البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التميمي
كان قد صانع سجاح حين قدمت من أرض الجزيرة فلما اتصلت بمسيلمة - لعنهما الله - ثم ترحلت إلى بلادها، فلما كان ذلك ندم مالك بن نويرة على ما كان من أمره، وتلوم في شأنه وهو نازل بمكان يقال له: البطاح، فقصدها خالد بجنوده وتأخرت عنه الأنصار وقالوا: إنا قد قضينا ما أمرنا به الصديق.
فقال لهم خالد: إن هذا أمر لابد من فعله وفرصة لا بد من انتهازها وإنه لم يأتني فيها كتاب وأنا الأمير، وإلي ترد الأخبار، ولست بالذي أجبركم على المسير، وأنا قاصد البطاح فسار يومين، ثم لحقه رسول الأنصار يطلبون منه الانتظار فلحقوا به، فلما وصل البطاح وعليها مالك بن نويرة فبث خالد السرايا في البطاح يدعون الناس فاستقبله أمراء بني تميم بالسمع والطاعة وبذلوا الزكوات إلا ما كان من مالك بن نويرة فإنه متحير في أمره، متنح عن الناس فجاءته السرايا فأسروه وأسروا معه أصحابه، واختلفت السرية فيهم فشهد أبو قتادة الحرث بن ربعي الأنصاري أنهم أقاموا الصلاة، وقال آخرون: إنهم لم يؤذنوا ولا صلوا.
فيقال: إن الأسارى باتوا في كبولهم في ليلة شديدة البرد، فنادى منادي خالد: أن أدفئوا أسراكم، فظن القوم أنه أراد القتل فقتلوهم وقتل ضرار بن الأزور مالك بن نويرة، فلما سمع الداعية خرج وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه واصطفى خالد امرأة مالك بن نويرة وهي أم تميم ابنة المنهال وكانت جملية، فلما حلت بني بها، ويقال: بل استدعى خالد مالك بن نويرة فأنبه على ما صدر منه من متابعة سجاح، وعلى منعه الزكاة وقال: ألم تعلم أنها قرينة الصلاة؟
فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك.
فقال: أهو صاحبنا وليس بصاحبك يا ضرار إضرب عنقه، فضربت عنقه، وأمر برأسه فجعل مع حجرين وطبخ على الثلاثة قدرا فأكل منها خالد تلك الليلة ليرهب بذلك الأعراب من المرتدة وغيرهم.
ويقال: إن شعر مالك جعلت النار تعمل فيه إلى أن نضج لحم القدر، ولم تفرغ الشعر لكثرته.
وقد تكلم أبو قتادة مع خالد فيما صنع وتقاولا في ذلك حتى ذهب أبو قتادة فشكاه إلى الصديق، وتكلم عمر مع أبي قتادة في خالد وقال للصديق: إعزله فإن في سيفه رهقا.
فقال أبو بكر: لا أشيم سيفا سله الله على الكفار.
وجاء متمم بن نويرة فجعل يشكو إلى الصديق خالدا وعمر يساعده، وينشد الصديق ما قال في أخيه من المراثي، فوداه الصديق من عنده.
ومن قول متمم في ذلك:
وكنا كندمانى جذيمة برهة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا * لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وقال أيضا:
لقد لامني عند العبور على البكى * رفيقي لتذراف الدموع السوافك
وقال أتبكي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك
فقلت له إن الأسى يبعث الأسى * فدعني فهذا كله قبر مالك
والمقصود أنه لم يزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحرض الصديق ويذمره على عزل خالد عن الإمرة ويقول: إن في سيفه لرهقا، حتى بعث الصديق إلى خالد بن الوليد فقدم عليه المدينة وقد لبس درعه التي من حديد وقد صدئ من كثرة الدماء، وغرز في عمامته النشاب المضمخ بالدماء
فلما دخل المسجد قام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الأسهم من عمامة خالد فحطمها وقال: أرياء قتلت امرأ مسلما، ثم نزوت على امرأته، والله لارجمنك بالجنادل وخالد لا يكلمه ولا يظن إلا أن رأي الصديق فيه كرأي عمر، حتى دخل على أبي بكر فاعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه ما كان منه في ذلك، وودى مالك بن نويرة، فخرج من عنده وعمر جالس في المسجد فقال خالد: هلم إلي يا ابن أم شملة، فلم يرد عليه وعرف أن الصديق قد رضي عنه.
واستمر أبو بكر بخالد على الإمرة وإن كان قد اجتهد في قتل مالك بن نويرة وأخطأ في قتله كما أن رسول الله ﷺ لما بعثه إلى أبي جذيمة فقتل أولئك الأسارى الذين قالوا: صبأنا صبأنا، ولم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فوداهم رسول الله ﷺ حتى رد إليهم ميلغة الكلب، ورفع يديه وقال: « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد » ومع هذا لم يعزل خالدا عن الإمرة.