبر السيدة نفيسة رحمها الله تعالى، وكانت قوية النفس، لما علمت أنه قد أحيط بها أتلفت شيئا كثيرا من الجواهر النفيسة واللآلئ المثمنة، كسرته في الهاون لا لها ولا لغيرها، وكان وزيرها في دولتها الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليمان المعروف بابن جند وهو أول مناصبه.

الشيخ الأسعد هبة الله بن صاعد

شرف الدين الفائزي لخدمته قديما الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل، وكان نصرانيا فأسلم، وكان كثير الصدقات والبر والصلات، استوزره المعز وكان حظيا عنده جدا، لا يفعل شيئا إلا بعد مراجعته ومشاورته، وكان قبله في الوزارة القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، وقبله القاضي بدر الدين السنجاري.

ثم صارت بعد ذلك كله إلى هذا الشيخ الأسعد المسلماني، وقد كان الفائزي يكاتبه المعز بالمملوك.

ثم لما قتل المعز أهين الأسعد حتى صار شقيا، وأخذ الأمير سيف الدين قطز خطه بمائة ألف دينار، وقد هجاه بهاء الدين زهير بن علي، فقال:

لعن الله صاعدا ** وأباه، فصاعدا

وبنيه فنازلا ** واحدا ثم واحدا

ثم قتل بعد ذلك كله ودفن بالقرافة، وقد رثاه القاضي ناصر الدين ابن المنير، وله فيه مدائح وأشعار حسنة فصيحة رائقة.

ابن أبي الحديد الشاعر العراقي

عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني، الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي، له شرح (نهج البلاغة) في عشرين مجلدا، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة، ثم صار إلى بغداد فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي، وكان حظيا عند الوزير ابن العلقمي، لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة.

وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة، وكان أكثر فضيلة وأدبا من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلا بارعا أيضا، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى.

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697