[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: الاستطاعة وجهان: أحدهما أن يكون الرجل مستطيعا ببدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج فتكون استطاعته تامة ويكون عليه فرض الحج لا يجزيه ما كان بهذا الحال، إلا أن يؤديه عن نفسه، والاستطاعة الثانية أن يكون مضنوا في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب فيحج على المركب بحال وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بطاعته له أو قادر على مال يجد من يستأجره ببعضه فيحج عنه فيكون هذا ممن لزمته فريضة الحج كما قدر، ومعروف في لسان العرب أن الاستطاعة تكون بالبدن وبمن يقوم مقام البدن، وذلك أن الرجل يقول: أنا مستطيع لان أبني داري يعني بيده ويعني بأن يأمر من يبنيها بإجارة أو يتطوع ببنائها له، وكذلك مستطيع لان أخيط ثوبي، وغير ذلك مما يعمله هو بنفسه ويعمله له غيره. فإن قال قائل: الحج على البدن وأنت تقول في الأعمال على الأبدان إنما يؤديها عاملها بنفسه مثل الصلاة والصيام فيصلي المرء قائما، فإن لم يقدر صلى جالسا أو مضطجعا ولا يصلي عنه غيره، وإن لم يقدر على الصوم قضاه إذا قدر أو كفر ولم يصم عنه غيره وأجزأ عنه. قيل له إن شاء الله تعالى الشرائع تجتمع في معنى وتفترق في غيره بما فرق الله به عز وجل بينها في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ أو بما اجتمعت عليه عوام المسلمين الذين لم يكن فيهم أن يجهلوا أحكام الله تعالى، فإن قال: فادللني على ما وصفت من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله ﷺ قيل له: إن شاء الله أخبرنا سفيان قال سمعت الزهري يحدث عن سليمان بن يسار عن ابن عباس (أن امرأة من خثعم سألت النبي ﷺ فقالت: إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على راحلته فهل ترى أن أحج عنه؟ فقال لها النبي ﷺ نعم) قال سفيان هكذا حفظته عن الزهري وأخبرنيه عمرو بن دينار عن الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس عن النبي ﷺ مثله، وزاد فقالت: يا رسول الله فهل ينفعه ذلك؟ فقال: نعم مثل لو كان عليه دين فقضيته نفعه فكان فيما حفظ سفيان عن الزهري ما بين أن أباها إذا أدركته فريضة الحج ولا يستطيع أن يستمسك على راحلته أن جائزا لغيره أن يحج عنه، ولد أو غيره، وأن لغيره أن يؤدي عنه فرضا إن كان عليه في الحج إذا كان غير مطيق لتأديته ببدنه فالفرض لازم له، ولو لم يلزمه لقال لها رسول الله ﷺ: لا فريضة على أبيك إذا كان إنما أسلم ولا يستطيع أن يستمسك على الراحلة إن شاء الله تعالى، ولقال: لا يحج أحد عن أحد إنما يعمل المرء عن نفسه ثم بين سفيان عن عمرو عن الزهري في الحديث ما لم يدع بعده في قلب من ليس بالفهم شيئا فقال في الحديث (فقالت له: أينفعه ذلك يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ نعم: كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه) وتأدية الدين عمن عليه حيا وميتا فرض من الله عز وجل في كتابه وعلى لسان نبيه ﷺ وفي إجماع المسلمين، فأخبر رسول الله ﷺ المرأة أن تأديتها عنه فريضة الحج نافعة له كما ينفعه تأديتها عنه دينا لو كان عليه ومنفعته إخراجه من المآثم وإيجاب أجر تأديته الفرض له كما يكون ذلك في الدين، ولا شيء أولى أن يجمع بينهما مما جمع رسول الله ﷺ بينه ونحن نجمع بالقياس بين ما أشبه في وجه، وإن خالفه في وجه غيره، إذا لم يكن شيء أشد مجامعة له منه فيرى أن الحجة تلزم به العلماء، فإذا جمع رسول الله ﷺ بين شيئين، فالفرض أن يجمع بين ما جمع رسول الله ﷺ بينه، وفيه فرق آخر أن العاقل للصلاة لا تسقط عنه حتى يصليها جالسا إن لم يقدر على القيام أو مضطجعا أو موميا وكيفما قدر وأن الصوم إن لم يقدر عليه قضاه، فإن لم يقدر على قضاء كفر، والفرض على الأبدان مجتمع في أنه لازم في حال ثم يختلف بما خالف الله عز وجل بينه ورسوله ﷺ ثم يفرق بينه بما يفرق به أصحاب النبي ﷺ أو بعض من هو دونهم، فالذي يخالفنا ولا يجيز أن يحج أحد عن أحد يزعم أن من نسي فتكلم في صلاة لم تفسد عليه صلاته، ومن نسي فأكل في شهر رمضان فسد صومه ويزعم أن من جامع في الحج أهدى. ومن جامع في شهر رمضان تصدق ومن جامع في الصلاة فلا شيء عليه ويفرق بين الفرائض فيما لا يحصى كثرة. وعلته في الفرق بينها خبر وإجماع، فإذا كانت هذه علته فلم رد مثل الذي أخذ به؟ قال الشافعي أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (كان الفضل بن عباس رديف النبي ﷺ فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله ﷺ يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ فقال: نعم)، وذلك في حجة الوداع.
[قال الشافعي]: أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج قال: قال ابن شهاب حدثني سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس عن الفضل بن عباس (أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله عليه في الحج وهو شيخ كبير لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره قال: فحجي عنه).
[قال الشافعي]: أخبرنا عمرو بن أبي سلمة عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي عن زيد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال: (وكل منى منحر ثم جاءت امرأة من خثعم فقالت: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير قد أفند وأدركته فريضة الله على عباده في الحج ولا يستطيع أداءها فهل يجزي عنه أن أؤديها عنه؟ فقال: نعم).
[قال الشافعي]: وفي حديث علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ بيان أن عليه أداءها إن قدر، وإن لم يقدر أداها عنه فأداؤها إياها عنه يجزيه، والأداء لا يكون إلا لما لزم.
[قال الشافعي]: أخبرنا سعيد بن سالم عن حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت طاوسا يقول: (أتت النبي ﷺ امرأة فقالت: إن أمي ماتت وعليها حجة فقال حجي عن أمك) أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن عطاء قال (سمع النبي ﷺ رجلا يقول: لبيك عن فلان فقال: إن كنت حججت فلب عنه وإلا فاحجج عنك) وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال لشيخ كبير لم يحجج " إن شئت فجهز رجلا يحج عنك ".
[قال الشافعي]: ولو جهز من هو بهذه الحال رجلا فحج عنه ثم أتت له حال يقدر فيها على المركب للحج ويمكنه أن يحج لم تجز تلك الحجة عنه وكان عليه أن يحج عن نفسه، فإن لم يفعل حتى مات أو صار إلى حال لا يقدر فيها على الحج وجب عليه أن يبعث من يحج عنه إذا بلغ تلك الحال أو مات؛ لأنه إنما يجزي عنه حج غيره بعد أن لا يجد السبيل، فإذا وجدها وجب عليه الحج وكان ممن فرض عليه ببدنه أن يحج عن نفسه إذا بلغ تلك الحال، وما أوجب على نفسه من حج في نذر وتبرر فهو مثل حجة الإسلام وعمرته، يلزمه أن يحج عن نفسه ويحجه عنه غيره، إذا جاز أن يحج عنه حجة الإسلام وعمرته جاز ذلك فيما أوجب على نفسه.