البداية والنهاية/الجزء السادس/باب البينة على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم
مماثلة لمعجزات جماعة من الأنبياء قبله وأعلى منها خارجة عما اختص به من المعجزات العظيمة التي لم يكن لأحد قبله منهم - عليهم السلام -.
فمن ذلك القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فإنه معجزة مستمرة على الآباد ولا يخفى برهانها ولا يتفحص مثلها، وقد تحدى به الثقلين من الجن والأنس على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك كما تقدم تقرير ذلك في أول كتاب المعجزات.
وقد سبق الحديث المتفق على إخراجه في الصحيحين من حديث الليث بن سعد بن سعيد ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: « ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ».
والمعنى: أن كل نبي أوتي من خوارق المعجزات ما يقتضي إيمان من رأى ذلك من أولي البصائر والنهى لا من أهل العناد والشقاء، وإنما كان الذي أوتيته أي جله وأعظمه وأبهره القرآن الذي أوحاه الله إلي فإنه لا يبيد ولا يذهب كما ذهبت معجزات الأنبياء وانقضت بانقضاء أيامهم، فلا تشاهد بل يخبر عنها بالتواتر والآحاد، بخلاف القرآن العظيم الذي أوحاه الله إليه فإنه معجزة متواترة عنه مستمرة دائمة البقاء بعده مسموعة لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
وقد تقدم في الخصائص ذكر ما اختص به رسول الله ﷺ عن بقية إخوانه من الأنبياء - عليهم السلام - كما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: « أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأينما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة ».
وقد تكلمنا على ذلك وما شاكله فيما سلف بما أغنى عن إعادته ولله الحمد.
وقد ذكر غير واحد من العلماء أن كل معجزة لنبي من الأنبياء فهي معجزة لخاتمهم محمد ﷺ وذلك أن كلا منهم بشر بمبعثه وأمر بمتابعته.
كما قال تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } [آل عمران: 81-82] .
وقد ذكر البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه العهد والميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به، وليتبعنه ولينصرنه، وذكر غير واحد من العلماء أن كرامات الأولياء معجزات للأنبياء لأن الولي إنما نال ذلك ببركة متابعته لنبيه وثواب إيمانه والمقصود أنه كان الباعث لي على عقد هذا الباب أني وقفت على مولد اختصره من سيرة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيرهما شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام كمال الدين أبو المعالي محمد بن علي الأنصاري السماكي، نسبة إلى أبي دجانة الأنصاري سماك بن حرب بن حرشة الأوسي رضي الله عنه شيخ الشافعية في زمانه بلا مدافعة، المعروف بابن الزملكاني - عليه رحمة الله - وقد ذكر في أواخره شيئا من فضائل رسول الله ﷺ وعقد فصلا في هذا الباب فأورد فيه أشياء حسنة، ونبه على فوائد جمة، وفوائد مهمة، وترك أشياء أخرى حسنة ذكرها غيره من الأئمة المتقدمين، ولم أره استوعب الكلام إلى آخره، فأما أنه قد سقط من خطه أو أنه لم يكمل تصنيفه، فسألني بعض أهله من أصحابنا ممن تتأكد إجابته وتكرر ذلك منه في تكميله وتبويبه وترتيبه وتهذيبه والزيادة عليه، والإضافة إليه، فاستخرت الله حينا من الدهر ثم نشطت لذلك ابتغاء الثواب والأجر، وقد كنت سمعت من شيخنا الإمام العلامة الحافظ أبي الحجاج المزي - تغمده الله برحمته - أن أول من تكلم في هذا المقام الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه.
وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتابه دلائل النبوة عن شيخه الحاكم أبي عبد الله أخبرني أبو أحمد ابن أبي الحسن، أنا عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي عن أبيه، قال عمر بن سوار: قال الشافعي: مثل ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا ﷺ.
فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى.
فقال: أعطى محمدا ﷺ الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين بني له المنبر حن الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك، هذا لفظه رضي الله عنه والمراد من إيراد ما نذكره في هذا الباب البينة على ما أعطى الله أنبياءه - عليهم السلام - من الآيات البينات، والخوارق القاطعات، والحجج الواضحات، وأن الله جمع لعبده ورسوله سيد الأنبياء وخاتمهم من جميع أنواع المحاسن والآيات، مع ما اختصه الله به مما لم يؤت أحدا قبله كما ذكرنا في خصائصه وشمائله ﷺ.
ووقفت على فصل مليح في هذا المعنى في كتاب دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني وهو كتاب حافل في ثلاث مجلدات، عقد فيه فصلا في هذا المعنى.
وكذا ذكر ذلك الفقيه أبو محمد عبد الله بن حامد في كتابه دلائل النبوة وهو كتاب كبير جليل حافل مشتمل على فرائد نفيسة.
وكذا الصرصري الشاعر يورد في بعض قصائده أشياء من ذلك كما سيأتي، وها أنا أذكر بعون الله مجامع ما ذكرنا من هذه الأماكن المتفرقة بأوجز عبارة، وأقصر إشارة وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.