سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
وصل رسول الله المدينة يوم الاثنين من شهر ربيع الأول قرب الظهر، ونزل قُباء على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس، وقباء قرية على ميلين من جنوب المدينة وهي خصبة بها حدائق من أعناب ونخيل وتين ورمان وأقام بها رسول الله يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجد قباء وهو الذي أسس على التقوى من أول يوم، ونزل أبو بكر رضي الله عنه على حبيب بن إساف بالسنح ثم قدم عليّ رضي الله عنه معه الفواطم وأم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين بعد أن أدى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده إلى الناس، ولما وصل نزل على كلثوم بن الهدم بالنبي ﷺ وكان علي رضي الله عنه في طريقه يسير الليل ويكمن النهار حتى تفطرت قدماه فاعتنقه النبي ﷺ وبكى رحمة له لما بقدمه من الورم وتفل في يديه وأمرّهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك، ثم ركب النبي ﷺ يوم الجمعة يريد المدينة وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي بمن معه من المسلمين وكانوا مئة وهي أول جمعة صلاها بالمدينة وأول خطبة خطبها في الإسلام ثم ركب راحلته (القصوى) يريد المدينة وأرخى زمامها فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة ويعترضون ناقته فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى بركت عند موضع مسجده اليوم وكان مربدا للتمر لغلامين يتيمين وهما: سهل وسهيل ابنا عمرو من بني النجار فلما بركت لم ينزل عنها ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله ﷺ واضع لها زمامها لا يثنيها به فالتفتت خلفها ثم رجعت إلى مبركها الأول فبركت فيه ووضعت جرانها (مقدم عنقها) فنزل عنها رسول الله ﷺ واحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل ناقته إلى بيته فأقام عنده حتى بنى حجره ومسجده ودعا رسول الله ﷺ صاحبي المربد - وكانا غلامين - فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبل منهما هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير ذهبا أدّاها من مال أبي بكر ثم بناه مسجدا وطفق رسول الله ﷺ ينقل معهم اللبن (الطوب النيىء) في بنيانه ويقول وهو ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر
ويقول:
إن الأجر أجر الآخرة ** فارحم الأنصار والمهاجره
ثم وادع رسول الله ﷺ اليهود وكتب بينه وبينهم كتاب صلح وموادعة وسنأتي على نص الكتاب فيما بعد.
وقبل أن يتم رسول الله بناء مسجده مات سعد بن زرارة بالذبحة والشهقة وكان نقيبا لبني النجار فطلبوا إقامة نقيب مكانه فقال: أنا نقيبكم ولم يخص منهم أحدا دون آخر فكانت من مناقبهم، وأقام رسول الله يبني مسجده من ربيع الأوس إلى صفر، فكان مسجدا بسيطا، جدرانه من اللبن، على قاعدة من الحجارة، والسقف من جريد النخل، مقاما على الجذوع ولم يكن فيه أثر للزخرفة أو النقش وليس به منبر.
فرح أهل المدينة بمقدم النبي ﷺ فرحا شديدا وقابلوه بالابتهاج وصعدت ذوات الخدور على الأسطحة، وعن عائشة رضي الله عنها لما قدم رسول الله ﷺ المدينة جلس النساء والصبيان والولائد يقلن جهرا:
طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع
ولعبت الحبشة بحرابهم فرحا بقدومه ﷺ وكانت الأنصار يتقربون إلى رسول الله بالهدايا رجالهم ونساؤهم.
قال ابن عباس: ولد النبي ﷺ يوم الإثنين، واستنبىء يوم الإثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الإثنين، وقبض يوم الإثنين، وابتدىء التاريخ في الإسلام من هجرة رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة، وأول من أرخ بالهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبع عشرة من الهجرة إلا أن التاريخ الهجري يبدأ قبل الهجرة بشهرين، وذلك أنهم جعلوا مبدأ التاريخ المحرم من تلك السنة والنبي ﷺ بعد بمكة، ثم كانت الهجرة بعد ذلك في ربيع الأول.