البداية والنهاية/الجزء السادس/القول فيما أوتي نوح عليه السلام



القول فيما أوتي نوح عليه السلام


قال الله تعالى: { فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر * ولقد تركناها آية فهل من مدكر } [القمر: 10-15] .

وقد ذكرت القصة مبسوطة في أول هذا الكتاب وكيف دعا على قومه فنجاه الله ومن اتبعه من المؤمنين فلم يهلك منهم أحد، وأغرق من خالفه من الكافرين فلم يسلم منهم أحد، حتى ولا ولده.

قال شيخنا العلامة أبو المعالي محمد بن علي الأنصاري الزملكاني ومن خطه نقلت: وبيان أن كل معجزة لنبي فلنبينا أمثالها إذا تم يستدعي كلاما طويلا وتفصيلا لا يسعه مجلدات عديدة، ولكن ننبه بالبعض على البعض، فلنذكر جلائل معجزات الأنبياء - عليهم السلام -.

فمنها نجاة نوح في السفينة بالمؤمنين ولا شك أن حمل الماء للناس من غير سفينة أعظم من السلوك عليه في السفينة، وقد مشى كثير من الأولياء على متن الماء، وفي قصة العلاء بن زياد صاحب رسول الله ما يدل على ذلك.

روى منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي دارين فدعا بثلاث دعوات فاستجيبت له، فنزلنا منزلا فطلب الماء فلم يجده، فقام وصلى ركعتين وقال: اللهم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك اللهم اسقنا غيثا نتوضأ به ونشرب، ولا يكون لأحد فيه نصيب غيرنا، فسرنا قليلا فإذا نحن بماء حين أقلعت السماء عنه، فتوضأنا منه، وتزودنا وملأت إداوتي وتركتها مكانها حتى أنظر هل استجيب له أم لا، فسرنا قليلا ثم قلت لأصحابي: نسيت إداوتي فرجعت إلى ذلك المكان فكأنه لم يصبه ماء قط، ثم سرنا حتى أتينا دارين والبحر بيننا وبينهم.

فقال: يا علي يا حكيم إنا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك اللهم فاجعل لنا إليهم سبيلا، فدخلنا البحر فلم يبلغ الماء لبودنا ومشينا على متن الماء ولم يبتل لنا شيء، وذكر بقية القصة.

فهذا أبلغ من ركوب السفينة فإن حمل الماء للسفينة معتاد، وأبلغ من فلق البحر لموسى فإن هناك انحسر الماء حتى مشوا على الأرض فالمعجز انحسار الماء، وها هنا صار الماء جسدا يمشون عليه كالأرض وإنما هذا منسوب إلى النبي وبركته، انتهى ما ذكره بحروفه فيما يتعلق بنوح عليه السلام.

وهذه القصة التي ساقها شيخنا ذكرها الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه الدلائل من طريق أبي بكر ابن أبي الدنيا عن أبي كريب، عن محمد بن فضيل، عن الصلت بن مطر العجلي، عن عبد الملك ابن أخت سهم، عن سهم بن منجاب قال: غزونا مع العلاء بن الحضرمي فذكره.

وقد ذكرها البخاري في التاريخ الكبير من وجه آخر.

ورواها البيهقي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان مع العلاء وشاهد ذلك.

وساقها البيهقي من طريق عيسى بن يونس عن عبد الله، عن عون، عن أنس بن مالك قال: أدركت في هذه الأمة ثلاثا لو كانت في بني إسرائيل لما تقاسمها الأمم.

قلنا: ما هن يا أبا حمزة؟

قال: كنا في الصفة عند رسول الله فأتته امرأة مهاجرة ومعها ابن لها قد بلغ، فأضاف المرأة إلى النساء، وأضاف ابنها إلينا، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياما ثم قبض فغمضه النبي - - وأمر بجهازه، فلما أردنا أن نغسله قال: « يا أنس إئت أمه فأعلمها ».

فأعلمتها، قال: فجاءت حتى جلست عند قدميه، فأخذت بهما ثم قالت: اللهم إني أسلمت لك طوعا وخلعت الأوثان، فلا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحمله.

قال: فوالله ما انقضى كلامها حتى حرك قدميه وألقى الثوب عن وجهه، وعاش حتى قبض الله رسوله وحتى هلكت أمه.

قال أنس: ثم جهز عمر بن الخطاب جيشا واستعمل عليهم العلاء بن الحضرمي.

قال أنس: وكنت في غزاته، فأتينا مغازينا فوجدنا القوم قد بدروا بنا فعفوا آثار الماء والحر شديد فجهدنا العطش ودوابنا وذلك يوم الجمعة.

فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ثم مد يده إلى السماء وما نرى في السماء شيئا قال: فوالله ما حط يده حتى بعث الله ريحا، وأنشأ سحابا، وأفرغت حتى ملأت الغدر والشعاب، فشربنا وسقينا ركابنا واستقينا.

قال: ثم أتينا عدونا وقد جاوز خليجا في البحر إلى جزيرة.

فوقف على الخليج وقال: يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم ثم قال: أجيزوا بسم الله.

قال: فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا، فلم نلبث إلا يسيرا فأصبنا العدو عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج، فقال مثل مقالته، فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا.

ثم ذكر موت العلاء ودفنهم إياه في أرض لا تقبل الموتى، ثم إنهم حفروا عليه لينقلوه منها إلى غيرها فلم يجدوه، ثم وإذا اللحد يتلألأ نورا فأعادوا التراب عليه ثم ارتحلوا.

فهذا السياق أتم وفيه قصة المرأة التي أحيى الله لها ولدها بدعائها، وسننبه على ذلك فيما يتعلق بمعجزات المسيح عيسى بن مريم مع ما يشابهها إن شاء الله تعالى.

كما سنشير إلى قصة العلاء هذه مع ما سنورده معها ههنا فيما يتعلق بمعجزات موسى عليه السلام في قصة فلق البحر لبني إسرائيل وقد أرشد إلى ذلك شيخنا في عيون كلامه.

قصة أخرى تشبه قصة العلاء بن الحضرمي:

روى البيهقي في الدلائل وقد تقدم ذلك أيضا من طريق سليمان بن مروان الأعمش عن بعض أصحابه قال: انتهينا إلى دجلة وهي مادة والأعاجم خلفها.

فقال رجل من المسلمين: بسم الله ثم اقتحم بفرسه فارتفع على الماء.

فقال الناس: بسم الله ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء، فنظر إليهم الأعاجم وقالوا: ديوان، ديوان - أي مجانين - ثم ذهبوا على وجوههم.

قال: فما فقد الناس إلا قدحا كان معلقا بعذبة سرج، فلما خرجوا أصابوا الغنائم واقتسموا، فجعل الرجل يقول: من يبادل صفراء ببيضاء؟

وقد ذكرنا في السيرة العمرية وأيامها وفي التفسير أيضا أن أول من اقتحم دجلة يومئذ أبو عبيدة النفيعي أمير الجيوش في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأنه نظر إلى دجلة فتلا قوله تعالى: { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا } [آل عمران: 145] .

ثم سمى الله تعالى واقتحم بفرسه الماء، واقتحم الجيش وراءه، ولما نظر إليهم الأعاجم يفعلون ذلك جعلوا يقولون: ديوان، ديوان - أي مجانين، مجانين - ثم ولوا مدبرين فقتلهم المسلمون وغنموا منهم مغانم كثيرة.

قصة أخرى شبيهة بذلك:

وروى البيهقي من طريق أبي النضر عن سليمان بن المغيرة أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى دجلة وهي ترمي الخشب من مدها فمشى على الماء والتفت إلى أصحابه وقال: هل تفقدون من متاعكم شيئا فندعو الله تعالى؟

ثم قال: هذا إسناد صحيح.

قلت: وقد ذكر الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر في ترجمة أبي عبد الله بن أيوب الخولاني هذه القصة بأبسط من هذه من طريق بقية ابن الوليد حدثني محمد بن زياد عن أبي مسلم الخولاني أنه كان إذا غزا أرض الروم فمروا بنهر، قال: أجيزوا بسم الله.

قال: ويمر بين أيديهم فيمرون على الماء فما يبلغ من الدواب إلا إلى الركب، أو في بعض ذلك أو قريبا من ذلك.

قال: وإذا جازوا قال للناس: هل ذهب لكم شيء؟ من ذهب له شيء فأنا ضامن.

قال: فألقى مخلاة عمدا فلما جاوزوا، قال الرجل: مخلاتي وقعت في النهر.

قال له: إتبعني، فإذا المخلاة قد تعلقت ببعض أعواد النهر.

قال: خذها.

وقد رواه أبو داود من طريق الأعرابي عنه عن عمرو بن عثمان، عن بقية به، ثم قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد أن أبا مسلم الخولاني أتى على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها فوقف عليها ثم حمد الله وأثنى عليه، وذكر مسير بني إسرائيل في البحر، ثم لهز دابته فخاضت الماء وتبعه الناس حتى قطعوا.

ثم قال: هل فقدتم شيئا من متاعكم فأدعو الله أن يرده علي؟

وقد رواه ابن عساكر من طريق أخرى عن عبد الكريم بن رشيد، عن حميد بن هلال العدوي، حدثني ابن عمي أخي أبي قال: خرجت مع أبي مسلم في جيش فأتينا على نهر عجاج منكر، فقلنا لأهل القرية: أين المخاضة؟

فقالوا: ما كانت هاهنا مخاضة ولكن المخاضة أسفل منكم على ليلتين.

فقال أبو مسلم: اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبيدك وفي سبيلك فأجزنا هذا النهر اليوم، ثم قال: اعبروا بسم الله.

قال ابن عمي: وأنا على فرس فقلت: لأدفعنه أول الناس خلف فرسه قال: فوالله ما بلغ الماء بطون الخيل حتى عبر الناس كلهم.

ثم وقف وقال: يا معشر المسلمين هل ذهب لأحد منكم شيء فأدعو الله تعالى يرده؟

فهذه الكرامات لهؤلاء الأولياء هي معجزات لرسول الله - - كما تقدم تقريره لأنهم إنما نالوها ببركة متابعته ويمن سفارته، إذ فيها حجة في الدين أكيدة للمسلمين، وهي مشابهة نوح - عليه السلام - في مسيره فوق الماء بالسفينة التي أمره الله تعالى بعملها، ومعجزة موسى - عليه السلام - في فلق البحر، وهذه فيها ما هو أعجب من ذلك من جهة مسيرهم على متن الماء من غير حائل، ومن جهة أنه ماء جار والسير عليه أعجب من السير على الماء القار الذي يجاز، وإن كان ماء الطوفان أطم وأعظم فهذه خارق والخارق لا فرق بين قليله وكثيره، فإن من سلك على وجه الماء الخضم الجاري العجاج فلم يبتل منه نعال خيولهم أو لم يصل إلى بطونها فلا فرق في الخارق بين أن يكون قامة أو ألف قامة، أو أن يكون نهرا أو بحرا، بل كونه نهرا عجاجا كالبرق الخاطف، والسيل الجاري أعظم وأغرب وكذلك بالنسبة إلى فلق البحر وهو جانب بحر القلزم حتى صار كل فرق كالطود العظيم أي الجبل الكبير، فانحاز الماء يمينا وشمالا حتى بدت أرض البحر وأرسل الله عليها الريح حتى أيبسها ومشت الخيول عليها بلا انزعاج حتى جاوزوا عن آخرهم، وأقبل فرعون بجنوده { فغشيهم من اليم ما غشيهم * وأضل فرعون قومه وما هدى } [طه: 78-79] .

وذلك أنهم لما توسطوه وهموا بالخروج منه أمر الله البحر فارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم فلم يفلت منهم أحد كما لم يفقد من بني إسرائيل واحد، ففي ذلك آية عظيمة بل آيات معدودات كما بسطنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.

والمقصود أن ما ذكرناه من قصة العلاء بن الحضرمي، وأبي عبد الله الثقفي، وأبي مسلم الخولاني من مسيرهم على تيار الماء الجاري فلم يفقد منهم أحد، ولم يفقدوا شيئا من أمتعتهم.

هذا وهم أولياء منهم صحابي، وتابعيان، فما الظن لو كان الاحتياج إلى ذلك بحضرة رسول الله سيد الأنبياء وخاتمهم، وأعلاهم منزلة ليلة الإسراء، وإمامهم ليلتئذ ببيت المقدس الذي هو محل ولايتهم، ودار بدايتهم، وخطيبهم يوم القيامة، وأعلاهم منزلة في الجنة، وأول شافع في الحشر وفي الخروج من النار، وفي دخوله الجنة وفي رفع الدرجات بها.

كما بسطنا أقسام الشفاعة وأنواعها في آخر الكتاب في أهوال يوم القيامة، وبالله المستعان.

وسنذكر في المعجزات الموسوية ما ورد من المعجزات المحمدية مما هو أظهر وأبهر منها ونحن الآن فيما يتعلق بمعجزات نوح عليه السلام ولم يذكر شيخنا سوى ما تقدم.

وأما الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني فإنه قال في آخر كتابه دلائل النبوة وهو في مجلدات ثلاث: الفصل الثالث والثلاثون في ذكر موازنة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي، إذ أوتي ما أوتوا وشبهه ونظيره فكان أول الرسل نوح عليه السلام وآيته التي أوتي شفاء غيظه، وإجابة دعوته في تعجيل نقمة الله لمكذبيه حتى هلك من على بسيط الأرض من صامت وناطق إلا من آمن به ودخل معه في سفينته، ولعمري إنها آية جليلة وافقت سابق قدر الله وما قد علمه في هلاكهم.

وكذلك نبينا لما كذبه قومه وبالغوا في أذيته والاستهانة بمنزلته من الله عز وجل حتى ألقى السفيه عقبة ابن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو ساجد فقال: « اللهم عليك بالملأ من قريش ».

ثم ساق الحديث عن ابن مسعود كما تقدم، كما ذكرنا له في صحيح البخاري وغيره في وضع الملأ من قريش على ظهر رسول الله وهو ساجد عند الكعبة سلا تلك الجزور واستضحاكهم من ذلك حتى أن بعضهم يميل على بعض من شدة الضحك ولم يزل على ظهره حتى جاءت ابنته فاطمة - عليها السلام - فطرحته عن ظهره، ثم أقبلت عليهم تسبهم، فلما سلم رسول الله من صلاته، رفع يديه فقال: « اللهم عليك بالملأ من قريش ».

ثم سمى فقال: « اللهم عليك بأبي جهل، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة ابن أبي معيط، وعمارة بن الوليد ».

قال عبد الله بن مسعود: فوالذي بعثه بالحق لقد رأيتهم صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر.

وكذلك لما أقبلت قريش يوم بدر في عددها وعديدها فحين عاينهم رسول الله قال رافعا يديه: « اللهم هذه قريش جاءتك بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك اللهم أصبهم الغداة ».

فقتل من سراتهم سبعون، وأسر من أشرافهم سبعون، ولو شاء لاستأصلهم عن آخرهم، ولكن من حلم وشرف نبيه أبقى منهم من سبق في قدره أن سيؤمن به وبرسول الله .

وقد دعا على عتبة ابن أبي لهب أن يسلط عليه كلبه بالشام فقتله الأسد عند وادي الزرقاء قبل مدينة بصرى، وكم له من مثلها ونظيرها كسبع يوسف فقحطوا حتى أكلوا العكبر وهو الدم بالوتر، وأكلوا العظام وكل شيء، ثم توصلوا إلى تراحمه وشفقته ورأفته، فدعا لهم ففرج الله عنهم وسقوا الغيث ببركة دعائه.

وقال الإمام الفقيه أبو محمد بن عبد الله بن حامد في كتاب دلائل النبوة - وهو كتاب حافل -: ذكر ما أوتي نوح عليه السلام من الفضائل، وبيان ما أوتي محمد مما يضاهي فضائله ويزيد عليها، إن قوم نوح لما بلغوا من أذيته والاستخفاف به وترك الإيمان بما جاءهم به من عند الله.

دعا عليهم فقال: { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } [نوح: 26] .

فاستجاب الله دعوته وغرق قومه حتى لم يسلم شيء من الحيوانات والدواب إلا من ركب السفينة وكان ذلك فضيلة أوتيها إذ أجيبت دعوته وشفي صدره بإهلاك قومه.

قلنا: وقد أوتي محمد مثله حين ناله من قريش ما ناله من التكذيب والاستخفاف، فأنزل الله إليه ملك الجبال وأمره بطاعته فيما أمره به من إهلاك قومه فاختار الصبر على أذيتهم والابتهال في الدعاء لهم بالهداية.

قلت: وهذا أحسن.

وقد تقدم الحديث بذلك عن عائشة، عن رسول الله في قصة ذهابه إلى الطائف فدعاهم فآذوه فرجع وهو مهموم، فلما كان عند قرن الثعالب، ناداه ملك الجبال فقال: يا محمد إن ربك قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد أرسلني إليك لأفعل ما تأمرني به فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين - يعني: جبلي مكة اللذين يكتنفانها جنوبا وشمالا، أبو قبيس، وزر -.

فقال: « بل استأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك بالله شيئا ».

وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في مقابلة قوله تعالى: « فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ».

أحاديث الاستسقاء عن أنس وغيره، كما تقدم ذكرنا لذلك في دلائل النبوة قريبا أنه سأله ذلك الأعرابي أن يدعو الله لهم لما بهم من الجدب والجوع فرفع يديه فقال: « اللهم اسقنا، اللهم اسقنا »

فما نزل عن المنبر حتى رؤي المطر يتحادر على لحيته الكريمة فاستحضر من استحضر من الصحابة - رضي الله عنهم - قول عمه أبي طالب فيه:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يلوذ به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل

وكذلك استسقى في غير ما موضع للجدب والعطش فيجاب كما يريد على قدر الحاجة المائية، ولا أزيد ولا أنقص وهكذا وقع أبلغ في المعجزة وأيضا فإن هذا ماء رحمة ونعمة، وماء الطوفان ماء غضب ونقمة.

وأيضا فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستسقي بالعباس عم النبي فيسقون.

وكذلك ما زال المسلمون في غالب الأزمان والبلدان يستسقون فيجابون فيسقون، وغيرهم لا يجابون غالبا ولا يسقون ولله الحمد.

قال أبو نعيم: ولبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فبلغ جميع من آمن رجالا ونساء الذين ركبوا معه سفينته دون مائة نفس، وآمن بنبينا في مدة عشرين سنة الناس شرقا وغربا ودانت له جبابرة الأرض وملوكها، وخافت زوال ملكهم ككسرى وقيصر وأسلم النجاشي والأقيال رغبة في دين الله، والتزم من لم يؤمن به من عظماء الأرض الجزية والأيادة عن صغار أهل نجران، وهجر، وأيلة، وأنذر دومة، فذلوا له منقادين لما أيده الله به من الرعب الذي يسير بين يديه شهرا، وفتح الفتوح ودخل الناس في دين الله أفواجا.

كما قال الله تعالى: { إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } [النصر: 1-3] .

قلت: مات رسول الله وقد فتح الله له المدينة، وخيبر، ومكة، وأكثر اليمن، وحضرموت وتوفي عن مائة ألف صحابي أو يزيدون، وقد كتب في آخر حياته الكريمة إلى سائر ملوك الأرض يدعوهم إلى الله تعالى فمنهم من أجاب، ومنهم من صانع ودارى عن نفسه، ومنهم من تكبر فخاب وخسر، كما فعل كسرى بن هرمز حين عتى وبغى وتكبر فمزق ملكه، وتفرق جنده شذر مذر، ثم فتح خلفاؤه من بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي التالي على الأثر مشارق الأرض ومغاربها من البحر الغربي إلى البحر الشرقي.

كما قال رسول الله : « زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ».

وقال : « إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ».

وكذا وقع سواء بسواء فقد استولت الممالك الإسلامية على ملك قيصر وحواصله إلا القسطنطينية، وجميع ممالك كسرى، وبلاد المشرق، وإلى أقصى بلاد المغرب إلى أن قتل عثمان رضي الله عنه في سنة ستة وثلاثين، فكما عمت جميع أهل الأرض النقمة بدعوة نوح عليه السلام لما رآهم عليه من التمادي في الضلال والكفر والفجور، فدعا عليهم غضبا لله ولدينه ورسالته، فاستجاب الله له وغضب لغضبه وانتقم منهم بسببه.

كذلك عمت جميع أهل الأرض ببركة رسالة محمد ودعوته، فآمن من آمن من الناس وقامت الحجة على من كفر منهم.

كما قال تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107] .

وكما قال : « إنما أنا رحمة مهداة ».

وقال هشام بن عمار في كتاب البعث: حدثني عيسى بن عبد الله النعماني، حدثنا المسعودي عن سعيد ابن أبي سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: « وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ».

قال: من آمن بالله ورسله تمت له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسله عد فيمن يستحق تعجيل ما كان يصيب الأمم قبل ذلك من العذاب والفتن والقذف والخسف.

وقال تعالى: { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار } [إبراهيم: 28] .

قال ابن عباس: النعمة محمد، والذين بدلوا نعمة الله كفرا كفار قريش - يعني: وكذلك كل من كذب به من سائر الناس.

كما قال: { ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده } [هود: 17] .

قال أبو نعيم: فإن قيل فقد سمى الله نوحا عليه السلام باسم من أسمائه الحسنى، فقال: { إنه كان عبدا شكورا } [الإسراء: 3] .

قلنا: وقد سمى الله محمدا باسمين من أسمائه فقال: « بالمؤمنين رءوف رحيم ».

قال: وقد خاطب الله الأنبياء بأسمائهم يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا يحيى، يا عيسى، يا مريم.

وقال مخاطبا لمحمد : « يا أيها الرسول » « يا أيها النبي » « يا أيها المزمل » « يا أيها المدثر ».

وذلك قائم مقام الكنية بصفة الشرف، ولما نسب المشركون أنبياءهم إلى السفه والجنون كل أجاب عن نفسه، قال نوح: { ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين } [الأعراف: 67] .

وكذا قال هود عليه السلام.

ولما قال فرعون: { إني لأظنك ياموسى مسحورا } [الإسراء: 101] .

قال موسى: { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا } [الإسراء: 102] .

وأما محمد فإن الله تعالى هو الذي يتولى جوابهم عنه بنفسه الكريمة.

كما قال: { وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين } [الحجر: 6- 7] .

قال الله تعالى: { ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين } [الحجر: 8] .

وقال تعالى: { أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما } [الفرقان: 5-6] .

{ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض إنه كان غفورا رحيما } [الطور: 30-31] .

وقال تعالى: { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين } [الحاقة: 41-43] .

{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون } [القلم: 51] .

قال الله تعالى: { وما هو إلا ذكر للعالمين } [القلم: 52] .

وقال تعالى: { والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم } [القلم: 1-4] .

وقال تعالى: { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } [النحل: 103] .

البداية والنهاية - الجزء السادس
باب آثار النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يختص بها في حياته | باب في ترك الخاتم | ذكر سيفه عليه السلام | ذكر نعله التي كان يمشي فيها | صفة قدح النبي صلى الله عليه وسلم | المكحلة التي كان عليه السلام يكتحل منها | البردة | أفراسه ومراكيبه عليه الصلاة والسلام | فصل إيراد ما بقي من متعلقات السيرة الشريفة | كتاب شمائل رسول الله وصفاته الخلقية | باب ما ورد في حسنه الباهر | صفة لون رسول الله صلى الله عليه وسلم | صفة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر محاسنه | ذكر شعره عليه السلام | ما ورد في منكبيه وساعديه وإبطيه وقدميه وكعبيه صلى الله عليه وسلم | قوامه عليه السلام وطيب رائحته | صفة خاتم النبوة الذي بين كتفيه صلى الله عليه وسلم | باب أحاديث متفرقة وردت في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم | حديث أم معبد في ذلك | حديث هند ابن أبي هالة في ذلك | باب ذكر أخلاقه وشمائله الطاهرة صلى الله عليه وسلم | كرمه عليه السلام | مزاحه عليه السلام | باب زهده عليه السلام وإعراضه عن هذه الدار | حديث بلال في ذلك | ومن تواضعه عليه الصلاة والسلام | فصل عبادته عليه السلام واجتهاده في ذلك | فصل في شجاعته صلى الله عليه وسلم | فصل فيما يذكر من صفاته عليه السلام في الكتب المأثورة عن الأنبياء الأقدمين | كتاب دلائل النبوة | فصل وإنك لعلى خلق عظيم | فصل دلائل نبوته من خلال سيرته وأخلاقه | باب دلائل النبوة الحسية | فصل إيراد هذا الحديث من طرق متفرقة | فصل في المعجزات الأرضية | باب ما ظهر في البئر التي كانت بقباء من بركته صلى الله عليه وسلم | باب تكثيره عليه السلام الأطعمة | تكثيره عليه السلام السمن لأم سليم | قصة أخرى في تكثير الطعام في بيت فاطمة | قصة أخرى في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم | قصة قصعة بيت الصديق | حديث آخر في تكثير الطعام في السفر | قصة جابر ودين أبيه وتكثيره عليه السلام التمر | قصة سلمان في تكثيره صلى الله عليه وسلم تلك القطعة من الذهب | حديث الذراع | باب انقياد الشجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم | باب حنين الجزع شوقا إلى رسول الله وشغفا من فراقه | باب تسبيح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام | باب ما يتعلق بالحيوانات من دلائل النبوة | حديث في سجود الغنم له صلى الله عليه وسلم | قصة الذئب وشهادته بالرسالة | قصة الوحش الذي كان في بيت النبي وكان يحترمه عليه السلام ويوقره ويجله | قصة الأسد | حديث الغزالة | حديث الضـب على ما فيه من النكارة والغرابة | حديث الحمار | حديث الحمرة وهو طائر مشهور | باب في كلام الأموات وعجائبهم | قصة الصبي الذي كان يصرع فدعا له عليه السلام فبرأ | فصل آداب الطعام | باب المسائل التي سئل عنها رسول الله فأجاب عنها بما يطابق الحق الموافق لها في الكتب الموروثة عن الأنبياء | فصل المباهلة | حديث آخر يتضمن اعتراف اليهود بأنه رسول الله | فصل البشارة برسول الله صلى الله عليه وسلم | جوابه صلى الله عليه وسلم لمن ساءل عما سأل قبل أن يسأله عن شيء منه | باب ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الكائنات المستقبلة في حياته وبعده | أما القرآن | فصل الدلائل على إخباره صلى الله عليه وسلم بما وقع | فصل في الإخبار بغيوب ماضية ومستقبلة | فصل في ترتيب الإخبار بالغيوب المستقبلة بعده صلى الله عليه وسلم | ومن كتاب دلائل النبوة في باب إخباره صلى الله عليه وسلم عن الغيوب المستقبلة | ذكر إخباره صلى الله عليه وسلم عن الفتن الواقعة | باب ما جاء في إخباره عن الحكمين اللذين بعثا في زمن علي | إخباره صلى الله عليه وسلم عن الخوارج وقتالهم | إخباره صلى الله عليه وسلم بمقتل علي ابن أبي طالب | إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك مقتل الحسين | إخباره صلى الله عليه وسلم عن غزاة البحر إلى قبرص | باب ما قيل في قتال الروم | الإخبار عن غزوة الهند | فصل في الإخبار عن قتال الترك | خبر آخر عن عبد الله بن سلام | الإخبار عن بيت ميمونة بنت الحارث بسرف | ما روي في إخباره عن مقتل حجر بن عدي | إخباره صلى الله عليه وسلم لما وقع من الفتن من بني هاشم | الإخبار بمقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما | الإخبار عن وقعة الحرة التي كانت في زمن يزيد | فصل حديث إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا | الإشارة النبوية إلى دولة عمر بن عبد العزيز تاج بني أمية | الإشارة إلى محمد بن كعب القرظي وعلمه بتفسير القرآن وحفظه | الإخبار بانخرام قرنة صلى الله عليه وسلم بعد مائة سنة من ليلة إخباره | الإخبار عن الوليد بن يزيد بما فيه له من الوعيد الشديد | ذكر الإخبار عن خلفاء بني أمية | الإخبار عن دولة بني العباس | الإخبار عن الأئمة الاثني عشر الذين كلهم من قريش | الإخبار عن أمور وقعت في دولة بني العباس | حديث آخر فيه إشارة إلى مالك بن أنس الإمام | حديث آخر فيه إشارة إلى محمد بن إدريس الشافعي | باب البينة على ذكر معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم | القول فيما أوتي نوح عليه السلام | القول فيما أوتي هود عليه السلام | القول فيما أوتي صالح عليه السلام | القول فيما أوتي إبراهيم الخليل عليه السلام | القول فيما أوتي موسى عليه السلام | قصة أبي موسى الخولاني | باب ما أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أعطي الأنبياء قبله | قصة حبس الشمس | القول فيما أعطي إدريس عليه السلام | القول فيما أوتي داود عليه السلام | القول فيما أوتي سليمان بن داود عليه السلام | القول فيما أوتي عيسى بن مريم عليه السلام | قصة الأعمى الذي رد الله عليه بصره بدعاء الرسول | كتاب تاريخ الإسلام الأول من الحوادث الواقعة في الزمان ووفيات المشاهير والأعيان سنة إحدى عشرة من الهجرة | خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وما فيها من الحوادث | فصل في تنفيذ جيش أسامة بن زيد | مقتل الأسود العنسي المتنبي الكذاب | صفة خروجه وتمليكه ومقتله | خروج الأسود العنسي | فصل في تصدي الصديق لقتال أهل الردة ومانعي الزكاة | خروجه إلى ذي القصة حين عقد ألوية الأمراء الأحد عشر | فصل في مسيرة الأمراء من ذي القصة على ما عوهدوا عليه | قصة الفجاءة | قصة سجاح وبني تميم | فصل في خبر مالك بن نويرة اليربوعي التميمي | مقتل مسيلمة الكذاب لعنه الله | ذكر ردة أهل البحرين وعودهم إلى الإسلام | ذكر ردة أهل عمان ومهرة اليمن | ذكر من توفي في هذه السنة | سنة اثنتي عشرة من الهجرة النبوية | بعث خالد بن الوليد إلى العراق | وقعة المذار أو الثني | وقعة الولجة | وقعة أليس | فصل نزول خالد بن الوليد النجف | فتح الأنبار معركة ذات العيون | وقعة عين التمر | خبر دومة الجندل | خبر وقعتي الحصيد والمضيح | وقعة الفراض | فصل فيما كان من الحوادث في هذه السنة | فصل فيمن توفي في هذه السنة