البداية والنهاية/الجزء السادس/باب انقياد الشجر لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قد تقدم الحديث الذي رواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل عن أبي حرزة يعقوب بن مجاهد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن جابر بن عبد الله قال: سرنا مع النبي ﷺ حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله ﷺ يقضي حاجته، فأبتعته بإداوة من ماء فنظر فلم ير شيئا يستتر به، وإذا شجرتان بشاطئ الوادي، فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها وقال: « انقادي علي بإذن الله » فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها وقال: « انقادي علي بإذن الله » فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده، حتى إذا كان بالمنتصف فيما بينهما لأم بينهما - يعني: جمعهما - وقال: « التئما علي بإذن الله » فالتأمتا.
قال جابر: فخرجت أحضر مخافة أن يحس بقربي فيبعد، فجلست أحدث نفسي فحانت مني لفتة، فإذا أنا برسول الله مقبل، وإذا الشجرتان قد افترقتا وقامت كل واحدة منهما على ساق، فرأيت رسول الله وقف وقفة وقال برأسه: هكذا يمينا وشمالا، وذكر تمام الحديث في قصة الماء، وقصة الحوت الذي دسره البحر كما تقدم، ولله الحمد والمنة.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن أبي سفيان - وهو طلحة بن نافع - عن أنس قال: جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ ذات يوم وهو جالس حزين قد خضب بالدماء من ضربة بعض أهل مكة قال: فقال له: مالك؟
فقال: « فعل بي هؤلاء وفعلوا ».
قال: فقال له جبريل: أتحب أن أريك آية؟
قال: فقال: نعم.
قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي فقال: أدع تلك الشجرة فدعاها.
قال: فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه.
فقال: مرها فلترجع، فأمرها فرجعت إلى مكانها.
فقال رسول الله ﷺ: « حسبي ».
وهذا إسناد على شرط مسلم ولم يروه إلا ابن ماجه عن محمد بن طريف، عن أبي معاوية.
حديث آخر:
روى البيهقي من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن أبي رافع، عن عمر بن الخطاب أن رسول الله كان على الحجون كئيبا لما أذاه المشركون فقال: « اللهم أرني اليوم آية لا أبالي من كذبني بعدها ».
قال: فأمر فنادى شجرة من قبل عقبة المدينة فأقبلت تخد الأرض حتى انتهت إليه.
قال: ثم أمرها فرجعت إلى موضعها.
قال: فقال: « ما أبالي من كذبني بعدها من قومي ».
ثم قال البيهقي: أنا الحاكم وأبو سعيد بن عمرو قالا: ثنا الأصم، ثنا أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير، عن مبارك ابن فضالة، عن الحسن قال: خرج رسول الله ﷺ إلى بعض شعاب مكة وقد دخله من الغم ما شاء الله من تكذيب قومه إياه فقال: « يا رب أرني ما أطمئن إليه ويذهب عني هذا الغم » فأوحى الله إليه أدع إليك أي أغصان هذه الشجرة شئت.
قال: فدعا غصنا فانتزع من مكانه، ثم خد في الأرض حتى جاء رسول الله ﷺ فقال له رسول الله: « ارجع إلى مكانك » فرجع، فحمد الله رسول الله وطابت نفسه.
وكان قد قال المشركون: أفضلت أباك وأجدادك يا محمد.
فأنزل الله: « أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون » الآيات.
وقال البيهقي: وهذا المرسل يشهد له ما قبله.
حديث آخر:
قال الإمام أحمد: ثنا أبو معاوية، ثنا الأعمش عن أبي ظبيان - وهو حصين بن جندب - عن ابن عباس قال: أتى النبي ﷺ رجل من بني عامر فقال: يا رسول الله أرني الخاتم الذي بين كتفيك، فإني من أطب الناس.
فقال له رسول الله ﷺ: « ألا أريك آية؟ »
قال: بلى.
قال: فنظر إلى نخلة فقال: « أدع ذلك العذق » فدعاه، فجاء ينقز بين يديه.
فقال له رسول الله ﷺ: « ارجع » فرجع إلى مكانه.
فقال العامري: يا آل بني عامر ما رأيت كاليوم رجلا أسحر من هذا هكذا.
رواه الإمام أحمد.
وقد أسنده البيهقي من طريق محمد بن أبي عبيدة عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: جاء رجل من بني عامر إلى رسول الله ﷺ فقال: إن عندي طبا وعلما فما تشتكي؟ هل يريبك من نفسك شيء إلى ما تدعو؟
قال: « أدعو إلى الله والإسلام ».
قال: فإنك لتقول قولا فهل لك من آية؟
قال: نعم إن شئت أريتك آية، وبين يديه شجرة فقال لغصن منها: « تعال يا غصن » فانقطع الغصن من الشجرة، ثم أقبل ينقز حتى قام بين يديه.
فقال: « ارجع إلى مكانك » فرجع.
فقال العامري: يا آل عامر بن صعصعة لا ألومك على شيء قلته أبدا.
وهذا يقتضي أنه سالم الأمر، ولم يجب من كل وجه.
وقد قال البيهقي: أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا ابن أبي قماش، ثنا ابن عائشة عن عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن سالم ابن أبي الجعد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: ما هذا الذي يقول أصحابك؟
قال: وحول رسول الله أعذاق وشجر.
قال: فقال رسول الله: « هل لك أن أريك آية؟ »
قال: نعم.
قال: فدعا عذقا منها، فأقبل يخد الأرض حتى وقف بين يديه يخد الأرض ويسجد، ويرفع رأسه، حتى وقف بين يديه، ثم أمره فرجع.
قام العامري وهو يقول: يا آل عامر بن صعصعة والله لا أكذبه بشيء يقوله أبدا.
طريق أخرى فيها أن العامري أسلم:
قال البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أنا أبو علي حامد بن محمد بن الوفا، أنا علي بن عبد العزيز، ثنا محمد بن سعيد بن الأصبهاني، أنا شريك عن سماك، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ قال: بما أعرف أنك رسول الله؟
قال: « أرأيت إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة، أتشهد أني رسول الله؟ »
قال: نعم.
قال: فدعا العذق، فجعل العذق ينزل من النخلة حتى سقط في الأرض، فجعل ينقز حتى أتى رسول الله ثم قال له: « ارجع » فرجع حتى عاد إلى مكانه.
فقال: أشهد أنك رسول الله وآمن.
قال البيهقي: رواه البخاري في التاريخ عن محمد بن سعيد الأصبهاني.
قلت: ولعله قال أولا: إنه سحر، ثم تبصر لنفسه فأسلم وآمن لما هداه الله عز وجل، والله أعلم.
حديث آخر عن أبي عمر في ذلك:
قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: أنا أبو بكر محمد بن عبد الله الوراق، أنا الحسين بن سفيان، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي، ثنا محمد بن فضيل عن أبي حيان، عن عطاء، عن ابن عمر قال: كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال له رسول الله: « أين تريد؟ »
قال: إلى أهلي.
قال: « هل لك إلى خير؟ »
قال: ما هو؟
قال: « تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله ».
قال: هل من شاهد على ما تقول؟
قال: « هذه الشجرة ».
فدعاها رسول الله ﷺ وهي على شاطئ الوادي فأقبلت تخد الأرض خدا فقامت بين يديه، فاستشهد ثلاثا فشهدت أنه كما قال، ثم إنها رجعت إلى منبتها، ورجع الأعرابي إلى قومه فقال: إن يتبعوني أتيتك بهم وإلا رجعت إليك وكنت معك.
وهذا إسناد جيد، ولم يخرجوه، ولا رواه الإمام أحمد، والله أعلم.