البداية والنهاية/الجزء السادس/القول فيما أوتي موسى عليه السلام
وأعظمهن تسع آيات كما قال تعالى: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } [الإسراء: 101] .
وقد شرحناها في التفسير وحكينا قول السلف فيها واختلافهم فيها، وأن الجمهور على أنها هي العصا في انقلابها حية تسعى، واليد إذا أدخل يده في جيب درعه أخرجها تضيء كقطعة قمر يتلألأ إضاءة، ودعاؤه على قوم فرعون حين كذبوه فأرسل عليهم الطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات كما بسطنا ذلك في التفسير، وكذلك أخذهم الله بالسنين وهي نقص الحبوب، وبالجدب وهو نقص الثمار، وبالموت الذريع وهو نقص الأنفس، وهو الطوفان في قول، ومنها فلق أبحر لإنجاء بني إسرائيل وإغراق آل فرعون، ومنها تضليل بني إسرائيل في التيه، وإنزال المن والسلوى عليهم، واستسقاؤه لهم فجعل الله ماءهم يخرج من حجر يحمل معهم على دابة له أربعة وجوه، إذا ضربه موسى بعصاه يخرج من كل وجه ثلاثة أعين لكل سبط عين، ثم يضربه فينقلع، إلى غير ذلك من الآيات الباهرات كما بسطنا ذلك في التفسير وفي قصة موسى عليه السلام من كتابنا هذا في قصص الأنبياء منه، ولله الحمد والمنة.
وقيل: كل من عبد العجل أماتهم ثم أحياهم الله تعالى، وقصة البقرة.
أما العصا فقال شيخنا العلامة ابن الزملكاني: وأما حياة عصا موسى فقد سبح الحصا في كف رسول الله ﷺ وهو جماد، والحديث في ذلك صحيح.
وهذا الحديث مشهور عن الزهري، عن رجل، عن أبي ذر، وقد قدمنا ذلك مبسوطا في دلائل النبوة بما أغنى عن إعادته، وقيل: إنهن سبحن في كف أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، كما سبحن في كف رسول الله ﷺ فقال: « هذه خلافة النبوة ».
وقد روى الحافظ بسنده إلى بكر ابن حبيش عن رجل سماه قال: كان بيد أبي مسلم الخولاني سبحة يسبح بها قال: فنام والسبحة في يده، قال: فاستدارت السبحة فالتفت على ذراعه وهي تقول: سبحانك يا منبت النبات، ويا دائم الثبات.
فقال: هلم يا أم مسلم وانظري إلى أعجب الأعاجيب، قال: فجاءت أم مسلم والسبحة تدور وتسبح فلما جلست سكتت.
وأصح من هذا كله وأصرح حديث البخاري عن ابن مسعود قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
قال شيخنا: وكذلك قد سلمت عليه الأحجار.
قلت: وهذا قد رواه مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله ﷺ: « إني لأعرف حجرا كان يسلم علي بمكة قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن ».
قال بعضهم: هو الحجر الأسود.
وقال الترمذي: حدثنا عباد بن يعقوب الكوفي، حدثنا الوليد ابن أبي ثور عن السدي، عن عباد بن يزيد، عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع النبي ﷺ بمكة في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
ثم قال: غريب.
ورواه أبو نعيم في الدلائل من حديث السدي عن أبي عمارة الحيواني، عن علي قال: خرجت مع رسول الله ﷺ فجعل لا يمر بحجر ولا شجر ولا مدر ولا شيء إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
قال: وأقبلت الشجرة عليه بدعائه.
وذكر اجتماع تينك الشجرتين لقضاء حاجته من ورائهما، ثم رجوعهما إلى منابتهما، وكلا الحديثين في الصحيح، ولكن لا يلزم من ذلك حلول حياة فيهما إذ يكونان ساقهما سائق، ولكن في قوله: « انقادا علي بإذن الله » ما يدل على حصول شعور منهما لمخاطبته ولا سيما مع امتثالهما ما أمرهما به.
قال: وأمر عذقا من نخلة أن ينزل فنزل يبقر في الأرض حتى وقف بين يديه فقال: « أتشهد أني رسول الله؟ » فشهد بذلك ثلاثا ثم عاد إلى مكانه، وهذا أليق وأظهر في المطابقة من الذي قبله، ولكن هذا السياق فيه غرابة.
والذي رواه الإمام أحمد وصححه الترمذي، ورواه البيهقي، والبخاري في التاريخ من رواية أبي ظبيان وحصين بن المنذر عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: بم أعرف أنك رسول الله؟
قال: « أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟ »
قال: نعم.
قال: فدعا العذق فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض فجعل ينقز حتى أتى رسول الله ﷺ ثم قال له: « إرجع » فرجع إلى مكانه.
فقال: أشهد أنك رسول الله، وآمن به.
هذا لفظ البيهقي وهو ظاهر في أن الذي شهد بالرسالة هو الأعرابي، وكان رجلا من بني عامر، ولكن في رواية البيهقي من طريق الأعمش عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: ما هذا الذي يقول أصحابك؟
قال: وحول رسول الله - ﷺ أعذاق وشجر -.
فقال: « هل لك أن أريك آية؟ »
قال: نعم.
فدعا غصنا منها فأقبل يخد الأرض حتى وقف بين يديه وجعل يسجد ويرفع رأسه، ثم أمره فرجع.
قال: فرجع العامري وهو يقول: يا آل عامر بن صعصعة: والله لا أكذبه بشيء يقوله أبدا.
وتقدم فيما رواه الحاكم في مستدركه متفردا به عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ دعا رجلا إلى الإسلام، فقال: هل من شاهد على ما تقول؟
قال: « هذه الشجرة » فدعاها رسول الله - ﷺ - وهي على شاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خدا، فقامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم إنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه وقال: إن يتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك وكنت معك.
قال: وأما حنين الجذع الذي كان يخطب إليه النبي ﷺ فعمل له المنبر، فلما رقي عليه وخطب حن الجذع إليه حنين العشار والناس يسمعون بمشهد الخلق يوم الجمعة، ولم يزل يئن ويحن حتى نزل إليه النبي ﷺ فاعتنقه وسكنه وخيره بين أن يرجع غصنا طريا، أو يغرس في الجنة يأكل منه أولياء الله، فاختار الغرس في الجنة وسكن عند ذلك، فهو حديث مشهور معروف قد رواه من الصحابة عدد كثير متواتر وكان بحضور الخلائق.
وهذا الذي ذكره من تواتر حنين الجذع كما قال فإنه قد روى هذا الحديث جماعة من الصحابة، وعنهم أعداد من التابعين، ثم من بعدهم آخرون عنهم لا يمكن تواطؤهم على الكذب فهو مقطوع به في الجملة، وأما تخيير الجذع كما ذكره شيخنا فليس بمتواتر بل ولا يصح إسناده، وقد أوردته في الدلائل عن أبي بن كعب.
وذكر في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه، وعن أنس من خمس طرق إليه صحح الترمذي إحداها، وروى ابن ماجه أخرى، وأحمد ثالثة، والبزار رابعة، وأبو نعيم خامسة.
وعن جابر بن عبد الله في صحيح البخاري من طريقين عنه، والبزار من ثالثة، ورابعة، وأحمد من خامسة، وسادسة، وهذه على شرط مسلم.
وعن سهل بن سعد في مصنف ابن أبي شيبة على شرط الصحيحين، وعن ابن عباس في مسند أحمد، وسنن ابن ماجه بإسناد على شرط مسلم، وعن ابن عمر في صحيح البخاري.
ورواه أحمد من وجه آخر عن ابن عمر، وعن أبي سعيد في مسند عبد بن حميد بإسناد على شرط مسلم.
وقد رواه يعلى الموصلي من وجه آخر عنه.
وعن عائشة رواه الحافظ أبو نعيم من طريق علي بن أحمد الخوارزمي، عن قبيصة بن حبان بن علي، عن صالح بن حبان، عن عبد الله ابن بريدة، عن عائشة فذكر الحديث بطوله وفيه أنه خيره بين الدنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة، وغار حتى ذهب فلم يعرف، وهذا غريب إسنادا ومتنا.
وعن أم سلمة رواه أبو نعيم بإسناد جيد، وقدمت الأحاديث ببسط أسانيدها، وتحرير ألفاظها، وغررها بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا، ومن تدبرها حصل له القطع بذلك ولله الحمد والمنة.
قال القاضي عياض بن موسى السبتي المالكي في كتابه الشفا وهو حديث مشهور متواتر خرجه أهل الصحيح، ورواه من الصحابة بضعة عشر منهم أبي وأنس وبريدة، وسهل بن سعد، وابن عباس، وابن عمر، والمطلب ابن أبي وداعة، وأبو سعيد، وأم سلمة - رضي الله عنهم أجمعين -.
قال شيخنا: فهذه جمادات ونباتات وقد حنت وتكلمت وفي ذلك ما يقابل انقلاب العصا حية.
قلت: وسنشير إلى هذا عند ذكر معجزات عيسى عليه السلام في إحيائه الموتى بإذن الله تعالى، في ذلك كما رواه البيهقي عن الحاكم، عن أبي أحمد ابن أبي الحسن، عن عبد الرحمن ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عمرو بن سوار قال: قال لي الشافعي: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا ﷺ.
فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى.
فقال: أعطى محمد الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيء له المنبر، فلما هيء له حن الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك.
وهذا إسناد صحيح إلى الشافعي رحمه الله وهو مما كنت أسمع شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي رحمه الله يذكره عن الشافعي رحمه الله وأكرم مثواه وإنما قال: فهذا أكبر من ذلك، لأن الجذع ليس محلا للحياة ومع هذا حصل له شعور ووجد لما تحول عنه إلى المنبر، فأن وحن حنين العشار حتى نزل إليه رسول الله ﷺ فاحتضنه وسكنه حتى سكن.
قال الحسن البصري: فهذا الجذع حن إليه فإنهم أحق أن يحنوا إليه.
وأما عود الحياة إلى جسد كانت فيه بإذن الله فعظيم، وهذا أعجب وأعظم من إيجاد حياة وشعور في محل ليس مألوفا لذلك لم تكن فيه قبل بالكلية، فسبحان الله رب العالمين.
تنبيه: وقد كان لرسول الله ﷺ لواء يحمل معه في الحرب يخفق في قلوب أعدائه مسيرة شهر بين يديه، وكانت له عنزة تحمل بين يديه، فإذا أراد الصلاة إلى غير جدار ولا حائل ركزت بين يديه، وكان له قضيب يتوكأ عليه إذا مشى وهو الذي عبر عنه سطيح في قوله لابن أخيه عبد المسيح بن نفيلة: يا عبد المسيح إذا أكثرت التلاوة وظهر صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوه، فليست الشام لسطيح شاما، ولهذا كان ذكر هذه الأشياء عند إحياء عصا موسى وجعلها حية أليق إذ هي مساوية لذلك، وهذه متعددة في محال متفرقة بخلاف عصا موسى فإنها وإن تعدد جعلها حية فهي ذات واحدة، والله أعلم.
ثم ننبه على ذلك عند ذكر إحياء الموتى على يد عيسى لأن هذه أعجب وأكبر، وأظهر وأعلم.
قال شيخنا: وأما أن الله كلم موسى تكليما فقد تقدم حصول الكلام للنبي ﷺ ليلة الإسراء مع الرؤية وهو أبلغ، هذا أورده فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه السلام ليلة الإسراء فيشهد له فنوديت: يا محمد قد كلفت فريضتين، وخففت عن عبادي، وسياق بقية القصة يرشد إلى ذلك.
وقد حكى بعض العلماء الإجماع على ذلك، لكن رأيت في كلام القاضي عياض نقل خلاف فيه والله أعلم.
وأما الرؤية ففيها خلاف مشهور بين الخلف، والسلف، ونصرها من الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المشهور بإمام الأئمة، واختار ذلك القاضي عياض، والشيخ محيي الدين النووي.
وجاء عن ابن عباس تصديق الرؤية، وجاء عنه تفنيدها، وكلاهما في صحيح مسلم.
وفي الصحيحين عن عائشة إنكار ذلك، وقد ذكرنا في الإسراء: عن ابن مسعود، وأبي هريرة، وأبي ذر، وعائشة - رضي الله عنهم - أن المرئي في المرتين المذكورتين في أول سورة النجم إنما هو جبريل عليه السلام.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟
فقال: « نورا لي أراه ».
وفي رواية: « رأيت نورا ».
وقد تقدم بسط ذلك في الإسراء في السيرة، وفي التفسير في أول سورة بني إسرائيل، وهذا الذي ذكره شيخنا فيما يتعلق بالمعجزات الموسوية - عليه أفضل الصلاة والسلام -.
وأيضا فإن الله تعالى كلم موسى وهو بطور سينا وسأل الرؤية فمنعها، وكلم محمدا ﷺ ليلة الإسراء وهو بالملأ الأعلى حين رفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام، وحصلت له الرؤية في قول طائفة كبيرة من علماء السلف والخلف والله أعلم.
ثم رأيت ابن حامد قد طرق هذا في كتابه وأجاد وأفاد، وقال ابن حامد: قال الله تعالى لموسى: { وألقيت عليك محبة مني } [طه: 39] .
وقال لمحمد ﷺ: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم }. [آل عمران: 31] .
وأما اليد التي جعلها الله برهانا وحجة لموسى على فرعون وقومه كما قال تعالى بعد ذكر صيرورة العصا حية: { اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه } [القصص: 32] .
وقال في سورة طه: { آية أخرى * لنريك من آياتنا الكبرى } [طه: 23] .
فقد أعطى الله محمدا انشقاق القمر بإشارته إليه فرقتين فرقة من وراء جبل حراء، وأخرى أمامه كما تقدم بيان ذلك بالأحاديث المتواترة، مع قوله تعالى: { اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } [القمر: 1-2] .
ولا شك أن هذا أجل وأعظم وأبهر في المعجزات وأعم وأظهر وأبلغ من ذلك.
وقد قال كعب بن مالك في حديثه الطويل في قصة توبته: وكان رسول الله ﷺ إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر، وذلك في صحيح البخاري.
وقال ابن حامد: قالوا: فإن موسى أعطي اليد البيضاء.
قلنا لهم: فقد أعطي محمد ﷺ ما هو أفضل من ذلك نورا كان يضيء عن يمينه حيث ما جلس، وعن يساره حيث ما جلس، وقام يراه الناس كلهم وقد بقي ذلك النور إلى قيام الساعة، ألا ترى أنه يرى النور الساطع من قبره ﷺ من مسيرة يوم وليلة.
هذا لفظه وهذا الذي ذكره من هذا النور غريب جدا، وقد ذكرنا في السيرة عند إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي أنه طلب من النبي ﷺ آية تكون له عونا على إسلام قومه من بيته هناك فسطع نور بين عينيه كالمصباح.
فقال: اللهم في غير هذا الموضع فإنهم يظنونه مثله، فتحول النور إلى طرف سوطه، فجعلوا ينظرون إليه كالمصباح فهداهم الله على يديه ببركة رسول الله ﷺ وبدعائه لهم في قوله: « اللهم إهد دوسا وآت بهم ».
وكان يقال للطفيل: ذو النور لذلك.
وذكر أيضا حديث أسيد بن حضير، وعباد بن بشر في خروجهما من عند النبي ﷺ في ليلة مظلمة فأضاء لهما طرف عصا أحدهما، فلما افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف عصاه وذلك في صحيح البخاري وغيره.
وقال أبو زرعة الرازي في كتاب دلائل النبوة: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت بن أنس بن مالك أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي ﷺ في ليلة ظلماء حندس، فأضاءت عصا أحدهما مثل السراج وجعلا يمشيان بضوئها، فلما تفرقا إلى منزلهما أضاءت عصا ذا، وعصا ذا.
ثم روي عن إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن العوام، وعن يعقوب بن حميد المدني كلاهما، عن سفيان بن حمزة بن يزيد الأسلمي، عن كثير بن زيد، عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي، عن أبيه قال: سرنا في سفر مع رسول الله ﷺ في ليلة ظلماء دحمسة فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم وما هلك منهم، وإن أصابعي لتستنير.
وروى هشام بن عمار في البعث حدثنا عبد الأعلى بن محمد البكري، حدثنا جعفر بن سليمان البصري، حدثنا أبو التياح الضبعي قال: كان مطرف بن عبد الله يبدر فيدخل كل جمعة فربما نور له في سوطه، فأدلج ذات ليلة وهو على فرسه حتى إذا كان عند المقابر هدم به، قال: فرأيت صاحب كل قبر جالسا على قبره فقال: هذا مطرف يأتي الجمعة.
فقلت لهم: وتعلمون عندكم يوم الجمعة؟
قالوا: نعم، ونعلم ما يقول فيه الطير.
قلت: وما يقول فيه الطير؟
قالوا: يقول: رب سلم سلم قوم صالح.
وأما دعاؤه عليه السلام بالطوفان وهو الموت الذريع في قول، وما بعده من الآيات، والقحط، والجدب، فإنما كان ذلك لعلهم يرجعون إلى متابعته، ويقلعون عن مخالفته فما زادهم إلا طغيانا كبيرا.
قال الله تعالى: { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا ياأيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون } [الزخرف: 48-49] .
{ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل * فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون * فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين } [الأعراف: 132-136] .
وقد دعا رسول الله ﷺ على قريش حين تمادوا على مخالفته بسبع كسبع يوسف، فقحطوا حتى أكلوا كل شيء، وكان أحدهم يرى بينه وبين السماء مثل الدخان من الجوع.
وقد فسر ابن مسعود قوله تعالى: { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين } [الدخان: 10] .
بذلك كما رواه البخاري عنه في غير ما موضع من صحيحه، ثم توسلوا إليه - صلوات الله وسلامه عليه - بقرابتهم منه، مع أنه بعث بالرحمة والرأفة، فدعا لهم فأقلع عنهم، ورفع عنهم العذاب، وأحيوا بعد ما كانوا أشرفوا على الهلكة.
وأما فلق البحر لموسى عليه السلام حين أمره الله تعالى حين تراءى الجمعان أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم فإنه معجزة عظيمة باهرة، وحجة قاطعة قاهرة، وقد بسطنا ذلك في التفسير وفي قصص الأنبياء من كتابنا هذا.
وفي إشارته ﷺ بيده الكريمة إلى قمر السماء فانشق القمر فلقتين وفق ما سأله قريش وهم معه جلوس في ليلة البدر أعظم آية وأيمن دلالة، وأوضح حجة وأبهر برهان على نبوته وجاهه عند الله تعالى، ولم ينقل معجزة عن نبي من الأنبياء من الآيات الحسيات أعظم من هذا كما قررنا ذلك بأدلته من الكتاب والسنة في التفسير في أول البعثة وهذا أعظم من حبس الشمس قليلا ليوشع بن نون حتى تمكن من الفتح ليلة السبت، كما سيأتي في تقرير ذلك مع ما يناسب ذكره عنده.
وقد تقدم من سيرة العلاء بن الحضرمي، وأبي عبيد الثقفي، وأبي مسلم الخولاني وسير الجيوش التي كانت معهم على تيار الماء ومنها دجلة وهي جارية عجاج تقذف الخشب من شدة جريها.
وتقدم تقرير أن هذا أعجب من فلق البحر لموسى من عدة وجوه والله أعلم.
وقال ابن حامد: فإن قالوا: فإن موسى عليه السلام ضرب بعصاه البحر فانفلق فكان ذلك آية لموسى عليه السلام.
قلنا: فقد أوتي رسول الله ﷺ مثلها، قال علي رضي الله عنه: لما خرجنا إلى خيبر فإذا نحن بواد سحب وقدرناه فإذا هو أربع عشرة قامة.
فقالوا: يا رسول الله العدو من ورائنا والوادي من أمامنا، كما قال أصحاب موسى: إنا لمدركون، فنزل رسول الله ﷺ فعبرت الخيل لا تبدي حوافرها، والإبل لا تبدي أخفافها، فكان ذلك فتحا وهذا الذي ذكره بلا إسناد، ولا أعرفه في شيء من الكتب المعتمدة بإسناد صحيح ولا حسن بل ضعيف فالله أعلم.
وأما تظليله بالغمام في التيه فقد تقدم ذكر حديث الغمامة التي رآها بحيرا تظله من بين أصحابه وهو ابن اثنتي عشرة سنة، صحبة عمه أبي طالب وهو قادم إلى الشام في تجارة، وهذا أبهر من جهة أنه كان وهو قبل أن يوحى إليه وكانت الغمامة تظلله وحده من بين أصحابه، فهذا أشد في الاعتناء وأظهر من غمام بني إسرائيل وغيرهم.
وأيضا فإن المقصود من تظليل الغمام إنما كان لاحتياجهم إليه من شدة الحر، وقد ذكرنا في الدلائل حين سئل النبي ﷺ أن يدعو لهم ليسقوا لما هم عليه من الجوع والجهد والقحط فرفع يديه وقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا ».
قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار فأنشأن من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت.
قال أنس: فلا والله ما رأينا الشمس سبتنا، ولما سألوه أن يستصحي لهم رفع يده وقال: « اللهم حوالينا ولا علينا » فما جعل يشير بيديه إلى ناحية إلا انحاز السحاب إليها حتى صارت المدينة مثل الإكليل يمطر ما حولها ولا تمطر.
فهذا تظليل عام محتاج إليه آكد من الحاجة إلى ذلك، وهو أنفع منه والتصرف فيه، وهو يشير أبلغ في المعجز، وأظهر في الإعتناء والله أعلم.
وأما إنزال المن والسلوى عليهم فقد كثر رسول الله ﷺ الطعام والشراب في غير ما موطن كما تقدم بيانه في دلائل النبوة من إطعام الجم الغفير من الشيء اليسير كما أطعم يوم الخندق من شويهة جابر بن عبد الله وصاعه الشعير أزيد من ألف نفس جائعة - صلوات الله وسلامه عليه - دائما إلى يوم الدين، وأطعم من حفنة قوما من الناس وكانت تمد من السماء إلى غير ذلك من هذا القبيل مما يطول ذكره.
وقد ذكر أبو نعيم وابن حامد أيضا هاهنا أن المراد بالمن والسلوى إنما هو رزق رزقوه من غير كد منهم ولا تعب، ثم أورد في مقابلته حديث تحليل المغنم ولا يحل لأحد قبلنا، وحديث جابر في سيره إلى عبيدة وجوعهم حتى أكلوا الخبط، فحسر البحر لهم عن دابة تسمى العنبر فأكلوا منها ثلاثين من يوم وليلة حتى سمنوا وتكسرت عكن بطونهم، والحديث في الصحيح كما تقدم وسيأتي عند ذكر المائدة في معجزات المسيح بن مريم.