البداية والنهاية/الجزء السادس/القول فيما أعطي إدريس عليه السلام
من الرفعة التي نوه الله بذكرها فقال: « ورفعناه مكانا عليا ».
قال: والقول فيه أن نبينا محمدا ﷺ أعطي أفضل وأكمل من ذلك لأن الله تعالى رفع ذكره في الدنيا والآخرة فقال: { ورفعنا لك ذكرك } [الشرح: 4] .
فليس خطيب ولا شفيع ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقرن الله اسمه باسمه في مشارق الأرض ومغاربها، وذلك مفتاحا للصلاة المفروضة.
ثم أورد حديث ابن لهيعة عن دراج، عن أبي الهشيم، عن أبي سعيد، عن رسول الله ﷺ في قوله: { ورفعنا لك ذكرك }.
قال: قال جبريل: قال الله: « إذا ذكرت ذكرت ».
ورواه ابن جرير وابن أبي عاصم من طريق دراج، ثم قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، حدثنا موسى بن سهل الجوني، حدثنا أحمد بن القاسم بن بهرام الهيتي، حدثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء، عن الزهري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: « لما فرغت مما أمرني الله تعالى به من أمر السموات والأرض قلت: يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا قد كرمته، جعلت إبراهيم خليلا، وموسى كليما، وسخرت لداود الجبال، ولسليمان الريح والشياطين، وأحييت لعيسى الموتى، فما جعلت لي؟ قال: أوليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله أن لا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرؤون القرآن ظاهرا ولم أعطها أمة، وأنزلت عليك كلمة من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله ».
وهذا إسناد فيه غرابة ولكن أورد له شاهدا من طريق أبي القاسم ابن بنت منيع البغوي عن سليمان بن داود المهراني، عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا بنحوه.
وقد رواه أبو زرعة الرازي في كتاب دلائل النبوة بسياق آخر وفيه انقطاع فقال: حدثنا هشام بن عمار الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا شعيب بن زريق أنه سمع عطاء الخراساني يحدث عن أبي هريرة وأنس بن مالك، عن النبي ﷺ من حديث ليلة أسري به قال: « لما أراني الله من آياته فوجدت ريحا طيبة فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه الجنة، قلت: يا ربي إئتني بأهلي، قال الله تعالى: لك ما وعدتك كل مؤمن ومؤمنة لم يتخذ من دوني أندادا ومن أقرضني قربته، ومن توكل علي كفيته ومن سألني أعطيته، ولا ينقص نفقته ولا ينقص ما يتمنى، لك ما وعدتك، فنعم دار المتقين أنت، قلت: رضيت، فلما انتهينا إلى سدرة المنتهى خررت ساجدا فرفعت رأسي فقلت: يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وآتيت داود زبورا، وآتيت سليمان ملكا عظيما، قال: فإني قد رفعت لك ذكرك، ولا تجوز لأمتك خطبة حتى يشهدوا أنك رسولي، وجعلت قلوب أمتك أناجيل، وآتيتك خواتيم سورة البقرة من تحت عرشي ».
ثم روى من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية، عن أبي هريرة حديث الإسراء بطوله كما سقناه من طريق ابن جرير في التفسير، وقال أبو زرعة في سياقه: ثم لقي أرواح الأنبياء - عليهم السلام - فأثنوا على ربهم عز وجل فقال إبراهيم: الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا لله محياي ومماتي، وأنقذني من النار، وجعلها علي بردا وسلاما.
ثم إن موسى أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليما واصطفاني برسالته وبكلامه وقربني نجيا، وأنزل علي التوراة، وجعل هلاك فرعون على يدي.
ثم إن داود أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعلني ملكا وأنزل علي الزبور، وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن معه والطير، وآتاني الحكمة وفصل الخطاب.
ثم إن سليمان أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح والجن والإنس، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، وعلمني منطق الطير، وأسال لي عين القطر، وأعطاني ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي.
ثم إن عيسى أثنى على الله عز وجل فقال: الحمد لله الذي علمني التوراة والإنجيل، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، وطهرني ورفعني من الذين كفروا وأعاذني من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
ثم إن محمدا ﷺ أثنى على ربه فقال: « كلكم أثنى على ربه وأنا مثن على ربي، الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين، وكافة للناس بشيرا ونذيرا، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان كل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطا، وجعل أمتي هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لي صدري ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحا وخاتما ».
فقال إبراهيم: بهذا فضلكم محمد ﷺ.
ثم أورد إبراهيم الحديث المتقدم فيما رواه الحاكم والبيهقي من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن أسلم عن أبيه، عن عمر بن الخطاب مرفوعا في قول آدم: « يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي.
فقال الله: وما أدراك ولم أخلقه بعد.
فقال: لأني رأيت مكتوبا مع اسمك على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك.
فقال الله: صدقت يا آدم ولولا محمد ما خلقتك ».
وقال بعض الأئمة: رفع الله ذكره وقرنه باسمه في الأولين والآخرين، وكذلك يرفع قدره ويقيمه مقاما محمودا يوم القيامة يغبطه به الأولون والآخرون، ويرغب إليه الخلق كلهم حتى إبراهيم الخليل.
كما ورد في صحيح مسلم فيما سلف وسيأتي أيضا، فإن التنويه بذكره في الأمم الخالية والقرون السابقة.
ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به وليتبعنه ولينصرنه، وأمره أن يأخذ على أمته العهد والميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به وليتبعنه، وقد بشرت بوجوده الأنبياء حتى كان آخر من بشر به عيسى بن مريم خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكذلك بشرت به الأحبار والرهبان والكهان كما قدمنا ذلك مبسوطا.
ولما كانت ليلة الإسراء رفع من سماء إلى سماء حتى سلم على إدريس عليه السلام وهو في السماء الرابعة، ثم جاوزه إلى الخامسة، ثم إلى السادسة فسلم على موسى بها، ثم جاوزه إلى السابعة فسلم على إبراهيم الخليل عند البيت المعمور، ثم جاوز ذلك المقام فرفع لمستوى سمع فيه صريف الأقلام وجاء سدرة المنتهى ورأى الجنة والنار وغير ذلك من الآيات الكبرى، وصلى بالأنبياء، وشيعه من كل مقربوها، وسلم عليه رضوان خازن الجنان، ومالك خازن النار فهذا هو الشرف، وهذه هي الرفعة، وهذا هو التكريم والتنويه والإشهار والتقديم والعلو، والعظمة - صلوات الله وسلامه عليه - وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.
وأما رفع ذكره في الآخرين فإن دينه باق ناسخ لكل دين، ولا ينسخ هو أبد الآبدين، ودهر الداهرين إلى يوم الدين، ولا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة، والنداء في كل يوم خمس مرات على كل مكان مرتفع من الأرض: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وهكذا كل خطيب يخطب لا بد أن يذكره في خطبته وما أحسن قول حسان:
أغر عليه للنبوة خاتم * من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه * إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال الصرصري رحمه الله:
ألم تر أنا لا يصح أذاننا * ولا فرضنا إن لم نكرره فيهما