البداية والنهاية/الجزء السادس/فصل نزول خالد بن الوليد النجف
ثم سار خالد فنزل الخورنق والسدير وبالنجف، وبث سراياه هاهنا وهاهنا يحاصرون الحصون من الحيرة، ويستنزلون أهلها قسرا وقهرا، وصلحا ويسرا وكان في جملة ما نزل بالصلح قوم من نصارى العرب فيهم ابن بقيلة المتقدم ذكره.
وكتب لأهل الحيرة كتاب أمان، فكان الذي راوده عليه عمرو بن عبد المسيح ابن نقيلة، ووجد خالد معه كيسا فقال: ما في هذا؟ وفتحه خالد فوجد فيه شيئا.
فقال ابن بقيلة: هو سم الساعة.
فقال: ولم استصحبته معك؟
فقال: حتى إذا رأيت مكروها في قومي أكلته، فالموت أحب إلي من ذلك، فأخذه خالد في يده وقال: إنه لن تموت نفس حتى تأتي على أجلها، ثم قال: بسم الله خير الأسماء، رب الأرض والسماء الذي ليس يضر مع اسمه داء، الرحمن الرحيم.
قال: وأهوى إليه الأمراء ليمنعوه منه فبادرهم فابتلعه، فلما رأى ذلك ابن بقيلة قال: والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد، ثم التفت إلى أهل الحيرة فقال: لم أر كاليوم أوضح إقبالا من هذا.
ثم دعاهم وسألوا خالدا الصلح فصالحهم وكتب لهم كتابا بالصلح، وأخذ منهم أربعمائة ألف درهم عاجلة، ولم يكن صالحهم حتى سلموا كرامة بنت عبد المسيح إلى رجل من الصحابة يقال له: شويل وذلك أنه لما ذكر رسول الله ﷺ قصور الحيرة كأن شرفها أنياب الكلاب.
فقال له: يا رسول الله هب لي ابنة بقيلة.
فقال: « هي لك ».
فلما فتحت ادعاها شويل، وشهد له اثنان من الصحابة فامتنعوا من تسليمها إليه وقالوا: ما تريد إلى امرأة ابنة ثمانين سنة؟
فقالت لقومها: إدفعوني إليه، فإني سأفتدي منه وإنه قد رآني وأنا شابة، فسلمت إليه فلما خلا بها، قالت: ما تريد إلى امرأة بنت ثمانين سنة وأنا أفتدى منك فاحكم بما أردت.
فقال: والله لا أفديك بأقل من عشر مائة فاستكثرتها خديعة منها، ثم أتت قومها فأحضروا له ألف درهم.
ولامه الناس وقالوا: لو طلبت أكثر من مائة ألف لدفعوها إليك.
فقال: وهل عدد أكثر من عشر مائة؟
وذهب إلى خالد وقال: إنما أردت أكثر العدد.
فقال خالد: أردت أمرا وأراد الله غيره، وإنا نحكم بظاهر قولك ونيتك عند الله كاذبا أنت أم صادقا.
وقال سيف بن عمر: عن عمرو بن محمد، عن الشعبي لما افتتح خالد الحيرة صلى ثماني ركعات بتسليمة واحدة، وقد قال عمرو بن القعقاع في هذه الأيام ومن قتل من المسلمين بها، وأيام الردة:
سقى الله قتلى بالفرات مقيمة * وأخرى بأثباج النجاف الكوانف
ونحن وطئنا بالكواظم هرمزا * وبالثنى قرني قارن بالجوارف
ويوم أحطنا بالقصور تتابعت * على الحيرة الروحاء إحدى المصارف
حططناهم منها وقد كان عرشهم * يميل بهم فعل الجبان المخالف
رمينا عليهم بالقبول وقد رأوا * غبوق المنايا حول تلك المحارف
صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا * إلى الريف من أرض العريب المقانف
وقد قدم جرير بن عبد الله البجلي على خالد بن الوليد وهو بالحيرة بعد الوقعات المتعددة، والغنائم المتقدم ذكرها ولم يحضر شيئا منها وذلك لأنه كان قد بعثه الصديق مع خالد بن سعيد بن العاص إلى الشام فاستأذن خالد بن سعيد في الرجوع إلى الصديق ليجمع له قومه من بجيلة فيكونوا معه.
فلما قدم على الصديق فسأله ذلك، غضب الصديق وقال: أتيتني لتشغلني عما هو أرضى لله من الذي تدعوني إليه، ثم سيره الصديق إلى خالد بن الوليد بالعراق.
قال سيف بأسانيده: ثم جاء ابن صلوبا فصالح خالدا على بانقيا، وبسما، وما حول ذلك على عشرة آلاف دينار، وجاءه دهاقين تلك البلاد فصالحوه على بلدانهم وأهاليهم كما صالح أهل الحيرة، واتفق في تلك الأيام التي كان قد تمكن بأطراف العراق واستحوذ على الحيرة وتلك البلدان، وأوقع بأهل أليس والثنى وما بعدها بفارس ومن ناشب معهم ما أوقع من القتل الفظيع في فرسانهم، أن عدت فارس على ملكهم الأكبر أردشير وابنه شيرين فقتلوهما، وقتلوا كل من ينسب إليهما، وبقيت الفرس حائرين فيمن يولوه أمرهم، واختلفوا فيما بينهم غير أنهم قد جهزوا جيوشا تكون حائلة بين خالد وبين المدائن التي فيها إيوان كسرى، وسرير مملكته.
فحينئذ كتب خالد إلى من هنالك من المرازبة والأمراء والدولة يدعوهم إلى الله، وإلى الدخول إلى دين الإسلام ليثبت ملكهم عليهم، وإلا فليدفعوا الجزية، وإلا فليعلموا وليستعدوا لقدومه عليهم بقوم يحبون الموت كما يحبون هم الحياة، فجعلوا يعجبون من جرأة خالد وشجاعته، ويسخرون من ذلك لحماقتهم، ورعونتهم في أنفسهم.
وقد أقام خالد هنالك بعد صلح الحيرة سنة يتردد في بلاد فارس هاهنا وهاهنا، ويوقع بأهلها من البأس الشديد، والسطوة الباهرة، ما يبهر الأبصار لمن شاهد ذلك، ويشنف أسماع من بلغه ذلك، ويحير العقول لمن تدبره.