سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/غزوة أحد يوم السبت 15 شوال سنة 3 هـ



غزوة أحد يوم السبت 15 شوال سنة 3 هـ



يناير سنة 625 م

أُحُد جبل مشهور بالمدينة في شماليها الغربي بينه وبين المدينة ثلاثة أميال، سُمي بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التي هناك وهو الموضع الذي دُفن فيه هارون أخو موسى عليهما السلام.

وسببها أن قريشا لما أصابهم يوم بدر ما أصابهم مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، ومشى رجال آخرون من أشراف قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم، فكلموا أبا سفيان وكل من له تجارة في تلك العير التي كانت سببا في وقعة بدر، وكانت تلك العير موقوفة بدار الندوة ولم تعط لأربابها، فقالوا: إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا ونحن طيبو النفس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشنا إلى محمد.

فقال أبو سفيان: وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فجعلوا لذلك ربح المال فسلم لأهل العير رؤوس أموالهم وكانت 50.000 دينار وأخرجوا أرباحها وكان الربح دينارا لكل دينار، وتجهزت قريش ومن والاهم من قبائل كنانة وتهامة، وقال صفوان بن أمية لأبي عزة الجمحي: يا أبا عزة إنك رجل شاعر فأعنا بلسانك ولك عليَّ إن رجعت أن أغنيك، وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر، فقال: إن محمدا قد منّ عليّ وأطلقني وأنا أسير في أسارى بدر فلا أريد أن أظاهر عليه، قال: بلى فأعنا بلسانك.

خرج أبو عزة ومسافع يستفزان الناس بأشعارهما، ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيا يقذف بالحربة قلما يخطىء بها، فقال له: اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة بن عبد المطلب بعمّي طعيمة بن عدي فأنت حر، لأن حمزة هو الذي قتل طعيمة يوم بدر، وقيل: إن ابنة سيده طعيمة قالت له: إن قتلت محمدا أو حمزة أو عليا في أبي فإنى لا أرى في القوم كفئا له غيرهم، فأنت عتيق.

وكان أبو سفيان بن حرب قائدهم وكانت عدتهم 3000 فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس، وجملة النساء 17 امرأة معهن الدفوف والمعازف أي آلات الملاهي والخمور والبغايا وخرجت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان التي قُتل أبوها في غزوة بدر لتنتقم لأبيها وقالت:

نحن بنات طارق ** نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق ** أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

وخرجت أم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة وريطة بنت منبه السهمية مع زوجها عمرو بن العاص وغيرهن يبكين قتلى بدر - إذ البكاء دأب النساء - وينحن عليهم ويحرضن على القتال وعدم الهزيمة والفرار.

وكان خروجهم من مكة لخمس مضين من شوال، وكتب العباس للنبي وأخبره بجمعهم وخروجهم وأرادوه على الخروج معهم فأبى واعتذر بما لحقه يوم بدر ولم يساعدهم بشيء من المال، فجاء كتابه للنبي وهو بقباء وكان العباس أرسل الكتاب مع رجل من بني غفار، استأجره وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل ذلك، فلما جاء الكتاب فك ختمه ودفعه لأُبيّ بن كعب فقرأه عليه.

وهذا مما يؤيد أن النبي كان أميا بمعنى أنه ما كان يعرف القراءة والكتابة وإلا لكان قرأ الكتاب بنفسه وكتم سره بدلا من أن يطلب من أُبيّ بن كعب تلاوته ثم يستكتمه.

ثم نزل على سعد بن الربيع فأَخبره بكتاب العباس فقال: والله إني لأرجو أن يكون خيرا فاستكتمه إياه، ولما خرج رسول الله من عنده، قالت له امرأته: ما قال لك رسول الله فقال لها: يا أم محمد ما أنت وذاك فقالت: قد سمعت ما قال وأخبرته بما قال له رسول الله فاسترجع وأخذ بيدها ولحق النبي وأخبره خبرها، وقال: يا رسول الله إني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له، وقد استكتمني إياه، فقال له رسول الله «خل عنها».

سارت قريش وهم 3000 رجل ومعهم الأحابيش الذين حالفوا قريشا وهم بنو المصطلق وبنو الهون بن خزيمة وخرج معهم أبو عامر الراهب في 70 فارسا.، وسماه رسول الله الفاسق بدلا عن الراهب وابنه حنظلة من فضلاء الصحابة وهو من المستشهدين بأُحُد، اجتمع الأحابيش عند حبيش وهو جبل بأسفل مكة وتحالفوا على أنهم مع قريش يدا واحدة ما سجا ليل ووضح نهار وما رسا حبيش مكانه.

سارت قريش حتى نزلوا ببطن الوادي من قبل أُحُد مقابل المدينة بذي الحليفة، وكان وصولهم يوم الأربعاء ثاني عشر شوال فأقاموا به الأربعاء والخميس والجمعة، وتشاور المسلمون في الخروج من المدينة، وكان رأي عبد الله ابن أُبي بن سلول رأى النبي فإنه كان يرى عدم الخروج منها، ولكن ألحَّ عليه بعضُ الصحابة فخرج فأصبح بالشعب من أُحُد يوم السبت للنصف من شوال.

وقد رأى النبي رؤيا قبل خروجه، وكانت ليلة الجمعة، فلما أصبح قال: «والله إني قد رأيت خيرا رأيت بَقَرا تُذبح ورأيت في ذباب سيفي - طرفة - ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة وكأني مردف كبشا، فأما البقر فناس من أصحابي يقتلون، وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي يُقتل، وأولت الدرع الحصينة المدينة، وأولت الكبش بأني أقتل صاحب الكتيبة»، وقد صدق الله رؤياه فكان الرجل الذي من أهل بيته «حمزة» سيد الشهداء، وقتل عليّ رضي الله عنه «طلحة بن عثمان العبدري» صاحب لواء المشركين، فهو صاحب الكتيبة وكبش القوم سيدهم وكان الذي بسيفه ما أصاب وجهه الشريف في الغزوة كما سيأتي ذكره.

قال رسول الله لأصحابه: «امكثوا بالمدينة، فإن دخل القوم المدينة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن»، وكان ذلك رأي أكابر المهاجرين والأنصار وأرسل إلى عبد الله بن أبيّ بن سلول يستشيره تألفا له ولم يستشره قبل ذلك، فكان رأي عبد الله مع رأيه فقال رجال من المسلمين لم يحضروا بدرا وأسفوا على ما فاتهم من مشهدها: يا رسول الله، إنا كنا نتمنى هذا اليوم، أخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبنا عنهم ووافقهم حمزة بن عبد المطلب.

فقال ابن أبيّ: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا ما أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا، أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا، رجعوا خائبين كما جاءوا.

وقال حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك وطائفة من الأنصار: إنا نخشى يا رسول الله أن يظن عدونا أنا كرهنا الخروج جبنا عن لقائهم: فيكون هذا جرأة منهم علينا، وزاد حمزة فقال: والذي أنزل عليك الكتاب، لا أطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة، وقال النعمان: يا رسول الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لأدخلنها.

فترجح عنده موافقة رأيهم وإن كرهه ابتداء ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولم يكن قد أُوحِيَ إليه في شأن البقاء أو الخروج فأَنفذ مشورتهم.

صلى رسول الله بالناس الجمعة ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم بأن النصر لهم ما صبروا وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ثم صلى بالناس العصر، ثم دخل بيته ومعه صاحباه فعمماه وألبساه وتقلد السيف وخرج وقد لبس لأمته - درعه، وقيل: سلاحه - وألقى الترس في ظهره وأخذ قناته بيده.

اصطف الناس ينتظرون خروجه فقال لهم سعد بن مُعاذ رضي الله عنه وأسيد بن حضير: استكرهتم رسول الله على الخروج فردوا الأمر إليه، وكان سعد بن معاذ سيد الأوس وهو في الأنصار كالصدّيق في المهاجرين.

ولما خرج رسول الله متقلدا سيفه، ندم الطالبون لخروجه على ما صنعوا وقالوا ما كان ينبغي لنا أن نخالفك، فاصنع ما شئت، وفي رواية: فإن شئت فاقعد، فقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه فخرج يوم الجمعة وأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت للنصف من شوال ومشى على رجليه ولما خالف رسول الله رأي ابن أُبيّ بخروجه إلى القتال، شق عليه ذلك، وقال: أطاع الولدان وعصاني.

واستعمل على المدينة «ابن أم مكتوم» رضي الله عنه، وعقد ثلاثة ألوية، لواء للأوس وجعله بيد أسيد بن حضير.، ولواء للخزرج وجعله بيد الحباب بن المنذر.، ولواء المهاجرين وجعله بيد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهم.

وكان في المسلمين مائة دارع - الدارع، لابس الدرع - وركب فرسه وقيل: خرج ماشيا وخرج السعدان أمامه يعدوان - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة - وكانا دارعين، ورد جماعة من المسلمين نحو سبعة عشر لصغر سنهم منهم: أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري والنعمان بن بشير ورافع بن خديج وسمرة بن جندب، ثم أجاز رافع بن خديج لما قيل إنه رام، فخرج وأصيب بسهم في ترقوته فنزع السهم وبقي النصل إلى أن مات.

ورأى جماعة من اليهود مع عبد الله بن أبيّ يريدون الخروج فقال: «أوَقد أسلموا؟» قالوا: لا يا رسول الله، قال: «مروهم فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين»، وكان المسلمون الخارجون معه 1000 ثم انخذل عبد الله بن أبيّ ورجع هو ومن معه من المنافقين وكانوا 300 فبقي المسلمون 700 وكان عدد المشركين 3000 ولم يكن مع المسلمين يومئذ إلا فرسان: فرس لرسول الله وفرس لأبي بردة.

وقال ابن أبيّ حين أراد الرجوع: عصاني وأطاع الولدان ومن لا رأي به، علامَ نقتل أنفسنا؟ ارجعوا أيها الناس.

لما انخذل ابن أبيّ ومن معه سقط في أيدي طائفتين من المسلمين وهمّتا أن تفشلا وهما: بنو حارثة من الخزرج وبنو سلمة من الأوس.

ثم مضى رسول الله حتى نزل الشعب من أُحد في عدوة الوادي في الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أُحد وصلى الصبح بأصحابه صفوفا، ثم اصطف المسلمون بالسبخة وكان على ميمنة خيل المشركين خالد بن الوليد وعلى مسيرتها عكرمة بن أبي جهل وعلى المشاة صفوان بن أمية، وقيل: عمرو بن العاص.

وقال النبي للزبير بن العوام: «استقبل خالدا وكن بإزائه»، وأمر جماعة آخرين أن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين ولم يكن مع المسلمين إلا فرس أو فرسان، وجعل النبي على الرماة عبد الله بن جبير بن النعمان الأوسي وهو أخو خوات بن جبير، وكان الرماة خمسين رجلا، فأقامهم النبي على جبل صغير مرتفع، وقال لهم:

«احموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم».

وفي رواية قال لهم رسول الله:

«إن رأيتمونا تخطفنا الطير، فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم».

ثم عرض رسول الله سيفا وقال: «من يأخذ هذا السيف بحقه»؟ فقام رجل وبسطوا أيديهم كل إنسان منهم يقول: أنا يا رسول الله، منهم أبو بكر الصديق وعمر وعليّ والزبير، فأمسكه عنهم ولم يعطه لهم حتى قام إليه - أبو دجانة - فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب في وجه العدو حتى ينحني، قال: أنا آخذه يا رسول الله، قال: لعلك إن أعطيتكه تقاتل في الكيّول - مؤخر الصفوف -، قال: لا يا رسول الله، فأعطاه إياه وكان رجلا شجاعا يختال عند الحرب، فلما رآه يتبختر قال: إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في مثل هذا الموطن، فحمل أبو دجانة لا يلقى أحدا من المشركين إلا قتله، وكان إذا كلّ السيف شحذه بالحجارة ثم يضرب به العدو.

ولما اصطف القوم نادى أبو سفيان: يا معشر الأوس والخزرج خلوا بيننا وبين عمنا وننصرف عنكم، فشتموه أقبح شتم ولعنوه أشد اللعن.

وخرج طلحة بن أبي طلحة وكان بيده لواء المشركين فطلب المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد، فخرج إليه عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فضربه فقطع رجليه فوقع على الأرض وبدت عورته فرجع عنه ولم يجهز عليه، فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه، فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو أبو سعيد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله، فحمله مسافع بن طلحة ابن أبي طلحة الذي قتله عليّ رضي الله عنه فرماه عاصم أيضا فقتله، ثم حمل اللواء كلاب بن طلحة فقتله الزبير فحمله جلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله ثم حمله أرطأة بن شرحبيل فقتله عليّ رضي الله عنه ثم حمله أبو زيد بن عمرو فقتله قزمان، فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم فقتله قزمان أيضا، ثم حمله صواب غلامهم وكان عبدا حبشيا فقتله عليٌّ، ثم لم يزل اللواء طريحا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فاستداروا حوله.

قد كان لواء المشركين شؤما عليهم، فكلما حمله أحد قُتل وهكذا قُتل أحد عشر رجلا حملوا اللواء بالتوالي وكان اهتمام المسلمين موجها إلى حامل العلم بنوع خاص لأنه كبش الكتيبة، ونكب بحمل العلم كل من مسافع والحارث وكلاب وجلاس وهؤلاء الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة فكلهم قُتلوا كأبيهم وعمهم وهما عثمان وأبو سعيد.

ولما قُتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة فجاش المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم وأزالوهم عن أمكنتهم وكان شعار المسلمين يومئذ: - أمت أمت - وشعار الكفار: - يا للعزى يا لهبل -.

الكرة على المسلمين

انهزم المشركون ووقع المسلمون ينتهبون المعسكر ويأخذون ما فيه من الغنائم واشتغلوا عن الحرب، فقال أصحاب عبد الله بن جبير وهم الرماة الذين أمرهم النبي بالبقاء بمكانهم «الغنيمة» أي قوم قد غلب أصحابكم، فما تنتظرون؟ ومعنى ذلك: أن الرماة طمعوا في الغنيمة ناسين أمر القائد العام وهو رسول الله فإنه أمرهم بالثبات في مراكزهم إذ قال لهم: إنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، فقال لهم قائدهم عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله يعني قوله: لا تبرحوا، فأبوا أن يطيعوه، وقالوا: والله لنأتين الناس ولنصيبن من الغنيمة فإن المشركين قد انهزموا فما مقامنا ها هنا؟ وقد ظن هؤلاء أن الحرب قد انتهت وأن قريشا قد هُزمت وقد ثبت عبد الله بن جبير في مكانه وثبت معه دون العشرة.

فلما توجه الرماة إلى محل الغنيمة، كرّ المشركون راجعين، ونظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل الذي كان فيه الرماة وقلة أهله التف بالخيل من وراء الجبل وتبعه عكرمة بن أبي جهل فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير ومثلوا به ووقعت الهزيمة في المسلمين بعد مدة وجيزة لأنهم خالفوا ما نهاهم عنه رسول الله فعوقبوا لمخالفته.

ووقع الاختلاط في جيش المسلمين وارتبكوا وصار يضرب بعضهم بعضا.

ثبات رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثبت رسول الله ولم يفارق مكانه الذي وصل إليه وقت انهزام المشركين ولم تزل قدمه شبرا واحدا عن موقفه مع أن الاختلاط كان شديدا حتى فقد المسلمون التمييز بينهم وبين أعدائهم وترك المسلمون شعارهم الذي يتعارفون به وهو: (أمت أمت) فوقع القتل في المسلمين بعضهم في بعض، وحافظ المشركون على شعارهم، ومما زاد في ارتباك المسلمين أن رجلا اسمه ابنُ قمئة الليثي قتل مصعب بن عمير وكان يشبه النبي إذا لبس لأمته فظن أنه قتل رسول الله فأذاع ذلك وكان مصعب يذب عن رسول الله وكان عدة الشهداء من المسلمين 70 رجلا وعدة القتلى من المشركين 23 رجلا، وكان بين القتلى حنظلة بن أبي سفيان، ووصل العدو إلى رسول الله وأصابته حجارتهم حتى وقع وأُغمي عليه وخدشت ركبتاه، فأخذ عليّ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما، وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى وشُج في وجهه وكلمت شفته السفلى وكُسرت الخوذة على رأسه، وامتصّ مالك بن سنان الخدري دم رسول الله ثم ازدرده.

ثم أراد رسول الله أن يعلو الصخرة التي في الشعب، فلما ذهب لينهض لم يستطع لأنه ضعف لكثرة ما خرج من دم رأسه الشريف ووجهه مع كونه عليه درعان فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها، وعطش عطشا شديدا، فخرج محمد بن مسلمة رضي الله عنه يطلب له ماء فلم يجد، فذهب إلى مياه فأتى منها بماء عذب، فشرب رسول الله ودعا له بخير.

وفي بعض الروايات: أن نساء المدينة خرجن وفيهن فاطمة بنت رسول الله، فلما لقيت رسول الله اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته وعليّ رضي الله عنه يسكب الماء فتزايد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير مصنوع من البردى فأحرقته بالنار حتى صار رمادا، فأخذت ذلك الرماد وكمدته حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم.

المنهزمون من المسلمين

وصار المسلمون ثلاث فرق: فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة فما رجعوا حتى انفض القتال، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَنُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} (آل عمران: 155).

وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي قد قُتل، فصارت غاية الواحد منهم أن يدافع عن نفسه أو يواصل القتال إلى أن يُقتل وهم أكثر الصحابة.

وفرقة ثبتت مع النبي ثم تراجعت إليه الفرقة الثانية شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حيّ، وكان في جملة من انهزم عثمان بن عفان، والوليد بن عقبة، وخارجة بن زيد، ورفاعة بن معلى، فأقاموا ثلاثة أيام ثم رجعوا إلى رسول الله.

قال موسى بن عقبة: لما غاب النبي عن أعين بعض القوم واختلط بعضهم ببعض وسمعوا الصارخ، قال رجال من المنافقين: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، وقال بعض منهم: لو كان نبيا ما قُتل فارجعوا إلى دينكم الأول، وفي ذلك أنزل الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ} (آل عمران: 144)، وقال رجل منهم: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أُبي ليستأمن لنا من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قُتل فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتيكم الكفار فيقتلوكم فإنهم يدخلون البيوت، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما: يا قوم إن كان محمد قد قُتل فإن رب محمد لم يُقتل، فقاتلوا عليه، وشهد له بهذه المقالة عند النبي سعد بن معاذ رضي الله عنه ووافق أنس بن النضر جماعة كثيرون على هذه المقالة وهم المؤمنون أهل الصدق واليقين الذين تمكن الإيمان من قلوبهم.

وروى ابن إسحاق أن أنس بن النضر، عم أنس بن مالك رضي الله عنهما جاء إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فقال: إن كان قد قُتل - يعني محمدا - فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه.ثم استقبل العدو فقاتل حتى قُتل رضي الله عنه، قال أنس: ولقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه - أي بأصابعه -.

وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أُحد وانكشف المسلمون، قال: «اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني - المشركين» ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال: «يا سعد الجنة ورب النضر إني أجد ريحها دون أحد»، قال سعد: فما أستطيع أن أصف ما صنع.

وقد مثل به المشركون، وما أفظع التمثل بالقتلى لكن هؤلاء قد أعماهم حب الانتقام.

وممن قال مثل مقالة أنس بن النضر، ثابت بن الدحداح رضي الله عنه فإنه قال: يا معشر الأنصار، إن كان محمد قد قُتل فإن الله حيٌّ لا يموت قاتلوا عن دينكم فإن الله مظفركم وناصركم، فنهض إليه نفر من الأنصار فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب، فحمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار.

رسول الله ومن ثبت معه

ذكرنا أن رسول الله قد ثبت ولم يتزحزح عن موقفه عندما انهزم المسلمون واختلطوا وقتلوا وفرّ من فرّ منهم، قال ابن سعد: ما زال يرمي عن قوسه حتى صارت شظايا ويرمي بالحجر، وكان أقرب الناس إلى القوم، وهذا ما يؤيد أنه كان أشجعهم وأثبتهم، وجاء عن عليّ رضي الله عنه وغيره: كنا إذا اشتد البأس - أي حمى القتال - اتقينا برسول الله أي فيجعلونه في وجه القوم ويكونون خلفه.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما جال الناس عن رسول الله تلك الجولة يوم أُحد، قلت: أذود عن نفسي، فإما أن أستشهد وإما أن ألحق حتى ألقى رسول الله فبينا أنا كذلك إذا برجل محمّر وجهه ما أدري من هو، فأَقبل المشركون حتى قلت قد ركبوه فملأ يده من الحصى ثم رمى به في وجوههم فتنكبوا على أعقابهم القهقرى حتى أتوا الجبل، ففعل ذلك مرارا ولا أدري من هو، وبيني وبينه المقداد، فبينا أنا أريد أن أسأل المقداد عنه إذ قال المقداد: يا سعد هذا هو رسول الله يدعوك، فقلت: وأين هو؟ فأَشار إليه فقمت وكأنه لم يصبني شيء من الأذى وأجلسني أمامه وأقول: اللهم سهمك فارم به عدوك ورسول الله يقول: «اللهم استجب لسعد، اللهم سدد رميته وأجب دعوته» - فكان سعد مجاب الدعوة - حتى إذا فرغ النبل من كنانتي، نثر لي ما كان في كنانته وانكشف الناس عنه

وعن سعد رضي الله عنه قال: لقد رأيتني والنبي يناولني النبل ويقول: «إرم فداك أبي وأمي» حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول: «إرم به»، وجاء أن سعدا رمى يوم أُحُد ألف سهم ما فيها سهم إلا ورسول الله يقول: «إرم فداك أبي وأمي»، ففداه ذلك اليوم ألف مرة، وعن علي رضي الله عنه قال: ما سمعت رسول الله قال: «فداك أبي وأمي» إلا لسعد رضي الله عنه - يعني يوم أُحد فلا ينافي أن النبي قال مثل ذلك للزبير رضي الله عنه يوم الخندق.

وثبت معه أربعة عشر: سبعة من المهاجرين وهم:

1 - أبو بكر الصديق.

2 - عمر بن الخطاب.

3 - عبد الرحمن بن عوف.

4 - سعد بن أبي وقاص.

5 - طلحة بن عبيد الله.

6 - الزبير بن العوام.

7 - أبو عبيدة بن الجراح.

أما عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقد صحت الأحاديث بأنه ممن ثبت، وبعض الرواة لم يذكر لأنه كان حامل اللواء بعد مصعب.

وسبعة من الأنصار وهم:

1 - أبو دجانة.

2 - الحباب بن المنذر.

3 - عاصم بن ثابت.

4 - الحارث بن الصمة.

5 - سهل بن حنيف.

6 - سعد بن معاذ.

7 - أسيد بن حضير.

وما زال النبي يرمي عن قوسه حتى اندقت سِيَتُها - والسية ما انعطف من طرفي القوس اللذين هما محل الوتر -، وفي رواية: حتى تقطع الوتر وبقي في يده قطعة قدر شبر.

شجاعة امرأة وثباتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

لما انكشف المسلمون واختلط أمرهم، ثبتت أم عمارة المازنية واسمها نسيبة وهي زوج زيد بن عاصم قالت: خرجت يوم أُحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء أسقي به الجرحى فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون، انحزت إلى رسول الله فقمت أباشر القتال دونه وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراحة إليّ، رُويَ أنه كان على عاتقها جرح أجوف له غور فقيل لها: من أصابك بهذا؟ قالت: ابن قمئة لما ولي الناس عن رسول الله أقبل ابن قمئة يقول: دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير رضي الله عنه فضربني هذه الضربة وضربته ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان.

وجاء في رواية: خرجت نسيبة يوم أُحد وزوجها زيد بن عاصم وابناها حبيب وعبد الله وقال لهم رسول الله بارك الله عليكم أهل بيت، فقالت له نسيبة رضي الله عنها: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: اللهم اجعلم رفقائي في الجنة، وعند ذلك قالت رضي الله عنها: ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا.

وقال في حقها: «ما التفت يمينا وشمالا يوم أُحد إلا ورأيتها تقاتل دوني»، وقد جُرحت رضي الله عنها اثني عشر جرحا ما بين طعنة برمح وضربة بسيف.

فهذه حقا شجاعة مدهشة لامرأة وقد تحملت ما أصابها من الجراح في سبيل الجهاد، وهو ما يعجز عن تحمله الرجال فضلا عن النساء، مع العلم بأن كثيرا قد فروا من القتال، لما أصابهم من الفزع والاختلاط، ويلاحظ أن المسلمين في قتالهم المشركين كانوا يرجون الاستشهاد كي يفوزوا بجنة الخلد، فما كانوا يبالون بحياتهم الدنيوية لأنها زائلة مشوبة بالأحزان والآلام، أما الآخرة فإنها دار بقاء ينعم فيها أهل الشهادة والصالحون، وكان النساء يحاربن مع الرجال ويضمدون الجراح.

وجاء في أسد الغابة: أن أم عمارة شهدت بيعة العقبة وشهدت أُحدا مع زوجها وابنيها وشهدت بيعة الرضوان وشهدت اليمامة فقاتلت حتى أصيبت يدها وجرحت يومئذ اثنتي عشرة جراحة، روى عنها عكرمة مولى ابن عباس أنها قالت للنبي أرى كل شيء للرجال، ما أرى النساء يذكرن بشيء، فنزل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَتِ} (الأحزاب: 35)، وبمثل هذه الروح انتصر المسلمون في جميع حروبهم وانتشر الإسلام.

إحدى المعجزات

لرسول الله معجزات كثيرة سيأتي ذكرها في كتابنا هذا، ومن هذه المعجزات المعجزة الآتية:

أصيبت عين قتادة بن النعمان من بني ظفر وقد تدلت على وجنتيه فردها عليه رسول الله فصحت وكانت أحسن عينيه - الطبري -، وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها فأخذها قتادة بن النعمان، فكانت عنده وأصيبت يومئذ عين قتادة حتى وقعت على وجنته.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله ردها بيده فكانت أحسن عينيه وأحدّهما وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى.

قتل أبي بن خلف

أقبل أبيّ بن خلف يوم أُحد نحو النبي وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فاستقبله مصعب بن عمير رضي الله عنه فقتل مصعبا فاستقبله رجال من المسلمين فأمرهم رسول الله أن يخلوا طريقه فأقبل وهو يقول: يا كذاب أين تفر فتناول النبي الحربة من الحارث بن الصمة أو من الزبير بن العوّام رضي الله عنه فرماه بها فأصابت عنقه وخدشته خدشا غير كبير واحتقن الدم بذلك الخدش، فرجع وهو يقول: قتلني والله محمد، فقالوا له: ذهب والله فؤادك، إنا لنأخذ السهام من أضلاعنا فنرمي بها، فما بك والله من بأس، ما أجزعك إنما هو خدش، ولو كفان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره، فقال: واللات والعزى، لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز - سوق من أسواق الجاهلية عند عرفة - لماتوا أجمعون، إنه قال لي بمكة أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليّ لقتلني، وكان أبيّ يقول بمكة للنبي يا محمد إن عندي العوذ - يعني فرسا له - أعلفه كل يوم فرقا (مكيال) من ذرة أقتلك عليها، فيقول رسول الله «أنا أقتلك إن شاء الله».

ولم يقتل رسول الله بيده الشريفة أحدا إلا أبيّ بن خلف لا قبل ولا بعد، ثم مات أبيّ وهم راجعون إلى مكة بسَرِف، وقيل: ببطن رابغ.

إصابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وصل العدو إلى رسول الله كما قدمنا فأصابته حجارتهم حتى وقع وأصيبت رباعيته اليمنى السفلى وشج في وجهه وكلمت شفته السفلى وكان الذي أصاب رسول الله عتبة بن أبي وقاص أخو سعد بن أبي وقاص والدم يسيل على وجهه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى ربهم»، فنزل في ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلِمُونَ}ـ (آل عمران: 128).

ودخلت حلقتان من المغفر في وجنته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه في حفرة واحتضنه طلحة بن عبيد الله، حتى استوى قائما، وانتزع أبو عبيدة عامر بن الجراح الحلقتين اللتين كانتا غاصتا في وجنته وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه فكان ساقط الثنيتين. وامتص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري رضي الله عنه الدم من وجنته ثم ازدرده فقال عليه الصلاة والسلام: «من مس دمه دمي لم تصبه النار» فاستشهد في هذه الغزوة.

وكان سبب وقوع رسول الله أن ابن قمئة علاه بالسيف فلم يؤثر السيف فيه إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه فشكا منه شهرا وقُذف رسول الله بالحجارة حتى وقع لشقه.

ولما أصيب رسول الله قالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إني لم أبعث لعانا ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» فاعتذر عنهم وتضرع إلى الله أن يمهلهم حتى يكون منهم أو من ذريتهم من يؤمن وهذا غاية الحلم.

المثلة بالمسلمين وبحمزة رضي الله عنه

اشتغل المشركون ذكورا وإناثا بقتلى المسلمين يمثلون بهم يقطعون الآذان والأنوف والفروج ويبقرون البطون وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله وأشراف الصحابة.

واتخذت هند بنت عتبة زوج أبي سفيان من آذان الرجال وأنوفهم خدما - أي خلاخل - وقلائد وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا غلام جبير وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها - مضغتها - فلم تستطع أن تستسيغها فلفظتها لأنها كانت نذرت إن قدرت على حمزة لتأكل من كبده، وهند هذه هي زوج أبي سفيان وأم معاوية وقد أسلمت في فتح مكة بعد زوجها كما سيأتي، وممن مُثّل به عبد الله بن جحش ودُفن هو وخاله حمزة في قبر واحد، ونهى الإسلام عن المثلة لأنها تدل على الوحشية وتنافي الإنسانية وقد قاتل حمزة ذلك اليوم قتالا شديدا وكان يقاتل بسيفين وآخر قتيل قتله رضي الله عنه سباع بن عبد العزى الخزاعي، فلما أكب عليه ليأخذ درعه قتله وحشيٌّ غلام جبير بن مطعم ثم أسلم بعد ذلك وكان قد استأجرته هند لقتل حمزة.

والتمس رسول الله عمه حمزة فوجده مبقور البطن ومجدوع الأنف والأذنين فساءه التمثيل به، فقال: لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم، ولما رأى المسلمون حزن رسول الله وغيظه على من فعل بعمه ما فعل، قالوا: والله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلنَّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب، فالمثلة كانت تقترفها العرب في الجاهلية في الحرب انتقاما من أعدائهم إذا بلغ منهم الغيظ مبلغه، لكن الإسلام حرمها لشناعتها، فعن ابن عباس: إن الله عز وجل أنزل في قول رسول الله وقول أصحابه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّبِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مّمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل: 126، 127).

فعفا رسول الله ونهى عن المثلة وقال: «أصبر وأحتسب».

هذا ما نهى عنه الدين الإسلامي الحنيف ونهى عنه قواد الجيوش الإسلامية جيوشهم، لكنا نرى بعض جيوش الدول المتمدنة في القرن العشرين تقترف المثلة بأعدائها وهم يزعمون أن الدين الإسلامي دين همجية ووحشية.، وتلك الوحشية تُرتكب في زمن المدنية.

وبينا رسول الله في الشعب مع أصحابه إذ علت طائفة من قريش الجبل معهم خالد بن الوليد، فقال رسول الله: «اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوة لنا إلا بك» فقاتلهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوا من الجبل.

أسباب انهزام المسلمين في وقعة أحد

كان أبو سفيان بن حرب هو الذي قاد قريشا كلها يوم أُحد ولم يكن بأعلم من رسول الله بقيادة الجيش وتنظيمه بل كان رجلا تاجرا لكنه استطاع أن يجند عددا كبيرا من قريش فكانت عدتهم 3000 فيهم 700 دارع ومعهم 200 فرس، ومجموع الذين خرجوا للقتال مع رسول الله 700 منهم 100 دارع ولم يكن فيهم سوى فرسين لأن عبد الله بن أبيّ انخذل عن رسول الله بثلث الناس وعاد بهم إلى المدينة.

ثم إن رسول الله بعد أن صف المسلمين بأصل أحد وجعل الرماة على جبل صغير وأمرهم بألا يبرحوا مكانهم قائلا لهم: «احموا ظهورنا حتى لا يأتونا من خلفنا» طمعوا في الغنيمة وهبطوا تاركين مركزهم، وبذلك تمكن خالد بن الوليد من الكرّ على المسلمين بالخيل من الخلف فانكشفوا ووقع الاختلاط بينهم وذاع في الجيش أن محمدا قُتل فازداد ارتباك المسلمين وفروا منهزمين وفرّ بعضهم إلى المدينة.

نعم إن رسول الله لم يتزحزح عن مركزه وشاهده بعض الصحابة فالتفوا حوله وثبتوا معه وقاتلوا قتالا شديدا حتى إن سعد بن أبي وقاص وحده رمى يومئذ بألف سهم ورمى رسول الله عن قوسه حتى اندقَّت سيتها واستطاع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يهبط الطائفة التي علت الجبل من قريش، لكن هذا كله كان بعد أن وقعت الهزيمة بالمسلمين بسبب مخالفتهم أمر رسول الله فقد كانوا منتصرين في بدء الموقعة، وقد قُتل في هذه الموقعة 74 من المسلمين و 20 من المشركين.

نداء أبي سفيان

أشرف أبو سفيان على القوم بعد الواقعة فقال: أفي القوم محمد؟ فقال رسول الله «لا تجيبوه» مرتين، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاثا، فقال رسول الله «لا تجيبوه»، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاثا، فقال رسول الله «لا تجيبوه»، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قُتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا فلم يملك عمر بن الخطاب نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله فقد أبقى الله لك ما يخزيك، فقال: أعل هُبَل، أعل هُبَل، وقيل: إنه صرخ بأعلى صوته وقال: «أنعمت فعال إن الحرب سجال يوم أُحُد بيوم بدر أعل هُبَل»، وسبب ذلك أنه حين أراد الخروج كتب على سهم «نعم» وعلى الآخر «لا» وأجالهما عند هُبَل فخرج بهم «نعم» فتوجه إلى أحد فقال: أعل هبل أي زد علوا، فقال رسول الله «أجيبوه»، فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: «الله أعلى وأجل»، فقال أبو سفيان: ألا لنا العزى ولا عزى لكم، فقال رسول الله: «أجيبوه»، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: «الله مولانا ولا مولى لكم».

ولما أجاب عمر أبا سفيان قال له أبو سفيان: هلم يا عمر، فقال رسول الله: «ائته فانظر ما شأنه»، فجاءه فقال له أبو سفيان: أنشدك يا عمر أقتلنا محمدا؟ فقال عمر: «اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن»، فقال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر لقول ابن قمئة له إني قتلت محمدا.

ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مُثُل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت، وقد كان الحليس بن زبان أخو بني الحارث بن عبد مناة وهو يومئذ سيد الأحابيش قد مرّ بأبي سفيان بن حرب وهو يضرب شدق حمزة بن عبد المطلب بزج الرمح ويقول: ذق عقق، فقال الحليس: يا بني كنانة هذا سيد قريش يصنع بابن عمه ما ترون، فقال: ويحك اكتمها عني فإنه كانت زلة، وهذا اعتراف منه بأنه ارتكب شططا وأتى أمرا منكرا.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر للعام القابل، فقال رسول الله لرجل من أصحابه: «قل نعم هو بيننا وبينك موعد».

ثم بعث رسول الله عليّ بن أبي طالب فقال: «أخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنّهم»، قال عليّ: «فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة» بعد أن تشاورا في نهب المدينة، فأشار عليهم صفوان بن أمية ألا تفعلوا.

من هذا يتضح أن أبا سفيان قد خشي عاقبة ما فعله من ضرب شدق حمزة، فقال للحليس: اكتمها عني فإنها كانت زلة وبرأ نفسه في ندائه قائلا والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت أما نداؤه: «إن موعدكم بدر للعام القابل» فخطأ منه لأن هذا الإنذار يعطي المسلمين مهلة للاستعداد لمحاربته والتغلب عليه ومع أن جيش مكة تغلبوا على المسلمين في هذه الواقعة فإنهم اكتفوا بذلك ولم يجنوا ثمار انتصارهم، فلم يحاولوا الهجوم على المدينة بل قفلوا راجعين إلى مكة، والظاهر أن أبا سفيان تخوَّف أن يقتفي أثر المسلمين إلى المدينة.

استشهاد سعد بن الربيع الأنصاري

قال رسول الله من رجل ينظر: «ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الأحياء هو أم في الأموات؟» لأن النبي رأى الأسنة قد أشرعت إليه.

فقال رجل من الأنصار - هو أبي بن كعب رضي الله عنه -: أنا أنظر إليك يا رسول الله ما فعل سعد فنظر فوجده جريحا في القتلى وبه رمق وقد طعن اثنتي عشرة طعنة فقال له: إن رسول الله أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات، قال: أنا في الأموات، أبلغ رسول الله عني السلام وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، قال: ثم لم أبرح أن مات فجئت رسول الله فأخبرته خبره، فقال رسول الله «رحمه الله، نصح الله والرسول حيا وميتا»، وخلف سعد بنتين فأعطاهما رسول الله من ميراثه الثلثين.

كان سعد بن الربيع كاتبا في الجاهلية ومن النقباء يوم العقبة وشهد بدرا واستشهد يوم أُحد، إن سؤال رسول الله عن سعد بن الربيع في مثل هذا المأزق الحرج هو من شدة عطفه ومحبته لأصحابه وهذا خلق عظيم فقد كان يسأل عنهم في الحرب وفي السلم ويهتم بشؤونهم وكانوا يحبونه حبا شديدا يفوق كل حب ويدافعون عنه إلى آخر رمق من حياتهم ويخشون أن يصل إليه أي أذى وإن نصيحة سعد بن الربيع لقومه بالمحافظة على رسول الله وهو يلفظ النفس الأخير من أبلغ الأدلة على فرط محبة أصحابه له لسمو مكانته في نفوسهم وقد كان قتادة بن النعمان يتقي السهام بوجهه دون وجه رسول الله فكان آخرها سهما ندرت منه حدقته فأخذها بيده وسعى بها إلى رسول الله فردها وكانت أحسن عينيه فانظر كيف بلغت محبة الصحابة لرسول الله

قتل مخيريق

قال ابن إسحاق: وكان ممن قتل يوم أُحد مُخيريق، وكان أحد بني ثعلبة بن الفِطيون، قال: لما كان يوم أُحد قال: يا معشر يهود الله لقد علمتم إن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، فأخذ سيفه وعدته وقال: إن أصبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء، ثم غدا إلى رسول الله فقاتل معه حتى قُتل، فقال رسول الله فيما بلغنا: «مخيريق خير يهود».

وكان مخيريق أحد بني النضير، حبرا عالما غنيا كثير الأموال من النخل وكا يعرف رسول الله بصفته وما يجد في علمه، وخالف قومه اليهود واشترك في موقعة أُحد التي لم يشترك فيها أحد من اليهود غيره فلما قتل قبض رسول الله أمواله وتصدق بها، وقيل لمّا حضرته الوفاة قال: أموالي إلى محمد يضعها حيث شاء، وكان ذا مال كثير، ففرقها رسول الله.

انتحار قزمان

قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتيٌّ لا يُدرى من أين هو يقال له قزمان، وكان رسول الله يقول - إذا ذكر له - إنه لمن أهل النار، فلما كان يوم أُحد قاتل قتالا شديدا فقتل وحده ثمانية أو سبعة من المشركين وكان ذا بأس فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر، قال: بماذا أبشر فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي ولولا ذلك ما قاتلت، فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات، فأخبر به رسول الله فقال: «أشهد أني رسول الله حقا» وذلك لأنه مات منتحرا.

دفن قتلى أحد

كثرت القتلى يوم أُحد فكان الرجل والرجلان والثلاثة يكفنون في الثوب الواحد ثم يدفنون في القبر الواحد بدمائهم وأمر النبي بدفن شهداء أُحد ولم يصلِّ على أحد منهم ولم يغسلهم، وحمل أناس موتاهم ليدفنوهم بالمدينة فجاءهم منادي رسول الله يقول: ردوا القتلى إلى مضاجعهم، فأدرك المنادي واحدا وهو شماس بن عثمان المخزومي فإنه قل وحمل إلى المدينة وبه رمق فقال رسول الله: «احملوه إلى أم سلمة»، فحمل إليها فمات عندها فأمر رسول الله أن يرد إلى أُحد فيدفن هناك ولم يكن قد دُفن بالمدينة أما من دُفن فأبقوه.

وقال رسول الله «انظروا عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو حرام فإنهما كانا متصافين في الدنيا فاجعلوهما في قبر واحد».

رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

لما أراد رسول الله الرجوع إلى المدينة ركب فرسه وخرج المسلمون حوله وعامتهم جرحى ومعه أربع عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل أُحد قال: «اصطفوا حتى أثني على ربي عز وجل» - فكان عليه الصلاة والسلام يحب النظام -، فاصطف الرجال خلفه صفوفا وخلفهم النساء فقال:

«اللهم لك الحمد كله، لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما أبعدت ولا مبعد لما قربت» الحديث، ثم عاد إلى المدينة يهدّىء روع نساء القتلى ويدعو لهن وقد نهاهن عن اللطم وحلق الرؤوس وتخميش الوجوه وشق الجيوب.

ولم يخاطب رسول الله الذين انهزموا وعادوا إلى المدينة بالتغليظ والتشديد وإنما خاطبهم بالكلام اللين وعفا عنهم فزاد في الفضل والإحسان، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) وهذا اللين والعفو من حسن خلق الرسول

وباتت وجوه الأوس والخزرج تلك الليلة على بابه بالمسجد يحرسونه خوفا من قريش أن تعود إلى المدينة، لكنهم لم يعودوا.

شماتة اليهود والمنافقين

لما وصل المدينة، أظهر المنافقون واليهود الشماتة والشرور وصاروا يظهرون أقبح القول ومنه ما محمد إلا طالب ملك، ما أصيب بمثل هذا نبيّ قط، أصيب في بدنه وأصيب في أصحابه ويقولون، لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل وصار ابن أُبيّ يوبخ ابنه عبد الله الذي جرح في موقعة أُحد، فقال له ابنه: الذي صنع الله لرسوله خير، وهكذا كان اليهود ينتهزون الفرص لتخذيل المسلمين وتثبيط هممهم.

نزول الملائكة يوم أحد

قال عبيد بن عمير: لم تقاتل الملائكة يوم أُحد، وقال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة عن عبد الحميد بن سهيل عن عمر بن الحكم، قال: لم يمر رسول الله يوم أُحد بملك واحد وإنما كانوا يوم بدر، قال ومثله عن عكرمة، قال: وقال مجاهد: حضرت الملائكة يوم أُحد ولم تقاتل وإنما قاتلت يوم بدر، قال: ورُوي عن أبي هريرة أنه قال: وعدهم الله أن يمدهم لو صبروا فلما انكشفوا لم تقاتل الملائكة يومئذ إنما الثابت بنص القرآن ورواية الصحابة أنهم نزلوا وقاتلوا في غزوة بدر.

ذكر غزوة أحد في القرآن

أنزل الله تعالى من القرآن في غزوة أُحد ستين آية في سورة آل عمران، قال تعالى:

{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 121، 122).

قال أكثر العلماء بالمغازي: إن هذه الآية نزلت في وقعة أُحد، وقد كان المسلمون يومئذ كثيرين فلما انشقوا وخالفوا أمر الرسول انهزموا، وقال جل شأنه:

{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران: 123): إنه تعالى لما ذكر قصة أُحد أتبعها بذكر قصة بدر لأن المسلمين كانوا في غاية الضعف والكفار في غاية القوة، ولكن لما كان الله ناصرا لهم قهروا خصومهم، ثم قال تعالى:

{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ} (آل عمران: 124)، إن هذا الوعد كان يوم بدر وهو قول أكثر المفسرين، وقد قالوا: إن الملائكة حاربوا يوم بدر ولم يقاتلوا في سائر الأيام وهذا المدد من المعجزات.

{بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالآفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ} (آل عمران: 125).

فجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطا بثلاثة أمور: الصبر، والتقوى، ومجيء الكفار على الفور فلما لم توجد هذه الشرائط لا جرم لم يوجد المشروط.

{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفا مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} (آل عمران: 126، 127)، والمراد بالكبت الإخزاء والإهلاك والهزيمة والغيظ والإذلال، فكل ذلك ذكره المفسرون في تفسير الكبت.

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَلِمُونَ} - (آل عمران: 128).

نزلت هذه الآية في قصة أُحد لأن النبي لما شجه عتبة بن أبي وقاص وكسر رباعيته جعل يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: «كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم» فنزلت هذه الآية وقيل: إنه لعن أقواما فنزلت هذه الآية.

إلى أن قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئا وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّكِرِينَ} (آل عمران: 144).

ولما وقع الصراخ بأن محمدا قتل كما تقدم ذكره في غزوة أُحد، قال بعضهم: لو كان نبيا لما قُتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: «يا قوم إن كان قد قُتل محمد فإن رب محمد حيٌّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله قاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه»، ثم قال: «اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء» ثم سلَّ سيفه فقاتل حتى قُتل، ولما شج وجه رسول الله وكسرت رباعيته احتمله طلحة بن عبيد الله ودافع عنه أبو بكر وعليّ رضي الله عنه ونفر آخرون معهم، ثم إن رسول الله جعل ينادي ويقول: «إليّ عباد الله» حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم، فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين.

وقد ذكر الله تعالى الحكمة في ما أصاب المؤمنين بمخالفتهم أمر النبي وعرفهم سوء عاقبة المعصية وشؤم ارتكاب المخالفة بما وقع من ترك الرماة موقفهم الذي أمرهم رسول الله ألا يبرحوا عنه بقوله تعالى:

{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَزَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152).

وقال تعالى تعزية لأصحاب رسول الله على ما أصابهم من الجراح والقتل بأُحد: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139)، يعني لا تضعفوا بالذي نالكم من عدوكم بأُحد من القتل والقروح عن جهاد عدوكم وحربهم ولا تحزنوا ولا تأسوا فتجزوا على ما أصابكم من المصيبة يومئذ فأنتم الأعلون، أي الظاهرون عليهم ولكم العقبى في الظفر والنصرة عليهم إن كنتم مؤمنين.

سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
مقدمة الكتاب | كلمة عن بلاد العرب | نسبه الشريف | مناقب أجداده | أولاد عبد المطلب أعمام رسول الله وعماته | نذر عبد المطلب جد النبي | زواج عبد الله | أصحاب الفيل | مولده 20 أغسطس سنة 570م | الاحتفال بمولده | أسماؤه | مرضعاته | شق الصدر | الحض على قتله صغيرا | وفاة آمنة | عبد المطلب يهنىء سيف بن ذي يزن | وفاة جده عبد المطلب سنة 578 م وكفالة عمه أبي طالب | السفر إلى الشام سنة 582م | الرد على مستر موير | من هو بحيرا | رعية رسول الله الغنم بمكة | حرب الفجار | حلف الفضول | هل سافر النبي إلى اليمن؟ | ابتعاده عن معايب الجاهلية | الرحلة الثانية إلى الشام | تزويج رسول الله خديجة رضي الله عنها | تجديد بناء الكعبة | تسميته بالأمين | خلقه في طفولته وشبابه | رسالة محمد ثباتها من التوراة والإنجيل | إنذار يهود برسول الله | سلمان الفارسي وقصة إسلامه | من تسمى في الجاهلية بمحمد | عبادة الأصنام والأوثان | الأربعة الباحثون عن دين إبراهيم | الرد على مستر كانون سل | ترجمة زيد بن عمرو | بدء الوحي | النبي المنتظر | النبي الأمي | فترة الوحي | أول من آمن به | أبو بكر الصديق وإسلامه | علي بن أبي طالب وإسلامه | قتله رضي الله عنه | زيد بن حارثة وإسلامه | الدعوة إلى الإسلام خفية | الرد على مستر مرجوليوث | إيذاء المشركين لأبي بكر الصديق | إظهار الإسلام سنة 613م | عبد الله بن مسعود أول من جهر بالقرآن | الضرب والشتم حيلة الجهال المتعصبين | القرآن يحير ألباب العرب | قريش تفاوض أبا طالب في أمر رسول الله | تعذيب المسلمين | ما عرضته قريش على رسول الله | حماقة أبي جهل | قريش تمتحن رسول الله | إسلام جابر بن عبد الله | الهجرة الأولى إلى الحبشة شهر رجب السنة الخامسة من المبعث | شفاعة الغرانيق افتراء الزنادقة على رسول الله | إسلام حمزة | عمر بن الخطاب وسبب إسلامه | الهجرة الثانية إلى الحبشة | حصار الشعب وخبر الصحيفة - مقاطعة رسول الله وأتباعه | الطفيل بن عمرو الدوسي شاعر يحكم عقله ويسلم | وفاة أبي طالب سنة 620 م | وفاة خديجة سنة 620م | سفره إلى الطائف | الإسراء والمعراج سنة 621 م | تأثير خبر الإسراء في قريش | المعراج | هل رأى رسول الله ربه ليلة الإسراء؟ | فريضة الصلاة | عرض الرسول نفسه على قبائل العرب | بدء إسلام الأنصار بيعة العقبة الأولى | بيعة العقبة الثانية | مؤامرة قريش على قتل رسول الله | القرآن وما نزل منه بمكة | الهجرة إلى المدينة 12 ربيع الأول | وصوله إلى المدينة | ذكر الهجرة في القرآن | خطبة رسول الله في أول جمعة صلاها بالمدينة | معاهدة رسول الله اليهود | الخزرج والأوس وما كان بينهما وبين اليهود | العداوة بين الأوس والخزرج | الخلاصة | مدينة يثرب | مرض المهاجرين بحمى المدينة | مسجد رسول الله | تزويج النبي بعائشة رضي الله عنها | صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة 15 شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة | الأذان | فرض صيام شهر رمضان وزكاة الفطر | فريضة الزكاة | المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار | إسلام عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي | عداء اليهود ومناقشاتهم | مثال من نفاق ابن أبي | أهل الصفة | الإذن بالقتال | بعث حمزة | سرية عبيدة بن الحارث | سرية سعد بن أبي وقاص | غزوة ودان أو غزوة الأبواء | غزوة بواط | غزوة بدر الأولى أو غزوة سفوان | غزوة العشيرة | سرية عبد الله بن جحش الأسدي | غزوة بدر الثانية أو غزوة بدر الكبرى17 رمضان في السنة الثانية من الهجرة | الأسرى وفداؤهم | تأثير الانتصار في المدينة | رجوعه إلى المدينة وتقسيم الغنيمة | وقع خبر الانتصار على قريش | أسباب انتصار المسلمين في وقعة بدر | فضل أهل بدر | وفاة رقية ابنة رسول الله | زواج فاطمة بنت رسول الله سنة 2هـ | غزوة بني سليم | غزوة بني قينقاع سنة 2 هـ | غزوة السويق | غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان | زواج أم كلثوم ابنة رسول الله | زواج حفصة | سرية زيد بن حارثة | قتل كعب بن الأشرف | قتل ابن سنينة | غزوة أحد يوم السبت 15 شوال سنة 3 هـ | غزوة حمراء الأسد | بعث الرجيع صفر سنة 4 هـ | سرية بئر معونة صفر سنة 4هـ | غزوة بن النضير ربيع الأول سنة 4هـ | تحريم الخمر الإصلاح الاجتماعي العظيم | غزوة ذات الرقاع | غزوة بدر الأخيرة | غزوة دومة الجندل وهي أول غزوات الشام | تزوج رسول الله زينب بنت جحش | غزوة المريسيع أو غزوة بني المصطلق | قتل هشام بن صبابة | آية التيمم | عائشة وحديث الإفك | غزوة الخندق وهي الأحزاب | غزوة بني قريظة ذو القعدة سنة خمس | حكم سعد بن معاذ | غنائم المسلمين | وفاة سعد | خسائر المسلمين في غزوة بني قريظة | ما نزل من القرآن في أمر الخندق وبني قريظة | يهود المدينة وما آل إليه أمرهم | سرية القرطا وإسلام ثمامة بن أثال الحنفي | غزوة بني لحيان | إغارة عيينة بن حصن | غزوة ذي قرد وهي غزوة الغابة | سرية محمد بن مسلمة الأنصاري إلى ذي القصة | سرية زيد بن حارثة 2 | سرية أخرى لزيد بن حارثة | سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل إسلام الأصبغ بن عمرو الكلبي | سرية علي بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر | سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة | سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق رمضان سنة 6هـ | سرية عبد الله بن رواحة إلى أسير بن رزام | سرية كرز بن جابر الفهري | أمر الحديبية ذو القعدة 6 هـ | بيعة الرضوان | الصلح | تنفيذ المعاهدة | رسل النبي إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام | خاتم رسول الله | كتب رسول الله | نتيجة إرسال الرسل إلى الملوك والأمراء | غزوة خيبر محرم سنة 7 هـ | صلح أهل فدك | غزوة وادي القرى | خمس سرايا في خريف وشتاء السنة السابعة الهجرية | عمرة القضاء أو عمرة القضية ذو القعدة سنة 7 هـ | زواج رسول الله بميمونة رضي الله عنها | ما قبل سرية مؤتة من الحوادث | إسلام عمرو بن العاص سنة 8 هـ | خالد بن الوليد وإسلامه | سرية مؤتة لمحاربة الروم جمادى الأولى سنة 8 هـ | إسلام فروة بن عامر الجذامي | سرية عمرو بن العاص أو سرية ذات السلاسل جمادى الآخرة 8هـ | سرية أبو عبيدة بن الجراح | غزوة فتح مكة رمضان سنة 8 هـ | قريش تبعث أبا سفيان إلى المدينة | استعداد رسول الله للزحف على مكة | كتاب حاطب إلى مكة | رسول الله أذن لأصحابه بالإفطار في رمضان | عقد الألوية والرايات | المحكوم عليهم بالقتل | دخوله الكعبة | بيعة أهل مكة | هدم الأصنام | أذان بلال على ظهر الكعبة | إسلام أبي قحافة عثمان بن عامر التيمي والد أبي بكر الصديق | سرية خالد بن الوليد إلى العزى | سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة | سرية عمرو بن العاص إلى سواع | سرية خالد بن الوليد إلى جذيمة | غزوة حنين 10 شوال سنة 8 هـ | سرية عامر الأشعري أو سرية غزوة أوطاس - هوازن | سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين | غزوة الطائف شوال سنة 8 هـ | بعث قيس بن سعد إلى صداء | سرية عيينة بن حصن الفزاري إلى تميم | سرية الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق | سرية قطبة بن عامر إلى خثعم | سرية الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب | سرية علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة | سرية علي بن أبي طالب إلى الفلس | غزوة تبوك أو العسرة | هدم مسجد الضرار بقباء | موت عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين | حجة أبي بكر الصديق | سرية خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب بنجران | وفاة إبراهيم | أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل بعثهما إلى اليمن | بعث علي بن أبي طالب إلى اليمن | حجة الوداع | بعث أسامة بن زيد | عدد الغزوات والبعوث | الوفود | وفاة رسول الله يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ | رثاء أبي بكر | ما نزل من القرآن بالمدينة | مراتب الوحي والرد على المستشرقين | زوجات رسول الله | تعدد زوجات رسول الله | المرأة في الإسلام | حكمة تعدد الزوجات | بنوه وبناته | صفته | الشمائل المحمدية | اتباع التعاليم الإسلامية | الاقتداء بأخلاق رسول الله | معجزات رسول الله | خصائصه | موالي رسول الله | حراسه | أمناء رسول الله | شعراؤه | مؤذنوه | خدمه | خيله وبغاله وإبله | أسماء أسلحته | تأديب الله تعالى لرسول الله | منزلة رسول الله في القرآن | الأحاديث النبوية وتدوينها | مختارات من الأحاديث النبوية | خاتمة الكتاب