البداية والنهاية/الجزء السابع/ابتداء وقعة الجمل
لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق، كان أزواج النبي ﷺ أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارا من الفتنة، فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل، أقمن بمكة بعد ما خرجوا منها، ورجعوا إليها وأقاموا بها، وجعلوا ينتظرون ما يصنع الناس ويتجسسون الأخبار.
فلما بويع لعلي وصار حظ الناس عنده بحكم الحال وغلبة الرأي، لا عن اختيار منه لذلك رؤس أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان مع أن عليا في نفس الأمر يكرههم، ولكنه تربص بهم الدوائر، ويود لو تمكن منهم ليأخذ حق الله منهم، ولكن لما وقع الأمر هكذا واستحوذوا عليه، وحجبوا عنه علية الصحابة فر جماعة من بني أمية وغيرهم إلى مكة، واستأذنه طلحة والزبير في الاعتمار، فأذن لهما فخرجا إلى مكة، وتبعهم خلق كثير وجم غفير.
وكان علي لما عزم على قتال أهل الشام قد ندب أهل المدينة إلى الخروج معه فأبوا عليه، فطلب عبد الله بن عمر بن الخطاب وحرضه على الخروج معه.
فقال: إنما أنا رجل من أهل المدينة، إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة، ولكن لا أخرج للقتال في هذا العام، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة، وقدم إلى مكة أيضا في هذا العام يعلى بن أمية من اليمن - وكان عاملا عليها لعثمان - ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وقدم لها عبد الله بن عامر من البصرة، وكان نائبها لعثمان، فاجتمع فيها خلق من سادات الصحابة وأمهات المؤمنين.
فقامت عائشة رضي الله عنها في الناس تخطبهم وتحثهم على القيام بطلب دم عثمان، وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام، ولم يراقبوا جوار رسول الله ﷺ وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال، فاستجاب الناس لها، وطاوعوها على ما تراه من الأمر بالمصلحة، وقالوا لها: حيثما ما سرت سرنا معك.
فقال قائل: نذهب إلى الشام.
فقال بعضهم: إن معاوية قد كفاكم أمرها، ولو قدموها لغلبوا، واجتمع الأمر كله لهم، لأن أكابر الصحابة معهم.
وقال آخرون: نذهب إلى المدينة فنطلب من علي أن يسلم إلينا قتلة عثمان فيقتلوا.
وقال آخرون: بل نذهب إلى البصرة فنتقوى من هنالك بالخيل والرجال، ونبدأ بمن هناك من قتلة عثمان.
فاتفق الرأي على ذلك، وكان بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على المسير إلى المدينة.
فلما اتفق الناس على المسير إلى البصرة رجعن عن ذلك، وقلن لا نسير إلى غير المدينة، وجهز الناس يعلى بن أمية فأنفق فيهم ستمائة بعير وستمائة ألف درهم وجهزهم ابن عامر أيضا بمال كثير.
وكانت حفصة بنت عمر أم المؤمنين قد وافقت عائشة على المسير إلى البصرة، فمنعها أخوها عبد الله من ذلك، وأبى هو أن يسير معهم إلى غير المدينة، وسار الناس صحبة عائشة في ألف فارس.
وقيل: تسعمائة فارس من أهل المدينة ومكة، وتلاحق بهم آخرون، فصاروا في ثلاثة آلاف، وأم المؤمنين عائشة تحمل في هودج على جمل اسمه عسكر اشتراه يعلى بن أمية من رجل من عرينة بمائتي دينار، وقيل: بثمانين دينارا، وقيل: غير ذلك.
وسار معها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق ففارقنها هنالك وبكين للوداع، وتباكى الناس، وكان ذلك اليوم يسمى يوم النحيب.
وسار الناس قاصدين البصرة، وكان الذي يصلي بالناس عن أمر عائشة ابن أختها عبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم يؤذن للناس في أوقات الصلوات، وقد مروا في مسيرهم ليلا بماء يقال له الحوأب فنبحتهم كلاب عنده، فلما سمعت ذلك عائشة قالت: ما اسم هذا المكان؟
قالوا: الحوأب، فضربت بإحدى يديها على الأخرى، وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون ما أظنني إلا راجعة.
قالوا: ولم؟
قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لنسائه: « ليت شعري أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب ».
ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته، وقالت: ردوني ردوني أنا والله صاحبة ماء الحوأب.
وقد أوردنا هذا الحديث بطرقه وألفاظه في (دلائل النبوة) كما سبق، فأناخ الناس حولها يوما وليلة.
وقال لها عبد الله بن الزبير: إن الذي أخبرك أن هذا ماء الحوأب قد كذب، ثم قال الناس: النجا النجا، هذا جيش علي بن أبي طالب قد أقبل، فارتحلوا نحو البصرة، فلما اقتربت من البصرة، كتبت إلى الأحنف بن قيس وغيره من رؤوس الناس: أنها قد قدمت، فبعث عثمان بن حنيف عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي إليها ليعلما ما جاءت له، فلما قدما عليها سلما عليها واستعلما منها ما جاءت له، فذكرت لهما ما الذي جاءت له من القيام بطلب دم عثمان، لأنه قتل مظلوما في شهر حرام وبلد حرام.
وتلت قوله تعالى: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما } [النساء: 114] فخرجا من عندها فجاءا إلى طلحة، فقالا له: ما أقدمك؟
فقال: الطلب بدم عثمان.
فقالا: ما بايعت عليا؟
قال: بلى والسيف على عنقي، ولا أستقبله إن هو لم يخل بيننا وبين قتلة عثمان.
فذهبا إلى الزبير فقال: مثل ذلك.
قال: فرجع عمران وأبو الأسود إلى عثمان بن حنيف، فقال أبو الأسود:
يا ابن الأحنف قد أتيت فانفر * وطاعن القوم وجالد واصبر واخرج لهم مستلثما وشمر *
فقال عثمان بن حنيف: إنا لله وإنا إليه راجعون دارت رحا الإسلام ورب الكعبة، فانظروا بأي زيفان نزيف.
فقال عمران: إي والله لتعركنكم عركا طويلا، يشير عثمان بن حنيف إلى حديث ابن مسعود مرفوعا: « تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين » الحديث كما تقدم.
ثم قال عثمان بن حنيف لعمران بن حصين: أشر علي.
فقال: اعتزل، فإني قاعد في منزلي، أو قال قاعد على بعيري فذهب، فقال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين، فنادى في الناس يأمرهم بلبس السلاح، والاجتماع في المسجد فاجتمعوا، فأمرهم بالتجهز، فقام رجل وعثمان على المنبر فقال:
أيها الناس، إن كان هؤلاء القوم جاؤوا خائفين فقد جاؤوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلته، فأطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا.
فقام الأسود بن سريع السعدي فقال: إنما جاؤوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا، فحصبه الناس، فعلم عثمان بن حنيف أن لقتلة عثمان بالبصرة أنصارا، فكره ذلك، وقدمت أم المؤمنين بمن معها من الناس، فنزلوا المربد من أعلاه قريبا من البصرة، وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، وخرج عثمان بن حنيف بالجيش فاجتمعوا بالمربد، فتكلم طلحة - وكان على الميمنة - فندب إلى الأخذ بثأر عثمان، والطلب بدمه، وتابعه الزبير فتكلم بمثل مقالته فرد عليهما ناس من جيش عثمان بن حنيف، وتكلمت أم المؤمنين فحرضت وحثت على القتال، فتناور طوائف من أطراف الجيش فتراموا بالحجارة.
ثم تحاجز الناس ورجع كل فريق إلى حوزته، وقد صارت طائفة من جيش عثمان بن حنيف إلى جيش عائشة فكثروا، وجاء حارثة بن قدامة السعدي فقال: يا أم المؤمنين! والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل عرضة للسلاح، إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي من حيث جئت إلى منزلك، وإن كنت أتيتينا مكرهة، فاستعيني بالناس في الرجوع.
وأقبل حكيم بن جبلة - وكان على خيل عثمان بن حنيف - فأنشب القتال وجعل أصحاب أم المؤمنين يكفون أيديهم ويمتنعون من القتال، وجعل حكيم يقتحم عليهم فاقتتلوا على فم السكة.
وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن، وحجز الليل بينهم، فلما كان اليوم الثاني قصدوا للقتال، فاقتتلوا قتالا شديدا، إلى أن زال النهار، وقتل خلقٌ كثير من أصحاب ابن حنيف، وكثرت الجراح في الفريقين، فلما عضتهم الحرب تداعوا إلى الصلح على أن يكتبوا بينهم كتابا، ويبعثوا رسولا إلى أهل المدينة يسأل أهلها، إن كان طلحة والزبير أكرها على البيعة.
خرج عثمان بن حنيف عن البصرة وأخلاها، وإن لم يكونا أكرها على البيعة خرج طلحة والزبير عنها وأخلوها لهم، وبعثوا بذلك كعب بن سور القاضي، فقدم المدينة يوم الجمعة، فقام في الناس فسألهم:
هل بايع طلحة والزبير طائعين أو مكرهين؟ فسكت الناس فلم يتكلم إلا أسامة بن زيد.
فقال: بل كانا مكرهين، فثار إليه بعض الناس، فأرادوا ضربه فحاجف دونه صهيب، وأبو أيوب، وجماعة حتى خلصوه، وقالوا له: ما وسعك ما وسعنا من السكوت؟.
فقال: لا والله ما كنت أرى أن الأمر ينتهي إلى هذا، وكتب علي إلى عثمان بن حنيف، يقول له: إنهما لم يكرها على فرقة، ولقد أكُرها على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرا ونظرنا، وقد كعب بن سور على عثمان بكتاب علي، فقال عثمان: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه.
وبعث طلحة والزبير إلى عثمان بن حنيف أن يخرج إليهما فأبى، فجمعا الرجال في ليلة مظلمة وشهدا بهم صلاة العشاء في المسجد الجامع، ولم يخرج عثمان بن حنيف تلك الليلة، فصلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ووقع من رعاع الناس من أهل البصرة كلام وضرب، فقُتل منهم نحوا من أربعين رجلا، ودخل الناس على عثمان بن حنيف قصره فأخرجوه إلى طلحة والزبير، ولم يبق في وجهه شعرة إلا نتفوها، فاستعظما ذلك.
وبعثا إلى عائشة، فأعلماها الخبر، فأمرت أن تخلي سبيله فأطلقوه، وولوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر، وقسم طلحة والزبير أموال بيت المال في الناس، وفضلوا أهل الطاعة وأكب عليهم الناس يأخذون أرزاقهم وأخذوا الحرس، واستبدوا في الأمر بالبصرة، فحمى لذلك جماعة من قوم قتلة عثمان وأنصارهم.
فركبوا في جيش قريب من ثلاثمائة، ومقدمهم حكيم بن جبلة، وهو أحد من باشر قتل عثمان، فبارزوا وقاتلوا، فضرب رَجل رجل حكيم بن جبلة فقطعها فزحف حتى أخذها وضرب بها ضاربه فقتله، ثم اتكأ عليه، وجعل يقول:
يا ساق لن تراعي * إن لك ذراعي
أحمى بها كراعي
وقال أيضا:
ليس على أن أموت عار * والعار في الناس هو الفرارُ
والمجد لا يفضحه الدمار
فمر عليه رجل وهو متكئ برأسه على ذلك الرجل، فقال له: من قتلك؟
فقال له: وسادتي.
ثم مات حكيم قتيلا، هو ونحوا من سبعين من قتلة عثمان، وأنصارهم أهل المدينة، فضعف جأش من خالف طلحة والزبير من أهل البصرة.
ويقال: إن أهل البصرة بايعوا طلحة والزبير، وندب الزبير ألف فارس يأخذها معه ويلتقي بها عليا قبل أن يجيء فلم يجبه أحد، وكتبوا بذلك إلى أهل الشام يبشرونهم بذلك، وقد كانت هذه الوقعة لخمس ليال يقين من ربيع الآخرة سنة ست وثلاثين.
وقد كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان تدعوه إلى نصرتها والقيام معها، فإن لم يجيء فليكف يده، وليلزم منزله، أي: لا يكون عليها ولا لها، فقال: أنا في نصرتك ما دمت في منزلك، وأبى أن يطيعها في ذلك.
وقال: رحم الله أم المؤمنين، أمرها الله أن تلزم بيتها، وأمرنا أن نقاتل، فخرجت من منزلها، وأمرتنا بلزوم بيوتنا التي كانت هي أحق بذلك منا.
وكتبت عائشة إلى أهل اليمامة والكوفة بمثل ذلك.