أخبرنا الربيع قال: [قال الشافعي]: رحمه الله قال لي بعض الناس: إذا صام عن جزاء الصيد صام عن كل مد يوما، وإذا أطعم منه في كفارة اليمين أطعم كل مسكين مدين وقال هل رويت في هذا عن أصحابك شيئا يوافق قولنا ويخالف قولك؟ قلت نعم أخبرنا سعيد عن ابن جريج أن مجاهدا كان يقول مكان كل مدين يوما فقال: وكيف لم تأخذ بقول مجاهد وأخذت بقول عطاء يطعم المسكين حيث وجب إطعامه مدا إلا في فدية الأذى فإنك قلت يطعمه مدين ولم لم تقل إذ قلت في فدية الأذى يطعمه مدين في كل موضع؟
[قال الشافعي]: فقلت له يجمع بين مسألتيك جواب واحد إن شاء الله قال فاذكره.
[قال الشافعي]: أصل ما ذهبنا إليه نحن وأنت ومن نسبناه معنا إلى الفقه فالفرض عليه في تأدية ما يجب عليه من أن لا يقول إلا من حيث يعلم ويعلم أن أحكام الله جل ثناؤه ثم أحكام رسوله من وجهين يجمعهما معا أنهما تعبد ثم في التعبد وجهان فمنه تعبد لأمر أبان الله - عز وجل - أو رسوله سببه فيه أو في غيره من كتابه أو سنة رسوله فذلك الذي قلنا به وبالقياس فيما هو في مثل معناه ومنه ما هو تعبد لما أراد الله عز شأنه مما علمه وعلمنا حكمه ولم نعرف فيه ما عرفنا مما أبان لنا في كتابه أو على لسان نبيه ﷺ فأدينا الفرض في القول به والانتهاء إليه، ولم نعرف في شيء له معنى فنقيس عليه وإنما قسنا على ما عرفنا ولم يكن لنا علم إلا ما علمنا الله جل ثناؤه فقال: هذا كله كما وصفت لم أسمع أحدا من أهل التكشيف قال بغيره فقفني منه على أمر أعرفه فإن أصحابنا يعطون هذه الجملة كما وصفت لا يغادرون منها حرفا وتختلف أقاويلهم إذا فرعوا عليها فقلت فأقبل منهم الصواب وأرد عليهم الغفلة قال: إن ذلك للازم لي وما يبرأ آدمي رأيته من غفلة طويلة ولكن أنصب لما قلت مثالا فقلت: أرأيت إذ حكم رسول الله ﷺ في الجنين بغرة قلنا وقلت قيمتها خمسون دينارا وهو لو كان حيا كانت فيه ألف دينار أو ميتا لم يكن فيه شيء وهو لا يخلو أن يكون ميتا أو حيا فكان مغيب المعنى يحتمل الحياة والموت إذا جنى عليه فهل قسنا عليه ملففا أو رجلا في بيت يمكن فيهما الموت والحياة وهما مغيبا المعنى؟ قال: لا، قلت ولا قسنا عليه شيئا من الدماء؟ قال: لا قلت ولم؟ قال: لأنا تعبدنا بطاعة النبي ﷺ فيه ولم نعرف سبب ما حكم له به قلت فهكذا قلنا في المسح على الخفين لا يقاس عليهما عمامة ولا برقع ولا قفازان قال وهكذا قلنا فيه؛ لأن فيه فرض وضوء وخص منه الخفان خاصة فهو تعبد لا قياس عليه قلت وقسنا نحن وأنت إذ قضى النبي ﷺ أن الخراج بالضمان أن الخدمة كالخراج قال: نعم قلت: لأنا عرفنا أن الخراج حادث في ملك المشتري وضمنه منه ولم تقع عليه صفقة البيع قال: نعم، وفي هذا كفاية من جملة ما أردت ودلالة عليه من أن سنة مقيس عليها وأخرى غير مقيس عليها، وكذلك القسامة لا يقاس عليها غيرها ولكن أخبرني بالأمر الذي له اخترت أن لكل مسكين مدا إلا في فدية الأذى إذا ترك الصوم فإما أن يصوم مكان كل مد يوما فيكون صوم يوم مكان مد فإن ثبت لك المد صحيح لا أسألك عنه إلا فيما قلت إن صوم اليوم يقوم مقام إطعام مسكين فقلت له حكم الله - عز وجل - على المظاهر إذا عاد لما قال {فتحرير رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا} فكان معقولا أن إمساك المظاهر عن أن يأكل ستين يوما كإطعام ستين مسكينا وبهذا المعنى صرت إلى أن إطعام مسكين مكان كل يوم قال فهل من دليل مع هذا؟ قلت نعم (أمر النبي ﷺ المصيب لأهله نهارا في شهر رمضان هل تجد ما تعتق؟ قال: لا، فسأله هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال لا. فسأله هل تقدر أن تطعم ستين مسكينا؟ فقال: لا، فأعطاه عرق تمر فأمره أن يتصدق به على ستين مسكينا فأدى المؤدي) للحديث أن في العرق خمسة عشر صاعا قال أو عشرين، ومعروف أن العرق يعمل على خمسة عشر صاعا ليكون الوسق به أربعة فذهبنا إلى أن إطعام المسكين مد طعام ومكان إطعام المسكين صوم يوم، قال: أما صوم يوم مكان كل مسكين فكما قلت، وأما إطعام المسكين مدا فإذا قال أو عشرين صاعا قلت فهذا مد وثلث لكل مسكين قال: فلم لا تقول به؟ قلت فهل علمت أحدا قط قال إلا مدا أو مدين؟ قال: لا قلت فلو كان كما قلت أنت كنت أنت قد خالفته ولكنه احتياط من المحدث، وهذا كما قلت في العرق خمسة عشر صاعا وعلى ذلك كانت تعمل فيما أخبرني غير واحد من أهل العلم باليمن أنهم كانوا يجعلونها معايير كالمكاييل على خمسة عشر صاعا بالتمر، قال: فقد زعمت أن الكفارة في الطعام وإصابة المرأة تعبد لأمر قد عرفته وعرفناه معك فأبن أن الكفارة في فدية الأذى وغيرها تعبد لا يقاس عليه قلت: أليس (قال رسول الله ﷺ لكعب بن عجرة في الطعام فرقا بين ستة مساكين) فكان ذلك مدين مدين؟ قال: بلى قلت وأمره فقال: أو صم ثلاثة أيام؟ قال: بلى قلت: وقال: " أو انسك شاة " قال: بلى قلت: فلو قسنا الطعام على الصوم أما نقول صوم يوم مكان إطعام مسكينين؟ قال: بلى، قلت: ولو قسنا الشاة بالصوم كانت شاة عدل صيام ثلاثة أيام؟ قال: بلى قلت: وقد قال الله - عز وجل - في المتمتع {فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} فجعل البدل من شاة صوم عشرة أيام قال: نعم وقلت: قال الله - عز وجل - {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية. فجعل الرقبة مكان إطعام عشرة مساكين قال: نعم قلت: والرقبة في الظهار والقتل مكان ستين يوما، قال: نعم وقد بان أن صوم ستين يوما أولى بالقرب من الرقبة من صوم عشرة وبان لي أن صوم يوم أولى بإطعام مسكين منه بإطعام مسكينين؛ لأن صوم يوم جوع يوم، وإطعام مسكين إطعام يوم، فيوم بيوم أولى أن يقاس عليه من يومين بيوم وأوضح من أنها أولى الأمور بالقياس قال: فهل فيه من أثر أعلى من قول عطاء؟ قلت: نعم، أخبرنا مالك.
[قال الشافعي]: قال فهل خالفك في هذا غيرك من أهل ناحيتك؟ فقلت: نعم زعم منهم زاعم ما قلت: من أن الكفارات بمد النبي ﷺ إلا كفارة الظهار فإنها بمد هشام قال فلعل مد هشام مدان فيكون أراد قولنا مدين وإنما جعل مد هشام علما قلت: لا، مد هشام، مد وثلث بمد النبي ﷺ أو مد ونصف.
[قال الشافعي]: فقال فالغني بالمسألة عن هذا القول - إذا كان كما وصفت - غني بما لا يعيد ولا يبدي كيف جاز لأحد أن يزعم أن الكفارات بمد مختلف؟ أرأيت لو قال له إنسان هي بمد أكبر من مد هشام أضعافا، والطعام بمد النبي ﷺ وما سواه بمد محدث الذي هو أكبر من مد هشام، أو رأيت الكفارات إذ نزلت على النبي ﷺ كيف جاز أن تكون بمد رجل لم يخلق أبوه ولعل جده لم يخلق في زمان النبي ﷺ وإنما قال الناس هي مدان بمد النبي ﷺ أو مد بمد النبي ﷺ فما أدخل مدا وكسرا؟ هذا خروج من قول أهل الدنيا في الكفارات.
[قال الشافعي]: وقلت له: وزعم بعض أهل ناحيتنا أيضا أن على غير أهل المدينة من الكفارات أكثر مما على أهل المدينة؛ لأن الطعام فيهم أوسع منه بالمدينة قال: فما قلت: لمن قال هذا؟
[قال الشافعي]: فقلت له: أرأيت الذين يقتاتون الفث والذين يقتاتون اللبن والذين يقتاتون الحنظل والذين يقتاتون الحيتان لا يقتاتون غيرها والذين السعر عندهم أغلى منه بالمدينة بكثير كيف يكفرون ينبغي في قولهم أن يكفروا أقل من كفارة أهل المدينة ويكفرون من الدخن وهو نبات يقتاته بعض الناس في الجدب؟ وينبغي إذا كان سعر أهل المدينة أرخص من سعر أهل بلد أن يكون من يكفر في زمان غلاء السعر ببلد أقل كفارة من أهل المدينة إن كان إنما زعم أن هذا لغلاء سعر أهل المدينة وقيل له هل رأيت من فرائض الله شيئا خفف عن أحد أو اختلفوا في صلاة أو زكاة أو حد أو غيره؟
[قال الشافعي]: قلت: فما ينبغي أن يعارض بقول من قال هذا.
[قال الشافعي]: وزعم زاعم غير قائل هذا أنه قال: الطعام حيث شاء المكفر في الحج والصوم كذلك.
[قال الشافعي]: فقيل له: لئن زعمت أن الدم لا يكون إلا بمكة ما ينبغي أن يكون الطعام إلا بمكة كما قلت؛ لأنهما طعامان. قال فما حجتك في الصوم؟ قلت: أذن الله للمتمتع أن يكون من صومه ثلاث في الحج وسبعة إذا رجع ولم يكن في الصوم منفعة لمساكين الحرم وكان على بدن الرجل فكان عملا بغير وقت فيعمله حيث شاء.