سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/أصحاب الفيل
من الحوادث المهمة التي وقعت عام مولده ﷺ حوالي سنة 570 من الميلاد قدوم أبرهة الأشرم ملك اليمن إلى مكة لهدم الكعبة وهذه خلاصتها:
إن الحبشة ملكوا اليمن بعد حمير فلما صار المُلك إلى أبرهة بن الصباح الأشرم، بنى كنيسة عظيمة بصنعاء إلى جنب غُمدان يقال لها القُليس لم ير مثلها في زمانها بناها بالرخام وجيد الخشب المذهب وقصد أن يصرف حج العرب إليها ويبطل الكعبة، فلما تحدث العرب بذلك غضب رجل من النّساءة من بني فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.
والنساءة الذين كانوا ينسئون الشهور على العرب في الجاهلية فيحلون الشهر من الأشهر الحرم ويحرمون مكانه الشهر من الأشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر، ففيه أنزل الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا النَّسِىء زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: 37)، قال ابن هشام: ليواطئوا ليوافقوا؛ وكان أول من نسأ الشهور على العرب فأحلت منها ما أحل وحرمت منها ما حرم القلمس وهو حذيفة بن عبد الله بن فقيم، وأول الأشهر الحرم «المحرم»، فخرج الكناني حتى أتى القليس «الكنيسة» وتغوّط فيها ليلا ثم خرج فلحق بأرضه، فلما أُخبر بذلك أبرهة غضب وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه (وسُمي هذا العام بعام الفيل) فلما وصل إلى الطائف بعد أن هزم من تعرض له من العرب، بعث رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصود إلى مكة فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وأحضرها إلى أبرهة، وأرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة وقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم، فسأل فقيل له عبد المطلب فقال له: إن الملك يقول إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فقال له عبد المطلب: والله ما نريد حربه ولا لنا بذلك طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم فإن لم يمنعه منه فهو بيته وحرمه وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه. ثم انطلق عبد المطلب مع رسول أبرهة إليه فلما استؤذن لعبد المطلب قالوا لأبرهة: هذا سيد قريش فأذن له فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه، ثم قال له: حاجتك؟ فذكر عبد المطلب أباعره التي أخذت له، فقال أبرهة: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حتى كلمتك، أتكلمني عن مائة بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ قال له عبد المطلب: أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه، فرد أبرهة على عبد المطلب الإبل فانصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز بالجبال والشعاب تخوفا عليهم معرة الجيش وقد كانوا أكثر من قريش عددا، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجيشه، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
لا هُمَّ إن العبد يمـ ** نع رحله فامنع حِلالك
لا يغلبن صليبهم ** ومحالهمِ غدوا محالك
إن كنت تاركهم وقبـ ** لتنا فأَمرٌ ما بدا لك
فلما تهيأ أبرهة لدخول مكة وهيأ فيله الأعظم (محمودا) وهو مجمع على هدم البيت فكانوا كلما وجهوا الفيل إلى مكة برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى سائر الجهات قام يهرول. ويقال: كان عدد الفيلة في هذه الموقعة ثلاثة عشر فيلا، وبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيرا أبابيل من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طائر ثلاثة أحجار، واحد في منقاره واثنان في رجليه فقذفتهم بها وهي مثل الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت، ثم أرسل الله تعالى سيلا فألقاهم في البحر والذي سلم منهم ولى هاربا مع أبرهة إلى اليمن يبتدر الطريق وأصيب أبرهة بتساقط أعضائه وخرجوا به معهم تتساقط أعضاؤه حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قبله، وقيل: أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، ولما مات أبرهة، ملك مكانه ابنه يكسوم سنة 571م.
ونظرا لأهمية هذا الحادث صار العرب يؤرخون به؛ إذ لو تغلب أبرهة على قريش وتم له هدم الكعبة لأدخلت الديانة المسيحية مكة وأُرغم العرب على اعتناقها لأن اليمن كانت تابعة لأمراء الحبشة المسيحيين وأُرغم كثير من أهلها سواء من عباد الأصنام أو اليهود على اعتناق المسيحية وكانت قريش تؤرخ السنين بموت قصيّ بن كلاب لجلالة قصيّ، فلما كان عام الفيل أرخت به.
وقد ذكرت حادثة الفيل في القرآن قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مّن سِجّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} (الفيل: 1 - 5).
يخبر الله تعالى رسوله بما حدث لأصحاب الفيل أي الجيش الذي سار لهدم الكعبة، ومعهم الفيل وما كان من انهزامهم بما سلطه الله عليهم من جماعات الكير ترمي العدو بحجارة من سجيل، وتفسير السجِّيل، طين يابس أو متحجر. وورد ذكر السجيل أيضا في القرآن في سورة الحجر، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} (الحجر: 74)، أي على قوم لوط، وقال في سورة هود: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ} (هود: 82).
وقد أخطأ من فسّره بالميكروب، لأن اللفظ لا يفيد ذلك في اللغة، وقد فتكت هذه الأحجار الصغيرة بالجيش الهاجم فعاد مهزوما من غير أن يبلغ مأربه، وجعلهم كعصف مأكول أي كورق زرع تأكله الدواب، فلما أصيبوا بهذه الحجارة تساقطت لحومهم، فإن قيل: كيف يتصور أن هذه الحجارة الصغيرة تفتك بالجيش؟ فهذه قدرة الله سبحانه وتعالى، وقد كان قادرا على أن يهزمهم ويردهم من غير أن يسلط عليهم الطير ولكنه جعل ذلك سببا.
وبانهزام الحبشة كما تقدم حفظ الله بيته الحرام من أن يهدم، وقد صار فيما بعد قبلة المسلمين في جميع أقطار الأرض.