البداية والنهاية/الجزء السابع/قصة التحكيم
ثم تراوض الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات يطول ذكرها على التحكيم، وهو أن يحكِّم كل واحد من الأميرين - علي ومعاوية - رجلا من جهته ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة للمسلمين.
فوكل معاوية عمرو بن العاص، وأراد علي أن يوكل عبد الله بن عباس - وليته فعل - ولكنه منعه القراء ممن ذكرنا، وقالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى الأشعري.
وذكر الهيثم بن عدي في كتاب الخوارج له: أن أول من أشار بأبي موسى الأشعري الأشعث بن قيس، وتابعه أهل اليمن، ووصفوه أنه كان ينهى الناس عن الفتنة والقتال.
وكان أبو موسى قد اعتزل في بعض أرض الحجاز، قال علي: فإني أجعل الأشتر حكما.
فقالوا: وهل سعر الحرب وشعر الأرض إلا الأشتر؟
قال: فاصنعوا ما شئتم.
فقال الأحنف لعلي: والله لقد رميت بحجر، إنه لا يصلح هؤلاء القوم إلا رجل منهم يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ويبتعد حتى يصير بمنزلة النجم، فإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا وثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا أحلها، ولا يحل عقدة عقدتها إلا عقدت لك أخرى مثلها أو أحكم منها.
قال: فأبوا إلا أبا موسى الأشعري فذهبت الرسل إلى أبي موسى الأشعري - وكان قد اعتزل - فلما قيل له: إن الناس قد اصطلحوا.
قال: الحمد لله.
قيل له: وقد جعلت حكما.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أخذوه حتى أحضروه إلى علي رضي الله عنه.
وكتبوا بينهم كتابا هذه صورته: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
فقال عمرو بن العاص: اكتب اسمه واسم أبيه هو أميركم وليس بأميرنا.
فقال الأحنف: لا تكتب إلا أمير المؤمنين.
فقال علي: امح أمير المؤمنين واكتب هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب ثم استشهد علي بقصة الحديبية حين امتنع أهل مكة هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله فامتنع المشركون من ذلك وقالوا: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله.
فكتب الكاتب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل العراق ومن معهم من شيعتهم والمسلمين، وقاضى معاوية على أهل الشام ومن كان معه من المؤمنين والمسلمين إنا ننزل عند حكم الله وكتابه ونحيي ما أحيى الله، ونميت ما أمات الله، فما وجد الحكمان في كتاب الله - وهما أبو موسى الأشعري، وعمرو بن العاص - عملا به، وما لم يجدا في كتاب الله، فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة.
ثم أخذ الحكمان من علي، ومعاوية، ومن الجندين، العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كليهما عهد الله وميثاقه أنهما على ما في هذه الصحيفة، وأجلا القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يؤخرا ذلك على تراض منهما.
وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح.
وقد ذكر الهيثم في كتابه في (الخوارج): أن الأشعث بن قيس لما ذهب إلى معاوية بالكتاب وفيه: هذا ما قاضى عبد الله علي أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان.
قال معاوية: لو كان أمير المؤمنين لم أقاتله، ولكن ليكتب اسمه وليبدأ به قبل اسمي لفضله وسابقته.
فرجع إلى علي فكتب كما قال معاوية.
وذكر الهيثم: أن أهل الشام أبوا أن يبدأ باسم علي قبل معاوية وباسم أهل العراق قبلهم حتى كتب كتابان كتاب لهؤلاء فيه تقديم معاوية على علي وكتاب آخر لأهل العراق بتقديم اسم علي وأهل العراق على معاوية وأهل الشام.
وهذه تسمية من شهد على هذا التحكيم من جيش علي: عبد الله بن عباس، والأشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، وعبد الله بن الطفيل المعافري، وحجر بن يزيد الكندي، وورقاء بن سمي العجلي، وعبد الله بن بلال العجلي، وعقبة بن زياد الأنصاري، ويزيد بن جحفة التميمي، ومالك بن كعب الهمداني، فهؤلاء عشرة.
وأما من الشاميين فعشرة آخرون وهم: أبو الأعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ومخارق بن الحارث الزبيدي، ووائل بن علقمة العدوي، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وحمزة بن مالك الهمداني، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، ويزيد بن الحر العبسي.
وخرج الأشعث بن قيس بذلك الكتاب يقرؤه على الناس، ويعرضه على الطائفتين، ثم شرع الناس في دفن قتلاهم.
قال الزهري: بلغني أنه دفن في كل قبر خمسون نفسا، وكان علي قد أسر جماعة من أهل الشام.
فلما أراد الانصراف أطلقهم، وكان مثلهم أو قريب منهم في يد معاوية وكان قد عزم على قتلهم لظنه أنه قد قتل أسراهم، فلما جاءه أولئك الذين أطلقهم أطلق معاوية الذين في يده.
ويقال: إن رجلا يقال له عمرو بن أوس - من الأزد -كان من الأسارى فأراد معاوية قتله فقال: امنن عليّ فإنك خالي.
فقال: ويحك! من أين أنا خالك؟
فقال: إن أم حبيبة زوجة رسول الله ﷺ، وهي أم المؤمنين وأنا ابنها وأنت أخوها وأنت خالي.
فأعجب ذلك معاوية وأطلقه.
وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم - وذكر أهل صفين - فقال: كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام، فتصابروا واستحيوا من الفرار، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنوهم.
قال الشعبي: هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضا فلم يفر أحد من أحد.