البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل في المعجزات الأرضية



فصل في المعجزات الأرضية


فمنها ما هو متعلق بالجمادات، ومنها ما هو متعلق بالحيوانات.

فمن المتعلق بالجمادات: تكثيره الماء في غير ما موطن على صفات متنوعة سنوردها بأسانيدها إن شاء الله، وبدأنا بذلك لأنه أنسب باتباع ما أسلفنا ذكره من استسقائه، وإجابة الله له.

قال البخاري: ثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة، عن أنس بن مالك قال: رأيت رسول الله وحانت صلاة العصر، والتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأتى رسول الله بوضوء، فوضع رسول الله يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا منه، فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم.

وقد رواه مسلم والترمذي، والنسائي من طرق عن مالك به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

طريق أخرى عن أنس:

قال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، ثنا حزم سمعت الحسن يقول: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله خرج ذات يوم لبعض مخارجه معه ناس من أصحابه فانطلقوا يسيرون فحضرت الصلاة فلم يجد القوم ما يتوضؤون به.

فقالوا: يا رسول الله ما نجد ما نتوضأ به، ورأى في وجوه أصحابه كراهية ذلك، فانطلق رجل من القوم فجاء بقدح من ماء يسير، فأخذ نبي الله فتوضأ منه، ثم مد أصابعه الأربع على القدح ثم قال: « هلموا فتوضؤوا » فتوضأ القوم حتى بلغوا فيما يريدون من الوضوء.

قال الحسن: سئل أنس كم بلغوا؟

قال: سبعين، أو ثمانين.

وهكذا رواه البخاري عن عبد الرحمن بن المبارك العنسي، عن حزم بن مهران القطيعي به.

طريق أخرى عن أنس:

قال الإمام أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد ويزيد قال: أنا حميد المعني عن أنس بن مالك قال: نودي بالصلاة فقام كل قريب الدار من المسجد، وبقي من كان أهله نائي الدار، فأتى رسول الله بمخضب من حجارة فصغر أن يبسط كفه فيه قال: فضم أصابعه.

قال: فتوضأ بقيتهم.

قال حميد: وسئل أنس كم كانوا؟

قال: ثمانين أو زيادة.

وقد روى البخاري عن عبد الله بن منير، عن يزيد بن هارون، عن حميد، عن أنس بن مالك قال: حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار من المسجد يتوضأ وبقي قوم، فأتى رسول الله بمخضب فيه ماء، فوضع كفه فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فضم أصابعه فوضعها في المخضب فتوضأ القوم كلهم جميعا.

قلت: كم كانوا؟

قال: كانوا ثمانين رجلا.

طريق أخرى عنه:

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا سعيد إملاء عن قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله كان بالزوراء فأتى بإناء فيه ماء لا يغمر أصابعه، فأمر أصحابه أن يتوضؤوا فوضع كفه في الماء، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه وأطراف أصابعه حتى توضأ القوم.

قال: فقلت لأنس: كم كنتم؟

قال: كنا ثلاثمائة.

وهكذا رواه البخاري عن بندار بن أبي عدي، ومسلم عن أبي موسى، عن غندر، كلاهما عن سعيد ابن أبي عروبة، وبعضهم يقول عن شعبة، والصحيح سعيد عن قتادة، عن أنس قال: أتي رسول الله بإناء وهو في الزوراء، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم.

قال قتادة: فقلت لأنس: كم كنتم؟

قال: ثلاثمائة، أو زهاء ثلاثمائة.

لفظ البخاري.

حديث البراء بن عازب في ذلك:

قال البخاري: ثنا مالك بن إسماعيل، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة، فجلس رسول الله على شفير البئر، فدعا بماء فمضمض ومج في البئر، فمكثنا غير بعيد، ثم استقينا حتى روينا وروت أو صدرت ركابنا.

تفرد به البخاري إسنادا ومتنا.

قال الإمام أحمد: حدثنا عفان وهاشم، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، حدثنا يونس - هو ابن عبيدة مولى محمد بن القاسم - عن البراء قال: كنا مع رسول الله في سفر، فأتينا على ركى ذمة - يعني: قليلة الماء - قال: فنزل فيها ستة أناس أنا سادسهم ماحة فأدليت إلينا دلو.

قال: ورسول الله على شفتي الركي، فجعلنا فيها نصفها، أو قراب ثلثيها، فرفعت إلى رسول الله .

قال البراء: فكدت بإنائي هل أجد شيئا أجعله في حلقي؟ فما وجدت فرفعت الدلو إلى رسول الله - -، فغمس يده فيها فقال ما شاء الله أن يقول، وأعيدت إلينا الدلو بما فيها.

قال: فلقد رأيت أحدنا أخرج بثوب خشية الغرق.

قال: ثم ساحت - يعني: جرت نهرا -.

تفرد به الإمام أحمد، وإسناده جيد قوي، والظاهر قصة أخرى غير يوم الحديبية، والله أعلم.

حديث آخر عن جابر في ذلك:

قال الإمام أحمد: ثنا سنان بن حاتم، ثنا جعفر - يعني: ابن سليمان -، ثنا الجعد أبو عثمان، ثنا أنس بن مالك عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: اشتكى أصحاب رسول الله -، - إليه العطش.

قال: فدعا بعس فصب فيه شيء من الماء، ووضع رسول الله يده فيه وقال: « استقوا ».

فاستقى الناس قال: فكنت أرى العيون تنبع من بين أصابع رسول الله .

تفرد به أحمد من هذا الوجه، وفي أفراد مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل عن أبي حرزة يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن جابر بن عبد الله في حديث طويل قال فيه: سرنا مع رسول الله حتى نزلنا واديا أفيح، فذهب رسول الله يقضي حاجته، فاتبعته بإداوة من ماء، فنظر رسول الله فلم ير شيئا يستتر به، وإذا بشجرتين بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: « انقادي علي بإذن الله ».

فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: « انقادي علي بإذن الله »

فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنتصف مما بينهما لأم بينهما - يعني جمعهما - فقال: « التئما علي بإذن الله » فالتأمتا.

قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله بقربي فيبتعد، فجلست أحدث نفسي، فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله وإذا بالشجرتين قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله وقف وقفة فقال برأسه هكذا يمينا وشمالا، ثم أقبل فلما انتهى إلي قال: « يا جابر هل رأيت مقامي؟ »

قلت: نعم يا رسول الله.

قال: « فانطلق إلى الشجرتين فاقطع من كل واحدة منهما غصنا، فأقبل بهما حتى إذا قمت مقامي فأرسل غصنا عن يمينك، وغصنا عن شمالك ».

قال جابر: فقمت فأخذت حجرا فكسرته وحددته فاندلق لي، فأتيت الشجرتين فقطعت من كل واحدة منهما غصنا، ثم أقبلت حتى قمت مقام رسول الله أرسلت غصنا عن يميني، وغصنا عن يساري، ثم لحقت فقلت: قد فعلت يا رسول الله.

قال: فقلت: فلم ذاك؟

قال: « إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرفع ذلك عنهما ما دام الغصنان رطبين ».

قال: فأتينا العسكر فقال رسول الله « يا جابر ناد الوضوء ».

فقلت: ألا وضوء، ألا وضوء، ألا وضوء ».

قال: قلت: يا رسول الله ما وجدت في الركب من قطرة، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله في أشجاب له على حمارة من جريد.

قال: فقال لي: « انطلق إلى فلان الأنصاري فانظر هل ترى في أشجابه من شيء؟ »

قال: فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها لو أني أفرغته لشربه يابسه.

قال: « إذهب فأتني » فأتيته فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدري ما هو وغمزني بيده، ثم أعطانيه فقال: « يا جابر ناد بجفنة ».

فقلت: يا جفنة الركب، فأتيت بها تحمل فوضعتها بين يديه.

فقال رسول الله بيده في الجفنة هكذا، فبسطها وفرق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة وقال: « خذ يا جابر فصب علي وقل: بسم الله »

فصببت عليه وقلت: بسم الله، فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله - ، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت.

فقال يا جابر: « ناد من كانت له حاجة بماء ».

قال: فأتى الناس فاستقوا حتى رووا.

فقلت: هل بقي أحد له حاجة؟

فرفع رسول الله يده من الجفنة وهي ملأى.

قال: وشكى الناس إلى رسول الله الجوع.

فقال: « عسى الله أن يطعمكم ».

فأتينا سيف البحر فزجر زجرة فألقى دابة، فأورينا على شقها النار فطبخنا واشتوينا، وأكلنا وشبعنا.

قال جابر: فدخلت أنا وفلان وفلان وفلان حتى عد خمسة في محاجر عينها ما يرانا أحد حتى خرجنا، وأخذنا ضلعا من أضلاعها فقوسناه، ثم دعونا بأعظم رجل في الركب، وأعظم حمل في الركب، وأعظم كفل في الركب، فدخل تحتها ما يطأطئ رأسه.

وقال البخاري: ثنا موسى بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن مسلم، ثنا حصين عن سالم ابن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي بين يديه ركوة بيضاء، فجهش الناس نحوه.

قال: « مالكم »؟

قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ، ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا.

قلت: كم كنتم؟

قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.

وهكذا رواه مسلم من حديث حصين، وأخرجاه من حديث الأعمش، زاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن جابر بن سالم، عن جابر.

وفي رواية الأعمش: كنا أربع عشرة مائة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن حماد، ثنا أبو عوانة عن الأسود بن قيس، عن شقيق العبدي أن جابر بن عبد الله قال: غزونا أو سافرنا مع رسول الله ونحن يومئذ بضع عشر ومائتان، فحضرت الصلاة فقال رسول الله : « هل في القوم من ماء؟ »

فجاءه رجل يسعى بإداوة فيها شيء من ماء.

قال: فصبه رسول الله في قدح.

قال: فتوضأ رسول الله فأحسن الوضوء، ثم انصرف وترك القدح، فركب الناس القدح تمسحوا وتمسحوا.

فقال رسول الله : « على رسلكم » حين سمعهم يقولون ذلك.

قال: فوضع رسول الله كفه في الماء، ثم قال رسول الله : « بسم الله » ثم قال: « أسبغوا الوضوء ».

قال جابر: فوالذي هو ابتلاني ببصري لقد رأيت العيون عيون الماء يومئذ تخرج من بين أصابع رسول الله ، فما رفعها حتى توضؤوا أجمعون.

وهذا إسناد جيد تفرد به أحمد، وظاهره كأنه قصة أخرى غير ما تقدم.

وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله ونحن أربع عشرة مائة، أو أكثر من ذلك، وعليها خمسون رأسا لا يرويها، فقعد رسول الله على شفا الركية فإما دعا وإما بصق فيها.

قال: فجاشت فسقينا واستقينا.

وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة، عن المسور ومروان بن الحكم في حديث صلح الحديبية الطويل: فعدل عنهم رسول الله حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه تبرضا، فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله العطش، فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه.

وقد تقدم الحديث بتمامه في صلح الحديبية، فأغنى عن إعادته.

وروى ابن إسحاق عن بعضهم أن الذي نزل بالسهم ناجية بن جندب سائق البدن قال: وقيل: البراء بن عازب، ثم رجح ابن إسحاق الأول.

حديث آخر عن ابن عباس في ذلك:

قال الإمام أحمد: ثنا حسين الأشقر، ثنا أبو كدينة عن عطاء، عن أبي الضحى، عن ابن عباس أصبح رسول الله ذات يوم وليس في العسكر ماء، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله ليس في العسكر ماء قال: « هل عندك شيء؟ »

قال: نعم.

قال: « فأتني ».

قال: فأتاه بإناء فيه شيء من ماء قليل.

قال: فجعل رسول الله أصابعه في فم الإناء وفتح أصابعه.

قال: فانفجرت من بين أصابعه عيون، وأمر بلالا فقال: « ناد في الناس الوضوء المبارك ».

تفرد به أحمد.

ورواه الطبراني من حديث عامر الشعبي عن ابن عباس بنحوه.

حديث عن عبد الله بن مسعود في ذلك

قال البخاري: ثنا محمد بن المثنى، ثنا أبو أحمد الزبيري، ثنا إسرائيل عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنا نعد الآيات بركة، وأنتم تعدونها تخويفا، كنا مع رسول الله في سفر فقل الماء.

فقال: « اطلبوا فضلة من ماء ».

فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: « حي على الطهور المبارك، والبركة من الله عز وجل ».

قال: فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.

ورواه الترمذي عن بندار، عن ابن أحمد وقال: حسن صحيح.

حديث عن عمران بن حصين في ذلك:

قال البخاري: ثنا أبو الوليد، ثنا مسلم بن زيد سمعت أبا رجاء قال: حدثنا عمران بن حصين أنهم كانوا مع رسول الله في مسير فأدلجوا ليلتهم، حتى إذا كان وجه الصبح عرسوا فغلبتهم أعينهم حتى ارتفعت الشمس، فكان أول من استيقظ من منامه أبو بكر، وكان لا يوقظ رسول الله من منامه حتى يستيقظ، فاستيقظ عمر، فقعد أبو بكر عند رأسه فجعل يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ النبي فنزل وصلى بنا الغداة، فاعتزل رجل من القوم لم يصل معنا، فلما انصرف قال: « يا فلان ما يمنعك أن تصلي معنا؟ ».

قال: أصابتني جنابة، فأمره أن يتيمم بالصعيد ثم صلى، وجعلني رسول الله في ركوب بين يديه، وقد عطشنا عطشا شديدا، فبينما نحن نسير مع رسول الله إذا نحن بامرأة سادلة رجليها بين مزادتين.

فقلنا لها: أين الماء؟

قالت: إنه لا ماء.

فقلنا: كم بين أهلك وبين الماء؟

قالت: يوم وليلة.

فقلنا: انطلقي إلى رسول الله .

قالت: وما رسول الله؟

فلم نملكها من أمرها حتى استقبلنا بها النبي - - فحدثته بمثل الذي حدثتنا غير أنها حدثته أنها موتمة، فأمر بمزادتها فمسح في العزلاوين فشربنا عطاشا أربعين رجلا حتى روينا، وملأنا كل قربة معنا وإداوة غير أنه لم نسق بعيرا، وهي تكاد تفضي من الملء.

ثم قال: « هاتوا ما عندكم » فجمع لها من الكسر والتمر حتى أتت أهلها.

قالت: أتيت أسحر الناس أو هو نبي كما زعموا.

فهدى الله ذاك الصرم بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا.

وكذلك رواه مسلم من حديث سلم بن رزين، وأخرجاه من حديث عوف الأعرابي، كلاهما عن رجاء العطاردي - واسمه عمران بن تيم - عن عمران بن حصين به.

وفي رواية لهما قال لها: « اذهبي بهذا معك لعيالك، واعلمي أنا لم نرزأك من مائك شيئا غير أن الله سقانا ».

وفيه أنه لما فتح العزلاوين سمى الله - عز وجل -.

حديث عن أبي قتادة في ذلك:

قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون، ثنا حماد بن سلمة عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة قال: كنا مع رسول الله في سفر فقال: « إنكم إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا ».

وانطلق سرعان الناس يريدون الماء، ولزمت رسول الله ، فمالت برسول الله راحلته فنعس رسول الله فدعمته فادعم، ثم مال فدعمته فادعم، ثم مال حتى كاد أن ينجفل عن راحلته فدعمته فانتبه فقال: « من الرجل؟ »

فقلت: أبو قتادة.

قال: « منذ كم كان مسيرك؟ »

قلت: منذ الليلة.

قال: « حفظك الله كما حفظت رسوله ».

ثم قال: « لو عرسنا » فمال إلى شجرة فنزل فقال: « أنظر هل ترى أحدا؟ ».

قلت: هذا راكب، هذان راكبان، حتى بلغ سبعة.

فقال: « احفظوا علينا صلاتنا ».

فنمنا فما أيقظنا إلا حر الشمس فانتبهنا، فركب رسول الله فسار وسرنا هنيهة، ثم نزل فقال: « أمعكم ماء؟ »

قال: قلت: نعم معي ميضأة فيها شيء من ماء.

قال: « إئت بها ».

قال: فأتيته بها.

فقال: « مسوا منها، مسوا منها ».

فتوضأ القوم وبقيت جرعة فقال: « ازدهر بها يا أبا قتادة فإنه سيكون لها نبأ ».

ثم أذن بلال وصلوا الركعتين قبل الفجر، ثم صلوا الفجر، ثم ركب وركبنا فقال: بعضهم لبعض فرطنا في صلاتنا.

فقال رسول الله : « ما تقولون إن كان أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان أمر دينكم فإلي ».

قلنا: يا رسول الله فرطنا في صلاتنا.

فقال: « لا تفريط في النوم، إنما التفريط في اليقظة، فإن كان ذلك فصلوها ومن الغد وقتها ».

ثم قال: « ظنوا بالقوم ».

قالوا: إنك قلت بالأمس: « إن لا تدركوا الماء غدا تعطشوا » فالناس بالماء.

قال: فلما أصبح الناس وقد فقدوا نبيهم.

فقال بعضهم لبعض: إن رسول الله بالماء، وفي القوم أبو بكر وعمر فقالا: أيها الناس إن رسول الله لم يكن ليسبقكم إلى الماء ويخلفكم، وإن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا قالها ثلاثا، فلما اشتدت الظهيرة رفع لهم رسول الله .

فقالوا: يا رسول الله هلكنا عطشا، تقطعت الأعناق.

فقال: « لا هلك عليكم ».

ثم قال: « يا أبا قتادة إئت بالميضأة »

فأتيته بها فقال: « إحلل لي غمري » - يعني: قدحه - فحللته، فأتيته به فجعل يصب فيه ويسقي الناس، فازدحم الناس عليه.

فقال رسول الله : « يا أيها الناس أحسنوا الملأ، فكلكم سيصدر عن ري »

فشرب القوم حتى لم يبق غيري وغير رسول الله ، فصب لي فقال: « إشرب يا أبا قتادة ».

قال: قلت: إشرب أنت يا رسول الله.

قال: « إن ساقي القوم آخرهم ».

فشربت وشرب بعدي، وبقي في الميضأة نحو ما كان فيها، وهم يومئذ ثلاثمائة.

قال عبد الله: فسمعني عمران بن حصين وأنا أحدث هذا الحديث في المسجد الجامع، فقال: من الرجل؟

قلت: أنا عبد الله بن رباح الأنصاري.

قال: القوم أعلم بحديثهم، انظر كيف تحدث فإني أحد السبعة تلك الليلة.

فلما فرغت قال: ما كنت أحسب أحدا يحفظ هذا الحديث غيري.

قال حماد بن سلمة: وحدثنا حميد الطويل عن بكر بن عبد الله المزني، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الموصلي، عن النبي بمثله.

وزاد قال: كان رسول الله إذا عرس وعليه ليل توسد يمينه، وإذا عرس الصبح وضع رأسه على كفه اليمنى، وأقام ساعده.

وقد رواه مسلم عن شيبان بن فروخ، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن أبي قتادة الحرث بن ربعي الأنصاري بطوله، وأخرج من حديث حماد بن سلمة بسنده الأخير أيضا.

حديث آخر عن أنس يشبه هذا:

روى البيهقي من حديث الحافظ أبي يعلى الموصلي: ثنا شيبان، ثنا سعيد بن سليمان الضبعي، ثنا أنس بن مالك أن رسول الله جهز جيشا إلى المشركين فيهم أبو بكر فقال لهم: « جدوا السير فإن بينكم وبين المشركين ماء، إن يسبق المشركون إلى ذلك الماء شق على الناس وعطشتم عطشا شديدا أنتم ودوابكم ».

قال: وتخلف رسول الله في ثمانية أنا تاسعهم وقال لأصحابه: « هل لكم أن نعرس قليلا، ثم نلحق بالناس ».

قالوا: نعم يا رسول الله، فعرسوا فما أيقظهم إلا حر الشمس، فاستيقظ رسول الله واستيقظ أصحابه فقال لهم: « تقدموا واقضوا حاجاتكم » ففعلوا، ثم رجعوا إلى رسول الله .

فقال لهم: « هل مع أحد منكم ماء؟ »

قال رجل منهم: يا رسول الله معي ميضأة فيها شيء من ماء.

قال: « فجئ بها ».

فجاء بها، فأخذها نبي الله فمسحها بكفيه ودعا بالبركة فيها وقال لأصحابه: « تعالوا فتوضؤوا » فجاءوا وجعل يصب عليهم رسول الله حتى توضؤوا كلهم، فأذن رجل منهم وأقام، فصلى رسول الله لهم وقال لصاحب الميضأة: « ازدهر بميضأتك فسيكون لها شأن ».

وركب رسول الله قبل الناس وقال لأصحابه: « ما ترون الناس فعلوا؟ »

فقالوا: الله ورسوله أعلم.

فقال لهم: « فيهم أبو بكر، وعمر وسيرشد الناس ».

فقدم الناس وقد سبق المشركون إلى ذلك الماء، فشق ذلك على الناس وعطشوا عطشا شديدا ركابهم ودوابهم.

فقال رسول الله : « أين صاحب الميضأة؟ »

قالوا: هو هذا يا رسول الله.

قال: « جئني بميضأتك ».

فجاء بها وفيها شيء من ماء فقال لهم: « تعالوا فاشربوا » فجعل يصب لهم رسول الله ، حتى شرب الناس كلهم، وسقوا دوابهم وركابهم، وملأوا ما كان معهم من إداوة وقربة ومزادة، ثم نهض رسول الله وأصحابه إلى المشركين، فبعث الله ريحا فضرب وجوه المشركين، وأنزل الله نصره وأمكن من ديارهم، فقتلوا مقتلة عظيمة، وأسروا أسارى كثيرة، واستاقوا غنائم كثيرة، ورجع رسول الله والناس وافرين صالحين.

وقد تقدم قريبا عن جابر ما يشبه هذا، وهو في صحيح مسلم.

وقدمنا في غزوة تبوك ما رواه مسلم من طريق مالك عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل، فذكر حديث جمع الصلاة في غزوة تبوك إلى أن قال: وقال: - يعني رسول الله : « إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى ضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي ».

قال: فجئناها، وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك تبض بشيء، فسألهما رسول الله : « هل مسستما من مائها شيئا؟ »

قالا: نعم، فسبهما، وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا، حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله - - وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس ثم قال رسول الله - -: « يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانا ».

وذكرنا في باب الوفود من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن الحارث الصدائي في قصة وفادته، فذكر حديثا طويلا فيه.

ثم قلنا: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها واجتمعنا عليها، وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، وقد أسلمنا وكل من حولنا عدو، فادع الله لنا في بئرنا فيسعنا ماؤها، فنجتمع عليه ولا نتفرق، فدعا بسبع حصيات ففركهن بيده ودعا فيهن ثم قال: « اذهبوا بهذه الحصيات فإذا أتيتم البئر فألقوا واحدة، واحدة، واذكروا الله عز وجل ».

قال الصدائي: ففعلنا ما قال لنا فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر إلى قعرها - يعني: البئر -.

وأصل هذا الحديث في المسند، وسنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجه.

وأما الحديث بطوله ففي دلائل النبوة للبيهقي رحمه الله.

وقال البيهقي:

البداية والنهاية - الجزء السادس
باب آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يختص بها في حياته | باب في ترك الخاتم | ذكر سيفه عليه السلام | ذكر نعله التي كان يمشي فيها | صفة قدح النبي صلى الله عليه وسلم | المكحلة التي كان عليه السلام يكتحل منها | البردة | أفراسه ومراكيبه عليه الصلاة والسلام | فصل إيراد ما بقي من متعلقات السيرة الشريفة | كتاب شمائل رسول الله وصفاته الخلقية | باب ما ورد في حسنه الباهر | صفة لون رسول الله صلى الله عليه وسلم | صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنه | ذكر شعره عليه السلام | ما ورد في منكبيه وساعديه وإبطيه وقدميه وكعبيه صلى الله عليه وسلم | قوامه عليه السلام وطيب رائحته | صفة خاتم النبوة الذي بين كتفيه صلى الله عليه وسلم | باب أحاديث متفرقة وردت في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم | حديث أم معبد في ذلك | حديث هند ابن أبي هالة في ذلك | باب ذكر أخلاقه وشمائله الطاهرة صلى الله عليه وسلم | كرمه عليه السلام | مزاحه عليه السلام | باب زهده عليه السلام وإعراضه عن هذه الدار | حديث بلال في ذلك | ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام | فصل عبادته عليه السلام واجتهاده في ذلك | فصل في شجاعته صلى الله عليه وسلم | فصل فيما يذكر من صفاته عليه السلام في الكتب المأثورة عن الأنبياء الأقدمين | كتاب دلائل النبوة | فصل وإنك لعلى خلق عظيم | فصل دلائل نبوته من خلال سيرته وأخلاقه | باب دلائل النبوة الحسية | فصل إيراد هذا الحديث من طرق متفرقة | فصل في المعجزات الأرضية | باب ما ظهر في البئر التي كانت بقباء من بركته صلى الله عليه وسلم | باب تكثيره عليه السلام الأطعمة | تكثيره عليه السلام السمن لأم سليم | قصة أخرى في تكثير الطعام في بيت فاطمة | قصة أخرى في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم | قصة قصعة بيت الصديق | حديث آخر في تكثير الطعام في السفر | قصة جابر ودين أبيه وتكثيره عليه السلام التمر | قصة سلمان في تكثيره صلى الله عليه وسلم تلك القطعة من الذهب | حديث الذراع | باب انقياد الشجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم | باب حنين الجزع شوقا إلى رسول الله وشغفا من فراقه | باب تسبيح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام | باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوة | حديث في سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم | قصة الذئب وشهادته بالرسالة | قصة الوحش الذي كان في بيت النبي وكان يحترمه عليه السلام ويوقره ويجله | قصة الأسد | حديث الغزالة | حديث الضـب على ما فيه من النكارة والغرابة | حديث الحمار | حديث الحمرة وهو طائر مشهور | باب في كلام الأموات وعجائبهم | قصة الصبي الذي كان يصرع فدعا له عليه السلام فبرأ | فصل آداب الطعام | باب المسائل التي سئل عنها رسول الله فأجاب عنها بما يطابق الحق الموافق لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء | فصل المباهلة | حديث آخر يتضمن اعتراف اليهود بأنه رسول الله | فصل البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم | جوابه صلى الله عليه وسلم لمن ساءل عما سأل قبل أن يسأله عن شيء منه | باب ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده | أما القرآن | فصل الدلائل على إخباره صلى الله عليه وسلم بما وقع | فصل في الإخبار بغيوب ماضية ومستقبلة | فصل في ترتيب الإخبار بالغيوب المستقبلة بعده صلى الله عليه وسلم | ومن كتاب دلائل النبوة في باب إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيوب المستقبلة | ذكر إخباره صلى الله عليه وسلم عن الفتن الواقعة | باب ما جاء في إخباره عن الحكمين اللذين بعثا في زمن علي | إخباره صلى الله عليه وسلم عن الخوارج وقتالهم | إخباره صلى الله عليه وسلم بمقتل علي ابن أبي طالب | إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك مقتل الحسين | إخباره صلى الله عليه وسلم عن غزاة البحر إلى قبرص | باب ما قيل في قتال الروم | الإخبار عن غزوة الهند | فصل في الإخبار عن قتال الترك | خبر آخر عن عبد الله بن سلام | الإخبار عن بيت ميمونة بنت الحارث بسرف | ما روي في إخباره عن مقتل حجر بن عدي | إخباره صلى الله عليه وسلم لما وقع من الفتن من بني هاشم | الإخبار بمقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما | الإخبار عن وقعة الحرة التي كانت في زمن يزيد | فصل حديث إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا | الإشارة النبوية إلى دولة عمر بن عبد العزيز تاج بني أمية | الإشارة إلى محمد بن كعب القرظي وعلمه بتفسير القرآن وحفظه | الإخبار بانخرام قرنة صلى الله عليه وسلم بعد مائة سنة من ليلة إخباره | الإخبار عن الوليد بن يزيد بما فيه له من الوعيد الشديد | ذكر الإخبار عن خلفاء بني أمية | الإخبار عن دولة بني العباس | الإخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش | الإخبار عن أمور وقعت في دولة بني العباس | حديث آخر فيه إشارة إلى مالك بن أنس الإمام | حديث آخر فيه إشارة إلى محمد بن إدريس الشافعي | باب البينة على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم | القول فيما أوتي نوح عليه السلام | القول فيما أوتي هود عليه السلام | القول فيما أوتي صالح عليه السلام | القول فيما أوتي إبراهيم الخليل عليه السلام | القول فيما أوتي موسى عليه السلام | قصة أبي موسى الخولاني | باب ما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعطي الأنبياء قبله | قصة حبس الشمس | القول فيما أعطي إدريس عليه السلام | القول فيما أوتي داود عليه السلام | القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام | القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام | قصة الأعمى الذي رد الله عليه بصره بدعاء الرسول | كتاب تاريخ الإسلام الأول من الحوادث الواقعة في الزمان ووفيات المشاهير والأعيان سنة إحدى عشرة من الهجرة | خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما فيها من الحوادث | فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد | مقتل الأسود العنسي المتنبي الكذاب | صفة خروجه وتمليكه ومقتله | خروج الأسود العنسي | فصل في تصدي الصديق لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة | خروجه إلى ذي القصة حين عقد ألوية الأمراء الأحد عشر | فصل في مسيرة الأمراء من ذي القصة على ما عوهدوا عليه | قصة الفجاءة | قصة سجاح وبني تميم | فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التميمي | مقتل مسيلمة الكذاب لعنه الله | ذكر ردة أهل البحرين وعودهم إلى الإسلام | ذكر ردة أهل عمان ومهرة اليمن | ذكر من توفي في هذه السنة | سنة اثنتي عشرة من الهجرة النبوية | بعث خالد بن الوليد إلى العراق | وقعة المذار أو الثني | وقعة الولجة | وقعة أليس | فصل نزول خالد بن الوليد النجف | فتح الأنبار معركة ذات العيون | وقعة عين التمر | خبر دومة الجندل | خبر وقعتي الحصيد والمضيح | وقعة الفراض | فصل فيما كان من الحوادث في هذه السنة | فصل فيمن توفي في هذه السنة