البداية والنهاية/الجزء السادس/أما القرآن
فقال تعالى في سورة المزمل - وهي من أوائل ما نزل بمكة -: { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله } [المزمل: 20] .
ومعلوم أن الجهاد لم يشرع إلا بالمدينة بعد الهجرة.
وقال تعالى في سورة اقترب - وهي مكية -: { أم يقولون نحن جميع منتصر * سيهزم الجمع ويولون الدبر } [القمر: 44-45] .
ووقع هذا يوم بدر وقد تلاها رسول الله ﷺ وهو خارج من العريش، ورماهم بقبضة من الحصباء فكان النصر والظفر، وهذا مصداق ذاك.
وقال تعالى: { تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب * وامرأته حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد } [المسد: 1-5] .
فأخبر أن عمه عبد العزى بن عبد المطلب الملقب بأبي لهب سيدخل النار هو وامرأته، فقدر الله عز وجل أنهما ماتا على شركهما لم يسلما حتى ولا ظاهرا، وهذا من دلائل النبوة الباهرة.
وقال تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } [الإسراء: 88] .
وقال تعالى في سورة البقرة: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } [البقرة: 23-24] .
فأخبر أن جميع الخليقة لو اجتمعوا، وتعاضدوا وتناصروا وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته، وحلاوته وإحكام أحكامه، وبيان حلاله وحرامه، وغير ذلك من وجوه إعجازه لما استطاعوا ذلك، ولما قدروا عليه ولا على عشر سور منه بل ولا سورة، وأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك أبدا.
و لن لنفي التأبيد في المستقبل، ومثل هذا التحدي وهذا القطع، وهذا الإخبار الجازم لا يصدر إلا عن واثق بما يخبر به، عالم بما يقوله، قاطع أن أحدا لا يمكنه أن يعارضه، ولا يأتي بمثل ما جاء به عن ربه عز وجل.
وقال تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } [النور: 55] .
وهكذا وقع سواء بسواء، مكن الله هذا الدين وأظهره وأعلاه ونشره في سائر الآفاق، وأنفذه وأمضاه.
وقد فسر كثير من السلف هذه الآية بخلافة الصديق، ولا شك في دخوله فيها ولكن لا تختص به بل تعمه كما تعم غيره.
كما ثبت في الصحيح: « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لننفقن كنوزهما في سبيل الله ».
وقد كان ذلك في زمن الخلفاء الثلاثة: أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم وأرضاهم -.
وقال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } [التوبة: 33] .
وهكذا وقع وعم هذا الدين وغلب وعلا على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها، وعلت كلمته في زمن الصحابة ومن بعدهم، وذلت لهم سائر البلاد ودان لهم جميع أهلها على اختلاف أصنافهم، وصار الناس إما مؤمن داخل في الدين، وإما مهادن باذل الطاعة والمال، وإما محارب خائف وجل من سطوة الإسلام وأهله.
وقد ثبت في الحديث: « إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ».
وقال تعالى: { قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون } [الفتح: 16] .
وسواء كان هؤلاء هوازن أو أصحاب مسيلمة أو الروم فقد وقع ذلك.
وقال تعالى: { وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وكف أيدي الناس عنكم ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطا مستقيما * وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا } [الفتح: 20 -21] .
وسواء كانت هذه الأخرى خيبر أو مكة فقد فتحت وأخذت كما وقع به الوعد سواء بسواء.
وقال تعالى: { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا } [الفتح: 27] .
فكان هذا الوعد في سنة الحديبية عام ست، ووقع إنجازه في سنة سبع عام عمرة القضاء كما تقدم، وذكرنا هناك الحديث بطوله وفيه أن عمر قال: يا رسول الله ألم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟
قال: « بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ »
قال: لا.
قال: « فإنك تأتيه وتطوف به ».
وقال تعالى: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } [الأنفال: 7] .
وهذا الوعد كان في وقعة بدر لما خرج رسول الله ﷺ من المدينة ليأخذ عير قريش، فبلغ قريشا خروجه إلى عيرهم فنفروا في قريب من ألف مقاتل فلما تحقق رسول الله ﷺ وأصحابه قدومهم وعده الله إحدى الطائفتين أن سيظفره بها إما العير، وإما النفير، فود كثير من الصحابة ممن كان معه أن يكون الوعد للعير لما فيه من الأموال وقلة الرجال، وكرهوا لقاء النفير لما فيه من العدد والعدد، فخار الله لهم وأنجز لهم وعده في النفير بهم بأسه الذي لا يرد فقتل من سراتهم سبعون وأسر سبعون، وفادوا أنفسهم بأموال جزيلة، فجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، ولهذا قال تعالى: { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين } [الأنفال: 7] .
وقد تقدم بيان هذا في غزوة بدر.
وقال تعالى: { ياأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم } [الأنفال: 70] .
وهكذا وقع فإن الله عوض من أسلم منهم بخير الدنيا والآخرة.
ومن ذلك ما ذكره البخاري أن العباس جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي، وفاديت عقيلا.
فقال له: « خذ » فأخذ في ثوب مقدارا لم يمكنه أن يقله، ثم وضع منه مرة بعد مرة حتى أمكنه أن يحمله على كاهله وانطلق به كما ذكرناه في موضعه مبسوطا، وهذا من تصديق هذه الآية الكريمة.
وقال تعالى: { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } [التوبة: 95] .
هكذا وقع عوضهم الله عما كان يغدو إليهم مع حجاج المشركين بما شرعه لهم من قتال أهل الكتاب، وضرب الجزية عليهم، وسلب أموال من قتل منهم على كفره كما وقع بكفار أهل الشام من الروم ومجوس الفرس بالعراق، وغيرها من البلدان التي انتشر الإسلام على أرجائها وحكم على مدائنها وفيفائها.
قال تعالى: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون } [التوبة: 33] .
وقال تعالى: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس } [التوبة: 95] .
وهكذا وقع لما رجع ﷺ من غزوة تبوك كان قد تخلف عنه طائفة من المنافقين فجعلوا يحلفون بالله لقد كانوا معذورين في تخلفهم، وهم في ذلك كاذبون، فأمر الله رسوله أن يجري أحوالهم على ظاهرها ولا يفضحهم عند الناس، وقد أطلعه الله على أعيان جماعة منهم أربعة عشر رجلا كما قدمناه لك في غزوة تبوك، فكان حذيفة بن اليمان ممن يعرفهم بتعريفه إياه ﷺ.
وقال تعالى: { وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا } [الإسراء: 76] .
وهكذا وقع لما اشتوروا عليه ليثبتوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه من بين أظهرهم، ثم وقع الرأي على القتل، فعند ذلك أمر الله رسوله بالخروج من بين أظهرهم فخرج هو وصديقه أبو بكر فكمنا في غار ثور ثلاثا ثم ارتحلا بعدها كما قدمنا وهذا هو المراد بقوله: { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } [التوبة: 40] .
وهو مراد من قوله: { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [الأنفال: 30] .
ولهذا قال: { وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا } [الإسراء: 76] .
وقد وقع كما أخبر فإن الملأ الذين اشتوروا على ذلك لم يلبثوا بمكة بعد هجرته ﷺ إلا ريثما استقر ركابه الشريف بالمدينة، وتابعه المهاجرون والأنصار ثم كانت وقعة بدر فقتلت تلك النفوس وكسرت تلك الرءوس، وقد كان ﷺ يعلم ذلك قبل كونه من إخبار الله له بذلك.
ولهذا قال سعد بن معاذ لأمية بن خلف: أما إني سمعت محمدا ﷺ يذكر أنه قاتلك.
فقال: أنت سمعته؟
قال: نعم.
قال: فإنه والله لا يكذب.
وسيأتي الحديث في بابه، وقد قدمنا أنه عليه السلام جعل يشير لأصحابه قبل الوقعة إلى مصارع القتلى، فما تعدى أحد منهم موضعه الذي أشار إليه - صلوات الله وسلامه عليه -.
وقال تعالى: { الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [الروم: 1-6] .
وهذا الوعد وقع كما أخبر به، وذلك أنه لما غلبت فارس الروم فرح المشركون واغتم بذلك المؤمنون لأن النصارى أقرب إلى الإسلام من المجوس، فأخبر الله رسوله ﷺ بأن الروم ستغلب الفرس بعد هذه المدة بسبع سنين، وكان من أمر مراهنة الصديق رءوس المشركين على أن ذلك سيقع في هذه المدة ما هو مشهور، كما قررنا في كتابنا التفسير فوقع الأمر كما أخبر به القرآن، غلبت الروم فارس بعد غلبهم غلبا عظيما جدا، وقصتهم في ذلك يطول بسطها وقد شرحناها في التفسير بما فيه الكفاية ولله الحمد والمنة.
وقال تعالى: { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [فصلت: 53] .
وكذلك وقع، أظهر الله من آياته ودلائله في أنفس البشر وفي الآفاق بما أوقعه من الناس بأعداء النبوة، ومخالفي الشرع ممن كذب به من أهل الكتابين والمجوس والمشركين، ما دل ذوي البصائر والنهى على أن محمدا رسول الله حقا، وأن ما جاء به من الوحي عن الله صدق، وقد أوقع له في صدور أعدائه وقلوبهم رعبا ومهابة وخوفا.
كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: « نصرت بالرعب مسيرة شهر » وهذا من التأييد والنصر الذي آتاه الله - عز وجل - وكان عدوه يخافه وبينه وبينه مسيرة شهر وقيل: كان إذا عزم على غزو قوم أرعبوا قبل مجيئه إليهم ووروده عليهم بشهر - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين.