البداية والنهاية/الجزء السادس/الإخبار عن وقعة الحرة التي كانت في زمن يزيد
قال يعقوب بن سفيان: حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثني ابن فليح عن أبيه، عن أيوب بن عبد الرحمن، عن أيوب بن بشير المعافري أن رسول الله ﷺ خرج في سفر من أسفاره فلما مر بحرة زهرة وقف فاسترجع، فساء ذلك من معه وظنوا أن ذلك من أمر سفرهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ما الذي رأيت؟
فقال رسول الله ﷺ: « أما إن ذلك ليس من سفركم هذا ».
قالوا: فما هو يا رسول الله؟
قال: « يقتل بهذه الحرة خيار أمتي بعد أصحابي » هذا مرسل.
وقد قال يعقوب بن سفيان: قال وهب بن جرير: قالت جويرية: حدثني ثور بن زيد عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية على رأس ستين سنة { ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها } [الأحزاب: 14] .
قال: لأعطوها يعني: إدخال بني حارثة أهل الشام على أهل المدينة وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، وتفسير الصحابي في حكم المرفوع عند كثير من العلماء.
وقال نعيم بن حماد في كتاب الفتن والملاحم: حدثنا أبو عبد الصمد العمي، ثنا أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله ﷺ: « يا أبا ذر أرأيت إن الناس قتلوا حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف أنت صانع؟ »
قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: « تدخل بيتك ».
قال: قلت: فإن أتى علي؟
قال: « يأتي من أنت منه ».
قال: قلت: وأحمل السلاح؟
قال: « إذا تشرك معهم ».
قال: قلت: فكيف أصنع يا رسول الله؟
قال: « إن خفت أن يبهرك شعاع السيف فألق طائفة من ردائك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه ».
ورواه الأمام أحمد في مسنده عن مرحوم - هو ابن عبد العزيز - عن أبي عمران الجوني، فذكره مطولا.
قلت: وكان سبب وقعة الحرة أن وفدا من أهل المدينة قدموا على يزيد بن معاوية بدمشق فأكرمهم وأحسن جائزتهم وأطلق لأميرهم - وهو عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر - قريبا من مائة ألف، فلما رجعوا ذكروا لأهليهم عن يزيد ما كان يقع منه من القبائح في شربه الخمر وما يتبع ذلك من الفواحش التي من أكبرها ترك الصلاة عن وقتها بسبب السكر، فاجتمعوا على خلعه فخلعوه عند المنبر النبوي فلما بلغه ذلك بعث إليهم سرية يقدمها رجل يقال له: مسلم بن عقبة، وإنما يسميه السلف مسرف بن عقبة، فلما ورد المدينة استباحها ثلاثة أيام فقتل في غضون هذه الأيام بشرا كثيرا حتى كاد لا يفلت أحد من أهلها، وزعم بعض علماء السلف أنه قتل في غضون ذلك ألف بكر فالله أعلم.
وقال عبد الله بن وهب: عن الإمام مالك، قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، حسبت أنه قال: وكان فيهم ثلاثة من أصحاب رسول الله ﷺ وذلك في خلافة يزيد.
وقال يعقوب ابن سفيان: سمعت سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري يقول: قتل يوم الحرة عبد الله بن يزيد المازني، ومعقل بن سنان الأشجعي، ومعاذ بن الحارث القاري، وقتل عبد الله بن حنظلة ابن أبي عامر.
قال يعقوب: وحدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير عن الليث قال: وكانت وقعة الحرة يوم الأربعاء لثلاث بقين من الحجة سنة ثلاث وستين.
ثم انبعث مسرف بن عقبة إلى مكة قاصدا عبد الله بن الزبير ليقتله بها لأنه فر من بيعة يزيد، فمات يزيد بن معاوية في غضون ذلك واستفحل أمر عبد الله بن الزبير في الخلافة بالحجاز، ثم أخذ العراق ومصر، وبويع بعد يزيد لابنه معاوية بن يزيد وكان رجلا صالحا، فلم تطل مدته مكث أربعين يوما، وقيل: عشرين يوما، ثم مات رحمه الله فوثب مروان بن الحكم على الشام فأخذها فبقي تسعة أشهر ثم مات، وقام بعده ابنه عبد الملك فنازعه فيها عمرو بن سعيد بن الأشدق وكان نائبا على المدينة من زمن معاوية وأيام يزيد ومروان، فلما هلك مروان زعم أنه أوصى له بالأمر من بعد ابنه عبد الملك فضاق به ذرعا، ولم يزل به حتى أخذه بعد ما استفحل أمره بدمشق فقتله في سنة تسع وستين ويقال: في سنة سبعين، واستمرت أيام عبد الملك حتى ظفر بابن الزبير سنة ثلاث وسبعين قتله الحجاج بن يوسف الثقفي عن أمره بمكة بعد محاصرة طويلة اقتضت أن نصب المنجنيق على الكعبة من أجل أن ابن الزبير لجأ إلى الحرم، فلم يزل به حتى قتله، ثم عهد في الأمر إلى بنيه الأربعة بعده الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام بن عبد الملك.
وقد قال الأمام أحمد: حدثنا أسود ويحيى ابن أبي بكير، ثنا كامل أبو العلاء سمعت أبا صالح - وهو مولى ضباعة المؤذن واسمه مينا - قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ: « تعوذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان ».
وقال: « لا تذهب الدنيا حتى يظهر اللكع ابن لكع ».
وقال الأسود: يعني: اللئيم ابن اللئيم.
وقد روى الترمذي من حديث أبي كامل عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: « عمر أمتي من ستين سنة إلى سبعين سنة ».
ثم قال: حسن غريب.
وقد روى الإمام أحمد عن عفان وعبد الصمد، عن حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، حدثني من سمع أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « لينعقن ».
وقال عبد الصمد في روايته: « ليزعقن جبار من جبابرة بني أمية على منبري هذا ».
زاد عبد الصمد: « حتى يسيل رعافه ».
قال: فحدثني من رأى عمرو بن سعيد بن العاص يرعف على منبر النبي ﷺ حتى سال رعافه.
قلت: علي بن يزيد بن جدعان في روايته غرابة ونكارة وفيه تشيع، وعمرو بن سعيد هذا يقال له: الأشدق كان من سادات المسلمين وأشرافهم في الدنيا لا في الدين.
وروى عن جماعة من الصحابة منهم في صحيح مسلم عن عثمان في فصل الطهور، وكان نائبا على المدينة لمعاوية ولابنه يزيد بعده، ثم استفحل أمره حتى كان يصاول عبد الملك بن مروان، ثم خدعه عبد الملك حتى ظفر به فقتله في سنة تسع وستين أو سنة سبعين فالله أعلم.
وقد روى عنه من المكارم أشياء كثيرة من أحسنها أنه لما حضرته الوفاة قال لبنيه وكانوا ثلاثة عمرو هذا وأمية وموسى، فقال لهم: من يتحمل ما علي؟
فبدر ابنه عمرو هذا وقال: أنا يا أبة وما عليك؟
قال: ثلاثون ألف دينار.
قال: نعم.
قال: وأخواتك لا تزوجهن إلا بالأكفاء ولو أكلن خبز الشعير.
قال: نعم.
قال: وأصحابي من بعدي إن فقدوا وجهي فلا يفقدوا معروفي.
قال: نعم.
قال: أما لئن قلت ذلك فلقد كنت أعرفه من حماليق وجهك وأنت في مهدك.
وقد ذكر البيهقي من طريق عبد الله بن صالح - كاتب الليث - عن حرملة بن عمران، عن أبيه، عن يزيد ابن أبي حبيب أنه سمعه يحدث عن محمد بن يزيد ابن أبي زياد الثقفي، قال: اصطحب قيس ابن خرشة وكعب حتى إذا بلغا صفين وقف كعب الأحبار فذكر كلامه فيما يقع هناك من سفك دماء المسلمين، وأنه يجد ذلك في التوراة.
وذكر عن قيس بن خرشة أنه بايع رسول الله ﷺ على أن يقول الحق، وقال: « يا قيس بن خرشة عسى إن عذبك الدهر حتى يكبك بعدي من لا يستطيع أن تقول بالحق معهم ».
فقال: والله لا أبايعك على شيء إلا وفيت لك.
فقال له رسول الله ﷺ: « إذا لا يضرك بشر ».
فبلغ قيس إلى أيام عبيد الله بن زياد بن أبي سفيان فنقم عليه عبيد الله في شيء فأحضره، فقال: أنت الذي زعم أنه لا يضرك بشر؟
قال: نعم.
قال: لتعلمن اليوم أنك قد كذبت ائتوني بصاحب العذاب.
قال: فمال قيس عند ذلك فمات.
معجزة أخرى:
روى البيهقي من طريق الدراوردي عن ثور بن يزيد، عن موسى بن ميسرة أن بعض بني عبد الله سايره في بعض طريق مكة، قال: حدثني العباس بن عبد المطلب أنه بعث ابنه عبد الله إلى رسول الله ﷺ في حاجة فوجد عنده رجلا فرجع ولم يكلمه من أجل مكان الرجل، فلقي العباس رسول الله ﷺ فأخبره بذلك، فقال: « ورآه؟ »
قال: نعم.
قال: « أتدري من ذلك الرجل؟ ذاك جبريل ولن يموت حتى يذهب بصره، ويؤتى علما ».
وقد مات ابن عباس سنة ثمان وستين بعد ما عمي رضي الله عنه.
وروى البيهقي من حديث المعتمر بن سليمان حدثتنا سيابة بنت يزيد عن خمارة، عن أنيسة بنت زيد بن أرقم، عن أبيها أن رسول الله ﷺ دخل على زيد يعوده في مرض كان به.
قال: « ليس عليك من مرضك بأس ولكن كيف بك إذا عمرت بعدي فعميت؟ »
قال: إذا أحتسب وأصبر.
قال: « إذا تدخل الجنة بغير حساب ».
قال: فعمي بعد ما مات رسول الله ثم رد الله عليه بصره ثم مات.