سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/أهل الصفة
أهل الصفّة هم فقراء المهاجرين إلى المدينة ومن لم يكن له منهم منزل يسكنه ولا عشائر وكانوا نحو 400 فكانوا يأوون إلى موضع مظلل في مسجد المدينة يسكنونه ويتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة، وكان رسول الله يدعوهم بالليل إذا تعشى فيفرقهم على أصحابه وتتعشى طائفة منهم مع رسول الله ﷺ حتى جاء الله بالغنى وكان أبو هريرة من أهل الصفة وكان رسول الله إذا أتته صدقة بعث بها إليهم.
عن أبي هريرة قال: خرج النبي ﷺ ليلة فقال: «ادع لي أصحابي» - يعني أهل الصفة - فجعلت أتبعهم رجلا رجلا فأوقظهم حتى جمعتهم فجئنا باب رسول الله ﷺ فاستأذنا فأذن لنا فوضع لنا صحفة فيها صنيع من شعير ووضع عليها يده، وقال: «خذوا باسم الله فأكلنا ما شئنا»، قال: ثم رفعنا أيدينا، وقد قال رسول الله ﷺ حين وضعت الصحفة: «والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئا ترونه». فقلنا لأبي هريرة: قدر كم هي حين فرغتم؟ قال: مثلها حين وضعت إلا أن فيها أثر الأصابع، وكان رسول الله يؤثر على نفسه وأولاده فيعطي ما بيده للمحتاجين - ومنهم أهل الصفة - حتى إن ابنته فاطمة رضي الله عنها جاءته تشكو ما تلقى من الرحى وخدمة البيت وكانت سمعت بسبي جاءه فطلبت منه خادما فقال: «لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع» وأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: «آلله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله تعالى ما سألته إلا ليشبعني فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم ﷺ فتبسَّم حين رآني وعرف ما في نفسي وما في وجهي ثم قال: «أبا هر»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «إلحق»، ومضى فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبنا في قدح فقال: «من أين هذا اللبن؟» قالوا: أهدى لك فلان أو فلانة، قال: «أبا هر»، قلت: لبيك رسول الله، قال: «إلحق إلى أهل الصفة فادعهم لي»، قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منهم وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؛ كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ولم يكن من طاعة الله ورسوله ﷺ بدّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم من البيت، فقال: «يا أبا هر»، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «خذ فأعطهم»، فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح حتى انتهيت إلى النبي ﷺ وقد رَوى القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسم، فقال: «أبا هر»: قلت ليبك رسول الله، قال: «بقيت أنا وأنت»، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقعد فاشرب» فقعدت فشربت، فقال: «اشرب» فشربت فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد مسلكا، قال: «فأَرني» فأعطيته القدح فحمد الله وسَمّى وشرب الفضلة»، رواه البخاري في كتاب الاستئذان.
قال الله تعالى يذكر أهل الصفة: {لِلْفُقَرَآء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَهُمْ لاَ يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 273).
عن ابن عباس وقف رسول الله ﷺ على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم، فطيب قلوبهم، فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفة، فمن لقيني من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنه من رفاقي».
وقد ترك أغلب المهاجرين أملاكهم وأموالهم بمكة عدا عثمان فإنه تمكن من أخذ جميع أمواله معه، وقد كان غنيا واشتغل المهاجرون بالزراعة، أعطاهم أهل المدينة أرضا يستثمرونها.
عن أبي سعيد الخدري قال: كنا مقدم النبي ﷺ المدينة إذا حضر منا الميت أتيناه فخبرناه فحضره واستغفر له حتى إذا قبض انصرف ومن معه؛ وربما قعد حتى يدفن وربما طال ذلك على رسول الله ﷺ من حبسه، فلما خشينا مشقة ذلك عليه قال بعض القوم لبعض: والله لو كنا لا نؤذن النبي ﷺ بأحد حتى يقبض فإذا قبض آذناه فلم تكن لذلك مشغلة عليه ولا حبس قال ففعلنا ذلك، قال: فكنا نؤذنه بالميت بعد أن يموت فيأتيه فيُصلي عليه ويستغفر له فربما انصرف عند ذلك وربما مكث حتى يدفن الميت فكنا على ذلك أيضا حينا»؛ ثم قالوا: والله لو أنا لم نشخص رسول الله ﷺ وحملنا الميت إلى منزله حتى نرسل إليه فيُصلى عليه عند بيته لكان ذلك أرفق به وأيسر عليه، قال ففعلنا ذلك، قال محمد بن عمر: فمن هناك سُميّ ذلك الموضع موضع الجنائز حملت إليه، ثم جرى ذلك من فعل الناس من حمل جنائزهم والصلاة عليهم في ذلك الموضع إلى اليوم.