البداية والنهاية/الجزء السادس/باب حنين الجزع شوقا إلى رسول الله وشغفا من فراقه
وقد ورد من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان.
الحديث الأول عن أبي كعب:
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: أخبرني عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه قال: كان النبي ﷺ يصلي إلى جذع نخلة إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع.
فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هل لك أن نجعل لك منبرا تقوم عليه يوم الجمعة فتسمع الناس خطبتك؟
قال: « نعم ».
فصنع له ثلاث درجات هن اللاتي على المنبر، فلما صنع المنبر ووضع موضعه الذي وضعه فيه رسول الله ﷺ بدا للنبي ﷺ أن يقوم على ذلك المنبر فيخطب عليه فمر إليه، فلما جاوز ذلك الجذع الذي كان يخطب إليه خار حتى تصدع وانشق، فنزل النبي ﷺ لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر، فلما هدم المسجد أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب - رضي الله تعالى عنه - فكان عنده حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا.
وهكذا رواه الإمام أحمد بن حنبل عن زكريا بن عدي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل، عن أبي بن كعب فذكره، وعنده فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر، وكان إذا صلى صلى إليه، والباقي مثله.
وقد رواه ابن ماجه عن إسمعيل بن عبد الله الرقي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي به.
الحديث الثاني عن أنس بن مالك:
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو خيثمة، ثنا عمرو بن يونس الحنفي، ثنا عكرمة بن عمار، ثنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب في المسجد يخطب الناس.
فجاءه رومي فقال: ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع له منبرا درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد نبي الله على المنبر خار كخوار الثور، ارتج لخواره حزنا على رسول الله، فنزل إليه رسول الله من المنبر فالتزمه وهو يخور فلما التزمه سكت.
ثم قال: « والذي نفس محمد بيده لو لم ألتزمه لما زال هكذا حتى يوم القيامة حزنا على رسول الله ».
فأمر به رسول الله ﷺ فدفن.
وقد رواه الترمذي عن محمود بن غيلان، عن عمر بن يونس به وقال: صحيح غريب من هذا الوجه.
طريق أخرى عن أنس:
قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: ثنا هدبة، ثنا حماد عن ثابت عن أنس، عن النبي ﷺ أنه كان يخطب إلى جذع نخلة فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن، فجاء رسول الله ﷺ حتى احتضنه فسكن وقال: « لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر ابن خلاد، عن بهز بن أسد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، وعن حماد، عن عمار ابن أبي عمار، عن ابن عباس به، وهذا إسناد على شرط مسلم.
طريق أخرى عن أنس:
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا المبارك عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله ﷺ إذا خطب يوم الجمعة يسند ظهره إلى خشبة، فلما كثر الناس قال: « ابنوا لي منبرا » - أراد أن يسمعهم - فبنوا له عتبتين فتحول من الخشبة إلى المنبر.
قال: فأخبر أنس بن مالك أنه سمع الخشبة تحن حنين الواله.
قال: فما زالت تحن حتى نزل رسول الله ﷺ عن المنبر فمشى إليها فاحتضنها فسكنت.
تفرد به أحمد.
وقد رواه أبو القاسم البغوي عن شيبان بن فروخ، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس فذكره.
وزاد: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله شوقا إليه لمكانه من الله فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
وقد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث الوليد بن مسلم عن سالم بن عبد الله الخياط، عن أنس بن مالك، فذكره.
طريق أخرى عن أنس:
قال أبو نعيم: ثنا أبو بكر ابن خلاد، ثنا الحارث بن محمد ابن أبي أسامة، ثنا يعلى بن عباد، ثنا الحكم عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ يخطب إلى جذع فحن الجذع فاحتضنه وقال: « لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».
الحديث الثالث عن جابر بن عبد الله:
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا عبد الواحد بن أيمن عن أبيه، عن جابر قال: كان رسول الله ﷺ يخطب إلى جذع نخلة.
قال: فقالت امرأة من الأنصار - وكان لها غلام نجار -: يا رسول الله إن لي غلاما نجارا أفآمره أن يتخذ لك منبرا تخطب عليه؟
قال: « بلى ».
قال: فاتخذ له منبرا.
قال: فلما كان يوم الجمعة خطب على المنبر.
قال: فأن الجذع الذي كان يقوم عليه كما يئن الصبي.
فقال النبي ﷺ: « إن هذا بكى لما فقد من الذكر » هكذا رواه أحمد.
وقد قال البخاري: ثنا عبد الواحد بن أيمن قال: سمعت أبي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة.
فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟
قال: « إن شئتم ».
فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي، ثم نزل النبي ﷺ فضمه إليه يئن أنين الصبي الذي يسكن.
قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.
وقد ذكره البخاري في غير ما موضع من صحيحه من حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه - وهو أيمن الحبشي المكي مولى ابن أبي عمرة المخزومي، عن جابر به.
طريق أخرى عن جابر:
قال البخاري: ثنا إسماعيل، حدثني أخي عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، حدثني حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك أنه سمع جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل، فكان النبي ﷺ إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي ﷺ فوضع يده عليها فسكنت.
تفرد به البخاري.
طريق أخرى عنه:
قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو المساور، ثنا أبو عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح - وهو ذكوان - عن جابر بن عبد الله، وعن إسحاق عن كريب، عن جابر قال: كانت خشبة في المسجد يخطب إليها النبي ﷺ.
فقالوا: لو اتخذنا لك مثل الكرسي تقوم عليه؟
ففعل، فحنت الخشبة كما تحن الناقة الحلوج فأتاه فاحتضنها فوضع يده عليها فسكنت.
قال أبو بكر البزار: وأحسب أنا قد حدثناه عن أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر، وعن أبي إسحاق عن كريب، عن جابر بهذه القصة التي رواها أبو المساور عن أبي عوانة، وحدثناه محمد بن عثمان بن كرامة، ثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد ابن أبي كريب، عن جابر، عن النبي ﷺ بنحوه.
والصواب إنما هو سعيد ابن أبي كريب، وكريب خطأ، ولا يعلم يروي عن سعيد ابن أبي كريب إلا أبا إسحاق.
قلت: ولم يخرجوه من هذا الوجه، وهو جيد.
طريق أخرى عن جابر:
قال الإمام أحمد: ثنا يحيى بن آدم، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن سعيد ابن أبي كريب، عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي ﷺ يخطب إلى خشبة، فلما جعل له منبر حنت حنين الناقة فأتاها فوضع يده عليها فسكنت.
تفرد به أحمد.
طريق أخرى عن جابر:
قال الحافظ أبو بكر البزار: ثنا محمد بن معمر، ثنا محمد بن كثير، ثنا سليمان بن كثير عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي ﷺ يقوم إلى جذع قبل أن يجعل له المنبر فلما جعل المنبر حن الجذع حتى سمعنا حنينه فمسح رسول الله ﷺ يده عليه فسكن.
قال البزار: لا نعلم رواه عن الزهري إلا سليمان بن كثير.
قلت: وهذا إسناد جيد رجاله على شرط الصحيح، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة.
وقال الحافظ أبو نعيم في الدلائل: ورواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن رجل سماه، عن جابر.
ثم أورده من طريق أبي عاصم بن علي: عن سليمان بن كثير، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن جابر مثله.
ثم قال: ثنا أبو بكر ابن خلاد، ثنا أحمد بن علي الخراز، حدثنا عيسى بن المساور، ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، عن يحيى ابن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن جابر أن رسول الله كان يخطب إلى جذع فلما بني المنبر حن الجذع فاحتضنه فسكن وقال: « لو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».
ثم رواه من حديث أبي عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر، وعن أبي إسحاق، عن كريب، عن جابر مثله.
طريق أخرى عن جابر:
قال الإمام أحمد: ثنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج وروح قال: حدثنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كان النبي ﷺ إذا خطب يستند إلى جذع نخلة من سواري المسجد، فلما صنع له منبره واستوى عليه فاضطربت تلك السارية كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل إليها رسول الله ﷺ فاعتنقها، فسكنت.
وقال روح: فسكتت، وهذا إسناد على شرط مسلم ولم يخرجوه.
طريق أخرى عن جابر:
قال الإمام أحمد: ثنا ابن أبي عدي عن سليمان، عن أبي نضرة، عن جابر قال: كان رسول الله ﷺ يقوم في أصل شجرة - أو قال: إلى جذع - ثم اتخذ منبرا.
قال: فحن الجذع.
قال جابر: حتى سمعه أهل المسجد حتى أتاه رسول الله ﷺ فمسحه فسكن.
فقال بعضهم: لو لم يأته لحن إلى يوم القيامة.
وهذا على شرط مسلم، ولم يروه إلا ابن ماجه عن بكير بن خلف، عن ابن أبي عدي، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطفة العبدي النضري، عن جابر به.
الحديث الرابع عن سهل بن سعد:
قال أبو بكر ابن أبي شيبة: ثنا سفيان بن عيينة عن أبي حازم قال: أتوا سهل بن سعد فقالوا: من أي شيء منبر رسول الله - ﷺ -؟
فقال: كان رسول الله - ﷺ - يستند إلى جذع في المسجد يصلي إليه إذا خطب، فلما اتخذ المنبر فصعد حن الجذع حتى أتاه رسول الله - ﷺ - فوطنه حتى سكن.
وأصل هذا الحديث في الصحيحين وإسناده على شرطهما.
وقد رواه إسحاق بن راهويه وابن أبي فديك عن عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده.
ورواه عبد الله بن نافع وابن وهب عن عبد الله بن عمر، عن ابن عباس بن سهل، عن أبيه فذكره.
ورواه ابن لهيعة عن عمارة بن عرفة، عن ابن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه بنحوه.
الحديث الخامس عن عبد الله بن عباس:
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا حماد عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، فلما اتخذ المنبر وتحول إليه حن عليه فأتاه فاحتضنه فسكن قال: « ولو لم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة ».
وهذا الإسناد على شرط مسلم، ولم يروه إلا ابن ماجه من حديث حماد بن سلمة.
الحديث السادس عن عبد الله بن عمر:
قال البخاري: ثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن كثير أبو غسان، ثنا أبو حفص - واسمه عمر بن العلاء أخو أبي عمرو بن العلاء - قال: سمعت نافعا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي ﷺ يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع فأتاه فمسح يده عليه.
وقال عبد الحميد: أنا عثمان بن عمر، أنا معاذ بن العلاء عن نافع بهذا.
ورواه أبو عاصم عن ابن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي ﷺ هكذا ذكره البخاري.
وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي الفلاس، عن عثمان بن عمرو ويحيى بن كثير، عن أبي غسان العنبري، كلاهما عن معاذ بن العلاء به وقال: حسن صحيح غريب.
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي في أطرافه: ورواه علي بن نصر بن علي الجهضمي، وأحمد بن خالد الخلال، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في آخرين عن عثمان بن عمر، عن معاذ بن العلاء قال: وعبد الحميد هذا - يعني: الذي ذكره البخاري - يقال: إنه عبد بن حميد، والله أعلم.
قال شيخنا: وقد قيل: إن قول البخاري عن أبي حفص - واسمه عمرو بن العلاء - وهم، والصواب معاذ ابن العلاء كما وقع في رواية الترمذي.
قلت: وليس هذا ثابتا في جميع النسخ، ولم أر في النسخ التي كتبت منها تسميته بالكلية، والله أعلم.
وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو نعيم من حديث عبد الله بن رجاء عن عبيد الله بن عمر، ومن حديث أبي عاصم عن ابن أبي رواد، كلاهما عن نافع عن ابن عمر قال: قال تميم الداري: ألا نتخذ لك منبرا فذكر الحديث.
طريق أخرى عن ابن عمر:
قال الإمام أحمد: ثنا حسين، ثنا خلف عن أبي خباب - وهو يحيى ابن أبي حية - عن أبيه، عن عبد الله بن عمر قال: كان جذع نخلة في المسجد يسند رسول الله ﷺ ظهره إليه إذا كان يوم جمعة، أو حدث أمر يريد أن يكلم الناس.
فقالوا: ألا نجعل لك يا رسول الله شيئا كقدر قيامك؟
قال: « لا عليكم أن تفعلوا »
فصنعوا له منبرا ثلاث مراقي.
قال: فجلس عليه.
قال: فخار الجذع كما تخور البقرة جزعا على رسول الله ﷺ فالتزمه ومسحه حتى سكن.
تفرد به أحمد.
الحديث السابع عن أبي سعيد الخدري:
قال عبد بن حميد الليثي: ثنا علي بن عاصم عن الجريري، عن أبي نضرة العبدي، حدثني أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله ﷺ يخطب يوم الجمعة إلى جذع نخلة.
فقال له الناس: يا رسول الله إنه قد كثر الناس - يعني: المسلمين - وإنهم ليحبون أن يروك فلو اتخذت منبرا تقوم عليه ليراك الناس.
قال: « نعم من يجعل لنا هذا المنبر؟ ».
فقام إليه رجل فقال: أنا.
قال: « تجعله »
قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله.
قال: « ما اسمك؟ »
قال: فلان.
قال: « أقعد »
فقعد، ثم عاد فقال: « من يجعل لنا هذا المنبر؟ »
فقام إليه رجل فقال: أنا.
فقال: « تجعله »
قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله.
قال: « ما اسمك؟ »
قال: فلان.
قال: « أقعد ».
فقعد، ثم عاد فقال: « من يجعل لنا هذا المنبر؟ »
فقام إليه رجل فقال: أنا.
قال: « تجعله؟ »
قال: نعم، ولم يقل إن شاء الله.
قال: « ما اسمك؟ »
قال: فلان.
قال: « أقعد »
فقعد، ثم عاد فقال: « من يجعل لنا هذا المنبر؟ »
فقام إليه رجل فقال: أنا.
قال: « تجعله؟ »
قال: نعم إن شاء الله.
قال: « ما اسمك؟ »
قال: إبراهيم.
قال: « اجعله »
فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس للنبي ﷺ في آخر المسجد فلما صعد رسول الله ﷺ المنبر فاستوى عليه فاستقبل الناس وحنت النخلة حتى أسمعتني وأنا في آخر المسجد.
قال: فنزل رسول الله ﷺ عن المنبر فاعتنقها فلم يزل حتى سكنت، ثم عاد إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: « إن هذه النخلة إنما حنت شوقا إلى رسول الله لما فارقها، فوالله لو لم أنزل إليها فأعتنقها لما سكنت إلى يوم القيامة ».
وهذا إسناد على شرط مسلم، ولكن في السياق غرابة، والله تعالى أعلم.
طريق أخرى عن أبي سعيد:
قال الحافظ أبو يعلى: ثنا مسروق بن المرزبان، ثنا زكريا عن مجالد عن أبي الوداك - وهو جبر بن نوف - عن أبي سعيد قال: كان النبي ﷺ يقوم إلى خشبة يتوكأ عليها يخطب كل جمعة، حتى أتاه رجل من الروم فقال: إن شئت جعلت لك شيئا إذا قعدت عليه كنت كأنك قائم؟
قال: « نعم »
قال: فجعل له المنبر فلما جلس عليه حنت الخشبة حنين الناقة على ولدها حتى نزل النبي ﷺ فوضع يده عليها، فلما كان الغد رأيتها قد حولت.
فقلنا: ما هذا؟
قالوا: جاء رسول الله - ﷺ - وأبو بكر وعمر البارحة فحولوها.
وهذا غريب أيضا.
الحديث الثامن عن عائشة رضي الله عنها:
رواه الحافظ من حديث علي بن أحمد الحوار عن قبيصة، عن حبان بن علي، عن صالح بن حبان، عن عبد الله بن بريدة، عن عائشة، فذكر الحديث بطوله، وفيه أنه خيره بين الدنيا والآخرة فاختار الجذع الآخرة وغار حتى ذهب فلم يعرف، هذا حديث غريب إسنادا ومتنا.
الحديث التاسع عن أم سلمة -رضي الله عنها -:
روى أبو نعيم من طريق شريك القاضي وعمرو ابن أبي قيس ومعلى بن هلال ثلاثتهم عن عمار الذهبي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة قالت: كان لرسول الله ﷺ خشبة يستند إليها إذا خطب، فصنع له كرسي أو منبر فلما فقدته خارت كما يخور الثور حتى سمع أهل المسجد، فأتاها رسول الله ﷺ فسكنت، هذا لفظ شريك.
وفي رواية معلى بن هلال: أنها كانت من دوم، وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.
وقد روى الإمام أحمد والنسائي من حديث عمار الذهبي عن أبي سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: « قوائم منبري في زاوية في الجنة ».
وروى النسائي أيضا بهذا الإسناد: « ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ».
فهذه الطرق من هذه الوجوه تفيد القطع بوقوع ذلك عند أئمة هذا الفن، وكذا من تأملها وأنعم فيها النظر والتأمل مع معرفته بأحوال الرجال وبالله المستعان.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو أحمد ابن أبي الحسن، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي قال: قال أبي - يعني أبا حاتم الرازي -: قال عمرو بن سواد: قال لي الشافعي: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا ﷺ.
فقلت له: أعطى عيسى إحياء الموتى.
فقال: أعطى محمدا الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيء له المنبر، فلما هيء له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك.