البداية والنهاية/الجزء الثالث عشر/ثم دخلت سنة عشرين وستمائة



ثم دخلت سنة عشرين وستمائة


فيها: عاد الأشرف موسى بن العادل من عند أخيه الكامل صاحب مصر.

فتلقاه أخوه المعظم، وقد فهم أنهما تمالآ عليه، فبات ليلة بدمشق وسار من آخر الليل، ولم يشعر أخوه بذلك فسار إلى بلاده فوجد أخاه الشهاب غازي الذي استنابه على خلاط وميافارقين وقد قووا رأسه، وكاتبه المعظم صاحب إربل وحسنوا له مخالفة الأشرف، فكتب إليه الأشرف ينهاه عن ذلك، فلم يقبل فجمع له العساكر ليقاتله.

وفيها: سار أقسيس الملك مسعود صاحب اليمن ابن الكامل من اليمن إلى مكة شرفها الله تعالى فقاتله ابن قتادة ببطن مكة بين الصفا والمروة، فهزمه أقسيس وشرده، واستقل بملك مكة مع اليمن، وجرت أمور فظيعة، وتشرد حسن بن قتادة قاتل أبيه وعمه وأخيه في تلك الشعاب والأودية.

من الأعيان الشيخ الإمام:

موفق الدين عبد الله بن أحمد

ابن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر، شيخ الإسلام. مصنف المغني في المذهب، أبو محمد المقدسي إمام عالم بارع، لم يكن في عصره بل ولا قبل دهره بمدة أفقه منه.

ولد بجماعيل في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة، وقدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين، وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير ورحل مرتين إلى العراق، إحداهما في سنة إحدى وستين مع ابن عمه الحافظ عبد الغني، والأخرى سنة سبع وستين، وحج في سنة ثلاث وسبعين، وتفقه ببغداد على مذهب الإمام أحمد، وبرع وأفتى وناظر وتبحر في فنون كثيرة.

مع زهد وعبادة وورع وتواضع وحسن أخلاق وجود وحياء وحسن سمت ونور وبهاء وكثرة تلاوة وصلاة وصيام وقيام وطريقة حسنة، واتباع للسلف الصالح، وكانت له أحوال ومكاشفات.

وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن لم تكن العلماء العاقلون أولياء الله فلا أعلم لله وليا، وكان يؤم الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد، فلما توفي العماد استقل هو بالوظيفة، فإن غاب صلى عنه أبو سليمان ابن الحافظ عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني، وكان يتنفل بين العشاءين بالقرب من محرابه، فإذا صلى العشاء انصرف إلى منزله بدرب الدولعي بالرصيف، وأخذ معه من الفقراء من تيسر يأكلون معه من طعامه.

وكان منزله الأصلي بقاسيون فينصرف بعض الليالي بعد العشاء إلى الجبل، فاتفق في بعض الليالي أن خطف رجل عمامته، وكان فيها كاغد فيه رمل، فقال له الشيخ:

خذ الكاغد وألق العمامة، فظن الرجل أن ذلك نفقة فأخذه، وألقى العمامة.

وهذا يدل على ذكاء مفرط واستحضار حسن في الساعة الراهنة، حتى خلص عمامته من يده بتلطف.

وله مصنفات عديدة مشهورة:

منها: (المغني في شرح مختصر الخرقي) في عشرة مجلدات.

و(الشافي) في مجلدين.

و(المقنع) للحفظ.

و(الروضة) في أصول الفقه، وغير ذلك من التصانيف المفيدة.

وكانت وفاته في يوم عيد الفطر في هذه السنة، وقد بلغ الثمانين، وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير، ودفن بتربته المشهورة، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى، وكان له أولاد ذكور وإناث، فلما كان حيا ماتوا في حياته.

ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولدين ثم ماتا وانقطع نسله.

قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي: نقلت من خط الشيخ موفق رحمه الله تعالى:

لا تجلسن بباب من ** يأبى عليك وصول داره

وتقول حاجاتي إليـ ** ـه يعوقها إن لم أداره

واتركه واقصد ربها ** تقضى ورب الدار كاره

ومما أنشده الشيخ موفق الدين لنفسه رحمه الله تعالى ورضى عنه قوله:

أبعد بياض الشعر أعمر مسكنا ** سوى القبر، إني إن فعلت لأحمق

يخبرني شيبي بأني ميت ** وشيكا، فينعاني إلي ويصدق

يخرق عمري كل يوم وليلة ** فهل مستطاع وقع ما يتخرق

كأني بجسمي فوق نعشي ممددا ** فمن ساكت أو معول يترحق

إذا سئلوا عني أجابوا وعولوا ** وأدمعهم تنهل هذا الموفق

وغيبت في صدع من الأرض ضيق ** وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق

ويحثو على الترب أوثـق صاحب ** ويسلمني للقـبر من هو مشفق

فيا رب كن لي مؤنسا يوم وحشتي ** فإني بما أنزلته لمصدق

وما ضرني أني إلى الله صائر ** ومن هو من أهلـي أبر وأرفق

فخر الدين ابن عساكر عبد الرحمن بن الحسن بن هبة الله بن عساكر

أبو منصور الدمشقي شيخ الشافعية بها، وأمه اسمها أسماء بنت محمد بن الحسن بن طاهر القدسية المعروف والدها: بأبي البركات ابن المران، وهو الذي جدد مسجد القدم في سنة سبع عشرة وخمسمائة، وبه قبره وقبرها، ودفن هناك طائفة كبيرة من العلماء، وهي أخت آمنة، والدة القاضي محيي الدين محمد بن علي بن الزكي.

اشتغل الشيخ فخر الدين من صغره بالعلم الشريف على شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري، فتزوج بابنته ودرس مكانه بالجاروجية، وبها كان يسكن في إحدى القاعتين اللتين أنشأهما، وبها توفي غربي الإيوان.

ثم تولى تدريس الصلاحية الناصرية بالقدس الشريف.

ثم ولاه العادل تدريس التقوية، وكان عنده أعيان الفضلاء.

ثم تفرغ فلزم المجاورة في الجامع في البيت الصغير إلى جانب محراب الصحابة يخلو فيه للعبادة والمطالعة والفتاوى، وكانت تفد إليه من الأقطار، وكان كثير الذكر حسن السمت، وكان يجلس تحت النسر في كل اثنين وخميس مكان عمه لإسماع الحديث بعد العصر، فيقرأ عليه دلائل النبوة وغيره.

وكان يحضر مشيخة دار الحديث النورية، ومشهد ابن عروة أول ما فتح وقد استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه ابن الزكي فأجلسه إلى جانبه وقت السماط، وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق، فقال: حتى أستخير الله تعالى.

ثم امتنع من ذلك فشق على السلطان امتناعه، وهم أن يؤذيه فقيل له: أحمد الله الذي فيه مثل هذا.

ولما توفي العادل وأعاد ابنه المعظم الخمور، أنكر عليه الشيخ فخر الدين، فبقي في نفسه منه فانتزع منه تدريس التقوية، ولم يبق معه سوى الجاروجية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة.

وكانت وفاته يوم الأربعاء بعد العصر عاشر رجب من هذه السنة، وله خمس وستون سنة، وصلى عليه بالجامع، وكان يوما مشهودا وحملت جنازته إلى مقابر الصوفية فدفن في أولها قريبا من قبر شيخه قطب الدين مسعود بن عروة.

سيف الدين محمد بن عروة الموصلي

المنسوب إليه مشهد ابن عروة بالجامع الأموي، لأنه أول من فتحه وقد كان مشحونا بالحواصل الجامعية، وبنى فيه البركة ووقف فيه على الحديث درسا، ووقف خزائن كتب فيه، وكان مقيما بالقدس الشريف، ولكنه كان من خواص أصحاب الملك المعظم، فانتقل إلى دمشق حين خرب سور بيت المقدس إلى أن توفي بها، وقبره عند قباب أتابك طغتكين قبلي المصلى رحمه الله.

الشيخ أبو الحسن الروزبهاري

دفن بالمكان المنسوب إليه عند باب الفراديس.

الشيخ عبد الرحمن اليمني

كان مقيما بالمنارة الشرقية، كان صالحا زاهدا ورعا وفيه مكارم أخلاق، ودفن بمقابر الصوفية.

الرئيس عز الدين المظفر بن أسعد

ابن حمزة التميمي ابن القلانسي، أحد رؤساء دمشق وكبرائها، وجده أبو يعلى حمزة له تاريخ ذيل به على ابن عساكر، وقد سمع عز الدين هذا الحديث من الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وغيره، ولزم مجالسة الكندي وانتقع به.

الأمير الكبير أحد حجاب الخليفة

محمد بن سليمان بن قتلمش بن تركانشاه بن منصور السمرقندي، وكان من أولاد الأمراء وولي حاجب الحجاب بالديوان العزيز الخليفتي، وكان يكتب جيدا، وله معرفة حسنة بعلوم كثيرة، منها الأدب وعلوم الرياضة، وعمر دهرا، وله حظ من نظم الشعر الحسن، ومن شعره قوله:

سئمت تكاليف هذي الحياة ** وكذا الصباح بها والمساء

وقد كنت كالطفل في عقله ** قليل الصواب كثير الهراء

أنام إذا كنت في مجلس ** وأسهر عند دخول الغنـاء

وقصر خطوى قيد المشيب ** وطال على ما عناني عناء

وغودرت كالفرخ في عشه ** وخلفت حلمي وراءَ وراءُ

وما جر ذلك غير البقاء ** فكيف بدا سوء فعل البقـاء

وله أيضا، وهو من شعره الحسن رحمه الله:

إلهي يا كثير العفو عفوا **لما أسلفت في زمن الشباب

فقد سودت في الآثام وجها ** ذليلا خاضعا لك في التراب

فبيضه بحسن العفو عني ** وسامحني وخفف من عذابي

ولما توفي صلى عليه بالنظامية، ودفن بالشونيزية، ورآه بعضهم في المنام فقال: ما فعل بك ربك؟

فقال:

تحاشيت اللقـاء لسوء فعـلي ** وخوفـا في المعـاد من النـدامـة

فلما أن قدمت على إلهي ** وحاقق في الحساب على قلامه

وكان العدل أن أصلى جحيما ** تعطف بالمكارم والكرامة

وناداني لسان العفو منه ** ألا يا عبد يهنيك السلامة

أبو علي الحسن بن أبي المحاسن

زهرة بن علي بن زهرة العلوي الحسيني الحلبي، نقيب الأشراف بها، كان لديه فضل وأدب وعلم بأخبار الناس والتواريخ والسير والحديث، ضابطا حافظا للقرآن المجيد، وله شعر جيد فمنه قوله:

لقد رأيت المعشوق وهو من الـ ** ـهجر تنبو النواظر عنه

أثر الدهر فيه آثار سوء ** وأدالت يد الحوادث منه

عاد مستذلا ومستبدلا ** عزا بذلٍ كأن لم يصنه

أبو علي يحيى بن المبارك ابن الجلاجلي

من أبناء التجار، سمع الحديث، وكان جميل الهيئة يسكن بدار الخلافة، وكان عنده علم وله شعر حسن فمنه قوله:

خير إخوانك المشارك في المر ** وأين الشريك في المر أينا

الذي إن شهدت سرك في القو ** م وإن غبت كان أذنا وعينا

مثل العقيق إن مسه النا ** ر جلاه الجلاء فازداد زينا

وأخو السوء إن يغب عنك يش ** نئك وإن يحتضر يكن ذاك شينا

جيبه غير ناصح ومناه أن ** يصب الخليل إفكا ومينا

فاخش منه ولا تلهف عليه ** إن غُرما له كنقدك دينا

البداية والنهاية - الجزء الثالث عشر
589 | 590 | 591 | 592 | 593 | 594 | 595 | 596 | 597 | 598 | 599 | 600 | 601 | 602 | 603 | 604 | 605 | 606 | 607 | 608 | 609 | 610 | 611 | 612 | 613 | 614 | 615 | 616 | 617 | 618 | 619 | 620 | 621 | 622 | 623 | 624 | 625 | 626 | 627 | 628 | 629 | 630 | 631 | 632 | 633 | 634 | 635 | 636 | 637 | 638 | 639 | 640 | 641 | 642 | 643 | 644 | 645 | 646 | 647 | 648 | 649 | 650 | 651 | 652 | 653 | 654 | 655 | 656 | 657 | 658 | 659 | 660 | 661 | 662 | 663 | 664 | 665 | 666 | 667 | 668 | 669 | 670 | 671 | 672 | 673 | 674 | 675 | 676 | 677 | 678 | 679 | 680 | 681 | 682 | 683 | 684 | 685 | 686 | 687 | 688 | 689 | 690 | 691 | 692 | 693 | 694 | 695 | 696 | 697