[قال الشافعي]: قال الله تبارك وتعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي}.
[قال الشافعي]: فلم أسمع مخالفا ممن حفظت عنه ممن لقيت من أهل العلم بالتفسير في أنها نزلت بالحديبية وذلك إحصار عدو فكان في الحصر إذن الله تعالى لصاحبه فيه بما استيسر من الهدي، ثم بين رسول الله ﷺ أن الذي يحل منه المحرم الإحصار بالعدو فرأيت أن الآية بأمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة لله عامة على كل حاج ومعتمر إلا من استثنى الله ثم سن فيه رسول الله ﷺ من الحصر بالعدو وكان المريض عندي ممن عليه عموم الآية وقول ابن عباس وابن عمر وعائشة يوافق معنى ما قلت وإن لم يلفظوا به إلا كما حدث عنهم، أخبرنا سفيان بن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو.
[قال الشافعي]: قول ابن عباس لا حصر إلا حصر العدو، لا حصر يحل منه المحصر إلا حصر العدو كأنه يريد مثل المعنى الذي وصفت والله أعلم، أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه قال: من حبس دون البيت بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أنه قال المحصر لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، فإن اضطر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بد له منها صنع ذلك وافتدى.
[قال الشافعي]: يعني المحصر بالمرض والله أعلم.
[قال الشافعي]: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أن عبد الله بن عمر ومروان بن الحكم وابن الزبير أفتوا ابن حزابة المخزومي وأنه صرع ببعض طريق مكة وهو محرم أن يتداوى بما لا بد له منه ويفتدي فإذا صح اعتمر فحل من إحرامه وكان عليه أن يحج عاما قابلا ويهدي، أخبرنا مالك عن أيوب السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال: خرجت إلى مكة حتى إذا كنت بالطريق كسرت فخذي فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما والناس فلم يرخص لي أحد في أن أحل فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر ثم حللت بعمرة، أخبرنا إسماعيل ابن علية عن رجل كان قديما وأحسبه قد سماه وذكر نسبه وسمى الماء الذي أقام به الدثنة وحدث شبيها بمعنى حديث مالك، أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عائشة أنها كانت تقول: المحرم لا يحله إلا البيت.
[قال الشافعي]: وسواء في هذا كله أي مرض ما كان، وسواء ذهب عقله فيما لم يذهب وإن اضطر إلى دواء يداوي به دووي وإن ذهب عقله فدى عنه فدية ذلك الدواء، فإن قال قائل كيف أمرت الذاهب العقل أن يفتدي عنه والقلم مرفوع عنه في حال تلك؟ قيل له إن شاء الله إنما يداويه من يعقل والفدية لازمة بأن فاعلها يعقل وهي على المداوي له في ماله إن شاء ذلك المداوي لأنها جناية من المداوي على المداوى وإن غلب المحرم على عقله فأصاب صيدا ففيها قولان أحدهما أن عليه جزاءه من قبل أنه يلزم المحرم بإصابة الصيد جزاء لمساكين الحرم كما يلزمه لو قتله لرجل والقاتل مغلوب على عقله ولو أتلف لرجل مالا لزمته قيمته ويحتمل حلقه شعره هذا المعنى في الوجهين جميعا. والقول الثاني لا شيء عليه من قبل أن القلم مرفوع عنه، وأصل الصيد ليس بمحرم وكذلك حلق الشعر وإنما جعل هذا عقوبة على من أتاه تعبدا لله والمغلوب على عقله غير متعبد في حال غلبته وليس كأموال الناس الممنوعة بكل حال كالمباح إلا في حال.
قال: ولو أصاب امرأته احتمل المعنيين وكان أخف لأنه ليس في إصابته لامرأته إتلاف لشيء فأما طيبه ولبسه فلا شيء عليه فيه من قبل أنا نضعه عن الجاهل العاقل والناسي العاقل وهذا أولى أن يوضع عنه وذلك أنه ليس في واحد منهما إتلاف لشيء وقد يحتمل الجماع من المغلوب العقل أن يقاس على هذا لأنه ليس بإتلاف شيء فإن قال قائل أفرأيت إذا غلب على عقله كيف لم تزعم أنه خارج من الإحرام كما أنه خارج من الصلاة؟ قيل له إن شاء الله لاختلاف الصلاة والحج، فإن قال قائل فأين اختلافهما؟ قيل يحتاج المصلي إلى أن يكون طاهرا في صلاته عاقلا لها ويحتاج إلى أن يكون عاقلا لها كلها لأن كلها عمل لا يجزيه غيره والحاج يجوز له كثير من عمل الحج وهو جنب وتعمله الحائض كله إلا الطواف بالبيت فإن قال قائل: فما أقل ما يجزي الحاج أن يكون فيه عاقلا؟ قيل له عمل الحج على ثلاثة أشياء أن يحرم وهو يعقل ويدخل عرفة في وقتها وهو يعقل ويطوف بالبيت وبالصفا والمروة وهو يعقل فإذا جمع هذه الخصال وذهب عقله فما بينها فعمل عنه أجزأ عنه حجه إن شاء الله وهذا مكتوب في دخول عرفة.
[قال الشافعي]: في مكي أهل بالحج من مكة أو غريب دخلها محرما فحل ثم أقام بها حتى أنشأ الحج منها فمنعهما مرض حتى فاتهما الحج يطوفان بالبيت وبين الصفا والمروة ويحلقان أو يقصران فإذا كان قابل حجا وأجزأ كل واحد منهما أن يخرج من الحرم إلى الحل لأنهما لم يكونا معتمرين قط إنما يخرجان بأقل ما يخرج به من عمل الحج إذا لم يكن لهما أن يعملا بعرفة ومنى ومزدلفة وذلك طواف وسعي وأخذ من شعره، فإن قال قائل فكيف بما روي عن عمر من هذا؟ قيل له على معنى ما قلت إن شاء الله وذلك أنه قال لسائله: اعمل ما يعمل المعتمر ولم يقل له: إنك معتمر وقال له احجج قابلا وأهد ولو انقلب إحرامه عمرة لم يكن عليه حج وكان مدركا للعمرة وفي أمره وأمرنا إياه بحج قابل دلالة على أن إحرامه حج وأنه لا ينقلب عمرة، ولو انقلب عمرة لم يجز أن تأمره بحج قابل قضاء وكيف يقضي ما قد انقلب عنه؟ ولكن آمره بالقضاء لأنه فائت له وقد جاء من فاته الحج فسأل عمر وهو ينحر ولا أشك إن شاء الله تعالى أن قد دخل الحرم قبل طلوع الفجر من ليلة النحر فلو كان حجه صار عمرة حين طلع الفجر من ليلة النحر وكان الحج فائتا لامره عمر أن يخرج بنفسه إلى الحل فيلبي منه ولكنه كما وصفت إن شاء الله لا كقول من قال صار عمرة وإنما قول من قال صار عمرة بغلط إلى قوله يعني صار عمله عمرة وسقط بعض عمل الحج إذا فاتت عرفة ولو كان صار عمرة أجزأ عنه من عمرة الإسلام وعمرة لو نذرها فنواها عند فوت الحج له وهو لا يجزي من واحد منهما.
ومن أحرم بحج فحبس عن الحج بمرض أو ذهاب عقل أو شغل أو توان أو خطأ عدد ثم أفاق من المرض في حين يقدر على إتيان البيت لم يحلل من شيء من إحرامه حتى يصل إلى البيت فإن أدرك الحج عامه الذي أحرم فيه لم يحلل إلى يوم النحر وإن فاته حج عامه الذي أحرم فيه حل إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وحلق أو قصر، فإن كان إهلاله بحج فأدركه فلا شيء عليه، وإن كان إهلاله بحج ففاته خرج منه بعمل عمرة وعليه حج قابل أو بعد ذلك وما استيسر من الهدي، وإن كان قارنا فأدرك الحج فقد أدركه والعمرة فإن فاته الحج حج بالطواف والسعي والحلق أو التقصير وكان عليه أن يهل بحج وعمرة مقرونين لا يزيد على ذلك شيئا كما إذا فاته صلاة أو صوم أو عمرة أمرناه أن يقضي ذلك بمثله لا يزيد على قضائه شيئا غيره وإذا فاته الحج فجاء بعد عرفة لم يقم بمنى ولم يعمل من عمل الحج شيئا وقد خرج من عمل الحج مفردا كان أو قارنا بعمل عمرة من طواف وسعي وحلق أو تقصير وحج قابل أحب إلي، فإن أخر ذلك فأداه بعد أجزأ عنه كما يؤخر حجة الإسلام بعد بلوغه أعواما فيؤديها عنه متى أداها وإن اضطر قبل الإحلال إلى شيء مما عليه فيه فدية إذا كان محرما أو أصابه فعليه فدية وكان إذا لم يصل إلى البيت كامل الإحرام قبل فوت الحج وبعده يجب عليه الفدية فيما فيه فدية والفساد فيما فيه فساد لا يختلف ذلك لأن الإحرام قائم عليه ولو كان ممن يذهب إلى أن المريض يحل بهدي يبعث به فبعث بهدي ونحر أو ذبح عنه وحل كان كمن حل ولم يبعث بهدي ولم ينحر ولم يذبح عنه حراما بحاله، ولو رجع إلى بلده رجع حراما بحاله ولو صح وقد بعث بهدي فمضى إلى البيت من فوره ذلك وقد ذبح الهدي لم يجز ذلك الهدي عنه من شيء وجب عليه في إحرامه فدية حج ولا عمرة لأنه ذبحه عما لا يلزمه. ولو أدرك الهدي قبل أن يذبح فحبسه كان ذلك له ما لم يتكلم بإيجابه ولو أدرك الهدي قبل أن ينحر أو يذبح وقد أوجبه بكلام يوجبه، كان واجبا أن يذبح وكان كالمسألة الأولى وكان كمن أوجبه تطوعا وكان كمن أعتق عن شيء لم يلزمه فيه العتق فالعتق ماض تطوعا، ولو لم يوجب الهدي بكلام وبعث به فأدركه قبل أن يذبح كان مالا من ماله ولو لم يوجبه بكلام وقلده وأشعره وبعث به فأدركه قبل أن يذبح فمن قال نيته في هديه وتجليله وتقليده وإعلامه أي علامات الحج أعلمه يوجبه عليه كان كالكلام به ومن قال هذا القول أشبه أن يفرق بين العمل في نفسه وماله فيما بينه وبين الله تعالى وبين العمل في نفسه وماله فيما بينه وبين الآدميين فلم يوجب عليه للآدميين إلا ما تكلم به ولم يلزمه فيما بينه وبينهم إلا ما تكلم به مما يكون فيه الكلام وقال فيما بينه وبين الله عز وجل تجزيه النية والعمل كما تجزيه في الصلاة والصوم والحج ولم يتكلم بفرض صلاة مكتوبة ولا صوم ولا حج إلا أنه نواه وعمله، والمكي يهل بالحج من مكة أو الحل من ميقات أو غير ميقات ثم يمرض أو يغلب على عقله أو يفوته الحج بأي وجه ما كان مثل الغريب لا يزايله يحل بطواف وسعي وحلق أو تقصير، ويكون عليه حج بعد حجه الذي فاته وأن يهدي ما استيسر من الهدي شاة.