سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/الصلح
بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى رسول الله ﷺ وقالوا له: ائت محمدا فصالحه ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فوالله لا تحدّث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا فلما أقبل سهيل قال رسول الله ﷺ «قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل» وطالت المراجعة بينه وبين النبي ﷺ فلما التأم الأمر بينهما على الصلح على ترك القتال ولم يبق إلا الكتاب وعند ذلك وثب عمر بن الخطاب فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلامَ نعطي الدَّنِيَّة في ديننا، قال أبو بكر: الزم غَرْزَة فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، ثم أتى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله أَلست برسول الله؟ قال: «بلى»، قال: أوَلسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى»، قال: أوَليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى»، قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟ قال: «أنا أعبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني»، فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيرا.
ثم دعا رسول الله ﷺ عليّ بن أبي طالب فقال: «اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم» فقال سهيل: لا أعرف هذا أي الرحمن الرحيم ولكن اكتب باسمك اللهم، فكتبها وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم ثم قال: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو»، فقال سهيل: لو شهدتُ أنك رسول الله لم أقاتلك ولم أصدك عن البيت ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال رسول الله: «اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو»، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رَدَّه عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه وإن بيننا عيبة مكفوفة وإنه لا إسلال ولا إغلال وإنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (وكان عليٌّ رضي الله عنه وبعض الحاضرين من المسلمين منهم أسيد بن حضير وسعد بن عبادة يعارضون في محو كلمة رسول الله) وتواثبت خزاعة وقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا نحن في عقد قريش وعهدهم وإنك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل علينا مكة وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا معك سلاح الراكب: السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها، وكتبت نسخة أخرى من هذا العقد لتبقى عند المسلمين لأن سهيلا قال يكون هذا الكتاب معي، وقيل: إن الذي كتب النسخة الأخرى محمد بن مسلمة ولم يكن أحد في القوم راضيا بجميع ما رضي به النبي ﷺ غير أبي بكر.
وقد جاء في كتاب الصلح: «وإن بيننا عيبة مكفوفة» أي أمورا مطوية في صدور سليمة إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها وأنه «لا إسلال ولا إغلال» أي لا سرقة ولا خيانة.
مزايا هذا الصلح
نقل النووي عن العلماء: «أن المصلحة المترتبة على هذا الصلح هي ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي علمها النبي ﷺ وخفيت عليهم فحمله ذلك على موافقتهم وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تظهر عندهم أمور النبي ﷺ كما هي ولا يجتمعون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل الصلح اختلطوا بالمسلمين وجاءوا إلى المدينة وجاء المسلمون إلى مكة وخلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونهم وسمعوا منهم أحوال النبي ﷺ ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك فمالت أنفسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا فيما بين صلح الحديبية وفتح مكة كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما وازداد الذين لم يسلموا ميلا إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما قد تم لهم من الميل».
وإنا نضيف إلى ذلك أن مزايا هذا الصلح التي غابت عن أصحابه ﷺ ولم تخف عنه عظيمة جدا فقد اعترف له ﷺ في هذه المعاهدة بأنه قوة مستقلة نظير قريش وأن الهدنة توجد للمسلمين فرصة لنشر دينهم في جزيرة العرب بلا معارضة، ثم إن النبي ﷺ كان واثقا من جهة أخرى من إخلاص أصحابه وحبهم له وشدة تمسكهم بالعقيدة الإسلامية فلا ينضمون إلى قريش بينما كان يتوقع إسلام بعض القبائل وفوق ذلك فقد سمح له بزيارة مكة لتأدية الفريضة الدينية مع المسلمين في العام القابل والإقامة بها مدة ثلاثة أيام من غير أن يتعرضوا لهم بسوء وبسبب ما جاء في هذه المعاهدة من المزايا ازداد عدد المسلمين زيادة عظيمة فبعد أن كان عدد جيش الحديبية (1400) بلغ عددهم عند فتح مكة بعد عامي (10.000) وفي دائرة المعارف الإسلامية: «إن محمدا فاز في صلح الحديبية على قريش فوزا سياسيا باهرا».
لما فرغ رسول الله ﷺ من الصلح وأشهد عليه رجالا من المسلمين، أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بن الجراح ومحمد بن مسلمة، ورجالا من قريش حويطبا ومكرزا، قام إلى هديه فنحره ثم جلس فحلق رأسه وقيل: إن الذي حلقه في ذلك اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي وكان حجاما، فلما رأى الناس أن رسول الله ﷺ قد نحر وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حلق رجال يوم الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله ﷺ «يرحم الله المحلقين»، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين»، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين»، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصرين»، فقالوا: فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: «لم يشكوا».
وأهدى رسول الله ﷺ عام الحديبية في هديه جملا لأبي جهل في رأسه برة من فضة يغيظ بذلك المشركين، وكانت بدنه ﷺ الي نحرها بالحديبية 70 وفرَّق رسول الله لحم الهدي على الفقراء، وكانت إقامته ﷺ بالحديبية نحو عشرين يوما.
قال الزهري في حديثه: ثم انصرف رسول الله ﷺ من وجهه ذلك قافلا حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُّبِينا لّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرطا مُّسْتَقِيما} (الفتح: 1، 2)، ثم كانت القصة فيه وفي أصحابه حتى انتهى إلى ذكر البيعة، فال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما} (الفتح: 10).
واختلف الناس في المراد من الفتح، فقال ابن عباس وأنس والبراء بن عازب رضي الله عنهم: الفتح هنا فتح الحديبية، وقيل: الفتح المراد هو فتح مكة فنزلت السورة عند مرجعه من الحديبية عدة له بفتحها وعبر فيه بالماضي لتحقق وقوعه.
ونرجح أن الفتح المقصود هو فتح الحديبية لأن هذه الآية نزلت بعد انصرافه منها وهذا الفتح مقدمة لفتح مكة، وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية الأنصاري الأوسي قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها وجدنا رسول الله ﷺ عند كُرَاع الغَميم وقد جمع الناس وقرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُّبِينا} (الفتح: 1)، فقال رجل: يا رسول الله أوَفتح هو؟ قال: «إي والذي نفسي بيده إنه لفتح»، وروى موسى بن عقبة والزهري والبيهقي عن عروة بن الزبير قال: أقبل النبي ﷺ راجعا فقال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا ورد ﷺ رجلين من المؤمنين كانا خرجا إليه فبلغه ﷺ قول ذلك الرجل فقال: «بئس الكلام بل هو أعظم الفتح قد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبوا إليكم في الأمان ولقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين فهو أعظم الفتوح، أنسيتم يوم أُحُد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟» فال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح، والله يا نبيّ الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وأمره منا.
وصارت تلك الشجرة التي وقعت عندها البيعة يقال لها: «شجرة الرضوان» وبلغ عمر بن الخطاب في خلافته أن ناسا يصلون عندها فتوعدهم وأمر بها فقطعت خوف ظهور البدعة.