البداية والنهاية/الجزء السادس/باب تكثيره عليه السلام الأطعمة
تكثيره اللبن في مواطن أيضا:
قال الإمام أحمد: ثنا روح، ثنا عمر بن ذر عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: والله إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله - عز وجل - وما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمر عمر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليستتبعني فلم يفعل، فمر أبو القاسم ﷺ فعرف ما في وجهي، وما في نفسي فقال أبا هريرة: قلت له: لبيك يا رسول الله.
فقال: « إلحق » واستأذنت فأذن لي، فوجدت لبنا في قدح قال: « من أين لكم هذا اللبن؟ »
فقالوا: أهداه لنا فلان، أو آل فلان.
قال: « أبا هر ».
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: « انطلق إلى أهل الصفة فادعهم لي ».
قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لم يأووا إلى أهل ولا مال، إذا جاءت رسول الله ﷺ هدية، أصاب منها وبعث إليهم منها، وإذا جاءته الصدقة أرسل بها إليهم ولم يصب منها.
قال: وأحزنني ذلك، وكنت أرجو أن أصيب من اللبن شربة أتقوى بها بقية يومي وليلتي.
وقلت: أنا الرسول، فإذا جاء القوم كنت أنا الذي أعطيهم.
وقلت: ما يبقى لي من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد، فانطلقت فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت ثم قال: « أبا هر خذ فأعطهم ».
فأخذت القدح فجعلت أعطيهم، فيأخذ الرجل القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد القدح، حتى أتيت على آخرهم، ودفعت إلى رسول الله ﷺ فأخذ القدح فوضعه في يده، وبقي فيه فضلة، ثم رفع رأسه ونظر إلي وتبسم وقال: « أبا هر ».
فقلت: لبيك رسول الله.
قال: « بقيت أنا وأنت ».
فقلت: صدقت يا رسول الله.
قال: « فاقعد فاشرب ».
قال: فقعدت فشربت.
ثم قال لي: « إشرب » فشربت.
فما زال يقول لي: « إشرب » فأشرب، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له في مسلكا.
قال: « ناولني القدح » فرددت إليه القدح فشرب من الفضلة.
ورواه البخاري عن أبي نعيم، وعن محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، وأخرجه الترمذي عن عباد بن يونس بن بكير، ثلاثتهم عن عمر بن ذر.
وقال الترمذي: صحيح.
وقال الإمام أحمد: ثنا أبوبكر ابن عياش، حدثني عن زر، عن ابن مسعود قال: كنت أرعى غنما لعقبة ابن أبي معيط فمر بي رسول الله ﷺ وأبو بكر فقال: « يا غلام هل من لبن؟ »
قال: فقلت: نعم، ولكني مؤتمن.
قال: « فهل من شاة لم ينز عليها الفحل؟ »
فأتيته بشاة، فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: « أقلص » فقلص.
قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول.
قال: فمسح رأسي وقال: « يا غلام يرحمك الله، فإنك عليم معلم ».
ورواه البيهقي من حديث أبي عوانة عن عاصم، عن أبي النجود، عن زر، عن ابن مسعود وقال فيه: فأتيته بعناق جذعة فاعتقلها، ثم جعل يمسح ضرعها ويدعو، وأتاه أبو بكر بجفنة فحلب فيها وسقى أبا بكر، ثم شرب ثم قال للضرع: « أقلص » فقلص.
فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، فمسح رأسي وقال: « إنك غلام معلم » فأخذت عنه سبعين سورة ما نازعنيها بشر.
وتقدم في الهجرة حديث أم معبد وحلبه عليه السلام شاتها وكانت عجفاء لا لبن لها، فشرب هو وأصحابه، وغادر عندها إناء كبيرا من لبن، حتى جاء زوجها.
وتقدم في ذكر من كان يخدمه من غير مواليه عليه السلام المقداد بن الأسود حين شرب اللبن الذي كان قد جاء لرسول الله ﷺ، ثم قام في الليل ليذبح له شاة، فوجد لبنا كثيرا، فحلب ما ملأ منه إناء كبيرا جدا، الحديث.
وقال أبو داود الطيالسي: ثنا زهير عن أبي إسحاق، عن ابنة حباب أنها أتت رسول الله ﷺ بشاة فاعتقلها وحلبها فقال: « إئتني بأعظم إناء لكم » فأتيناه بجفنة العجين، فحلب فيها حتى ملأها ثم قال: « اشربوا أنتم وجيرانكم ».
وقال البيهقي: أنا أبو الحسين بن بشران ببغداد، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، أنا محمد بن الفرج الأزرق، ثنا عصمة بن سليمان الخزار، ثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم الرماني، عن نافع - وكانت له صحبة - قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر وكنا زهاء أربعمائة، فنزلنا في موضع ليس فيه ماء فشق ذلك على أصحابه وقالوا: رسول الله ﷺ أعلم.
قال: فجاءت شويهة لها قرنان فقامت بين يدي رسول الله -ﷺ -، فحلبها فشرب حتى روي، وسقى أصحابه حتى رووا ثم قال: « يا نافع املكها الليلة وما أراك تملكها ».
قال: فأخذتها فوتدت لها وتدا، ثم ربطتها بحبل، ثم قمت في بعض الليل فلم أر الشاة، ورأيت الحبل مطروحا، فجئت رسول الله فأخبرته من قبل أن يسألني وقال: « يا نافع ذهب بها الذي جاء بها ».
قال البيهقي: ورواه محمد بن سعد عن خلف بن الوليد أبي الوليد الأزدي، عن خلف بن خليفة، عن أبان وهذا حديث غريب جدا إسنادا ومتنا.
ثم قال البيهقي: أنا أبو سعيد الماليني، أنا أبو أحمد بن عدي، أنا ابن العباس بن محمد بن العباس، ثنا أحمد بن سعيد ابن أبي مريم، ثنا أبو حفص الرياحي، ثنا عامر ابن أبي عامر الخزاز عن أبيه، عن الحسن، عن سعد - يعني: مولى أبي بكر - قال: قال رسول الله ﷺ: « احلب لي العنز ».
قال: وعهدي بذلك الموضع لا عنز فيه.
قال: فأتيت فإذا العنز حافل.
قال: فاحتلبتها واحتفظت بالعنز، وأوصيت بها قال: فاشتغلنا بالرحلة ففقدت العنز.
فقلت: يا رسول الله قد فقدت العنز.
فقال: « إن لها ربا ».
وهذا أيضا حديث غريب جدا إسنادا ومتنا، وفي إسناده من لا يعرف حاله، وسيأتي حديث الغزالة في قسم ما يتعلق من المعجزات بالحيوانات.