سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/عبد المطلب يهنىء سيف بن ذي يزن
لما ظفر سيف بن ذي يزن الحميري بالحبشة وذلك بعد مولد النبي ﷺ أتته وفود العرب وأشرافها وكان من جملتهم وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم جد النبي ﷺ وأمية بن عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد الله بن جُدعان فقدموا عليه وهو في قصر يقال له غُمدان - بضم الغين - فطلبوا الإذن عليه فأذن لهم وتكلم عبد المطلب مهنئا. ولما فرغ أدناه وقربه ثم استنهضوا إلى دار الضيافة وقاموا ببابه شهرا لا يصلون إليه ولا يؤذن لهم في الانصراف، ثم انتبه إليهم انتباهة فدعا بعبد المطلب من بينهم فخلا به وأدنى مجلسه وقال:
«يا عبد المطلب إني مفوض إليك من علمي أمرا لو غيرك كان لم أبح له به ولكني رأيتك معدنه فأطلعتك عليه فليكن مصونا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره، إني أجد في العلم المخزون والكتاب المكنون الذي ادخرناه لأنفسنا واحتجبناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة للناس كافة ولرهطك عامة ولنفسك خاصة».
قال عبد المطلب: «مثلك يا أيها الملك برّ، وسرّ، وبشّر، ما هو؟ فداك أهل الوبر زمرا بعد زمر».
قال ابن ذي يزن: «إذا ولد مولود بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، إلى يوم القيامة».
قال عبد المطلب: «أبيت اللعن لقد أُبت بخير ما آب به أحد فلولا إجلال الملك لسألته عما سارّه إلى ما ازداد به سرورا».
قال ابن ذي يزن: «هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه وقد وجدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض، يخمد الأديان، ويكسر الأوثان ويعبد الرحمن، قوله حكم وفصل، وأمره حزم وعدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله».
فقال عبد المطلب: «طال عمرك، ودام ملكك، وعلا جدك، وعز فخرك، فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟».
فقال ابن ذي يزن: «والبيت ذي الطنب، والعلامات والنصب، إنك يا عبد المطلب لجده من غير كذب».
فخرَّ عبد المطلب ساجدا، وقال ابن ذي يزن: «ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئا مما ذكرت لك؟».
فقال عبد المطلب: «أيها الملك، كان لي ابن كنت له محبا وعليه حدبا مشفقا، فزوجته كريمة من كرائم قومه، يقال لها: آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام بين كتفيه شامة فيه كل ما ذكرت من علامة، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه».
قال ابن ذي يزن: «إن الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، إطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون لكم الرياسة، فيبغون لك الغوائل وينصبون لك الحبائل وهم فاعلون وأبناؤهم، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مهاجره. فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار هجرته، وبيت نصرته، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنّه وأوطأت أقدام العرب عقبه ولكني صارف إليك ذلك عن تقصير مني بمن معك».
ثم أمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد وعشر إماء سود وخمسة أرطال فضة وحلتين من حلل اليمن وكرش مملوءة عنبرا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك وقال: «إذا حال الحول فأنبئني بما يكون من أمره».
فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن، فكان عبد المطلب بن هاشم يقول: «يا معشر قريش لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره ولعقبي»، فإذا قالوا له: وما ذاك؟ قال: سيظهر بعد حين، اهـ.
وفي «أسد الغابة» أن سيف بن ذي يزن أدرك النبي ﷺ وأخبر جده عبد المطلب بنبوة محمد ﷺ
كانت اليمن تابعة للحبشة فكره أهلها حكمهم ونهض سيف بن ذي يزن لاسترداد عرش آبائه فسعى لدى الإمبراطورية الرومانية لشد أزره فلم يفلح فالتجأ إلى ملك الفرس فأمده بجيش فحارب الحبشة وانتصر عليها وقتل واليها الذي كان يدعى مسروقا وذلك حوالي سنة 575م ويوافق العام الذي توفيت فيه آمنة أم رسول الله ﷺ فليس هناك اعتراض على ذهاب الوفود العربية لتهنئة ابن ذي يزن من الوجهة التاريخية، أضف إلى ذلك أن الواجب يقضي على رؤساء العرب بذلك لقرابتهم وجوارهم واشتراك مصالحهم التجارية لأنهم كانوا يرحلون إلى اليمن للتجارة في الشتاء كما كانوا يرحلون إلى الشام صيفا.
وقد اعترض الأستاذ «فيل» Weil على صحة القصة المتقدّمة من الوجهة التاريخية وفيما شرحه الأستاذ «برسيفال» M.C. de Perceval رد على اعتراضه لأنه أثبت انهزام الحبشة لأول مرة في سنة 575م وإن كانت لم تطرد نهائيا من اليمن إلا سنة 597م، أما الأستاذ موير فإنه لم يستطع تكذيب ذهاب الوفود ومعهم عبد المطلب (الذي كان وقتئذ حاكم مكة) تكذيبا باتّا بل قال: إن القصة تشمل مبالغات كثيرة فيما يتعلق بالإخبار عن النبي المنتظر وهذا ما جعله يرتاب فيها، على أن المتتبع للسيرة النبوية يجد أن هذه القصة ليست فريدة في بابها من حيث الإخبار برسول الله ﷺ فإن ما أخبر به سيف عبد المطلب قاله بحيرى لأبي طالب وعرفه سلمان الفارسي وأذاعه أحبار اليهود مما سنعنى بذكره مفصلا في كتابنا هذا إن شاء الله تعالى.
ولعل ما أخبر به ابن ذي يزن عبد المطلب كان من الأسباب التي جعلت عبد المطلب يكرم النبي ﷺ ويقول لأولاده إذا نحّوا رسول الله ﷺ عن مجلسه لصغره: (دعوا ابني فوالله إن له لشأنا).
إن الطفل الصغير، ذا المستقبل العظيم، تظهر عليه آيات العظمة والذكاء منذ نعومة أظفاره، ويكون له جاذبية خاصة تميزه عن سائر الأطفال بل تميزه عن إخوته إذا كان له إخوة، ويكون محبوبا مفضلا على غيره أينما حل، وهذا هو شأن عظماء الرجال كما تلونا من سيرهم.
فكان عبد المطلب، جد رسول الله ﷺ يرعاه رعاية خاصة ويؤثره على أولاده بسبب تلك الجاذبية والعظمة الكامنة فيه منذ الصغر، وهذه العظمة كانت تزداد وضوحا كلما ترعرع وكبر، وقد ثبت مما رواه الصحابة أن رسول الله ﷺ كانت له جاذبية غريبة فكانوا يحبونه محبة فائقة ولا يخالفون له أمرا.
إن عبد المطلب لم يكن يعلم أن محمدا، ذلك الطفل الصغير، سيكون رسول الله، لكنه كان يشعر في قرارة نفسه بتلك الجاذبية التي لازمته طول مدة حياته وبتلك العظمة الكامنة فيه، وهذا هو السر في محبته وشدة رعايته له ولا سيما أن عبد المطلب كان رجلا عظيما جليلا ذا فطنة وفراسة فكان يقول لأولاده:(دعوا ابني فوالله إن له لشأنا).