سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/عائشة وحديث الإفك
كان حديث الإفك في غزوة بني المصطلق ولا خلاف في ذلك ولكن علماء السير اختلفوا هل قصة آية التيمم أسبق أو قصة الإفك، وخلاصة حديث الإفك: أن عائشة رضي الله عنها بعد غزوة رسول الله ﷺ وحين آذنوا بالرحيل ابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها، وبينما هي مقبلة إلى رحلها وجدت أن عقدها قد انقطع فعادت تبحث عنه فوجدته، لكنها لما رجعت وجدت أن الجيش قد رحل فجلست وغلبها النوم فنامت فرآها صفوان بن المعطل السُّلَمي وكان وراء الجيش فاستيقظت باسترجاعه، فأناخ راحلته وأركبها وانطلق حتى أتى الجيش في نحر الظهيرة وهم نزول فأشاع عبد الله بن أبي في المعسكر حديث الإفك وانتشر بعد دخولهم المدينة لشدة عداوته لرسول الله ﷺ ومرضت عائشة رضي الله عنها شهرا واستاء رسول الله ﷺ استياءً شديدا ثم ذهبت عائشة إلى بيت أبيها، وقد علمت بحديث الناس، وقالت لأمها: ماذا يتحدث الناس؟ فقالت: يا بنية هوّني عليك فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها، فبكت بكاءً شديدا مما يتحدث الناس، وكانت لا تنام الليل من شدة الحزن والبكاء.
قلق رسول الله ﷺ واشتد قلقه واستبطأ الوحي، فلم ير غير استشارة أصحابه فدعا عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد واستشارهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله ﷺ بما يعلم من براءة أهله، وأما عليّ رضي الله عنه فقال: يا رسول الله «لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير» وهذا القول بلغ عائشة فلم تنسه طول حياتها، ثم قال عليّ: سل الجارية التي كانت تخدم عائشة تصدقك، فدعا رسول الله ﷺ بريرة وسألها فأقسمت أنها لم تر عليها شيئا، وكانت عائشة رضي الله عنها ترجو أن يرى رسول الله ﷺ في النوم رؤيا يبرئها الله بها، وما كانت تظن أن الله تعالى ينزل في شأنها وحيا، وبينا رسول الله ﷺ في حيرة إذ نزل الوحي عليه ببراءة عائشة رضي الله عنها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلّ امْرِىء مّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النور: 11).
وعصبة الإفك حسان بن ثابت رضي الله عنه ومِسْطح بن أثاثة وحِمنة بنت جحش، وعبد الله بن أُبي المنافق فلما نزلت براءة عائشة جلدهم رسول الله كل واحد ثمانين جلدة إلا عبد الله بن أبيّ فإنه لم يجلده بل أهمله، وفي ذلك يقول عبد الله بن رواحة:
لقد ذاق حسان الذي هو أهله ** وحِمنةُ إذا قالوا هجيرا ومسطح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ** وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا
قال السهيلي: إن من نسب عائشة رضي الله عنها إلى الزنا كان كافرا لأن ذلك تكذيب للنصوص القرآنية ومكذبها كافر.
وقال عروة: ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة، ولو لم يكن لعائشة من الفضائل إلا قصة الإفك لكفى بها فضلا وعلو مجد فإنها نزل فيها من القرآن ما يُتلى إلى يوم القيامة.
جاء في «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهنّ خرج سهمها خرج بها معه، فأقرع بيننا في غزاة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب فأنا أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من غزوته تلك وقفل دنونا من المدينة فآذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عِقْدٌ لي من جَزع ظَفَار قد انقطع فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه فأقبل الذين يُرَحِّلون لي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم وإنما يأكلن العُلْقَة من الطعام فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فاحتملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد فأممت الموضع الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليَّ، فبينا أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعَطّل السُّلَمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين أناخ راحلته فوطىء يدها، فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي ﷺ اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض إنما يدخل فيسلم فيقول كيف تِيكم لا أشعر بشيء من ذلك حتى نقهت فخرجت أنا وأم مِسّطح قِبَل المناصع مُتَبَرَّزنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكُنُف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في البرية أو في التنزه فأقبلت أنا وأم مسطح بنت أبي رُهم فَعَثَرَتْ في مِرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئسما قلت: أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: يا هَنْتَاهُ ألم تسمعي ما قالوا؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله ﷺ فسلم، فقال: كيف تيكُمْ؟ فقلت: ائذن لي إلى أبَوَيّ، قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله ﷺ فأتيتُ أبويّ، فقلت لأمي: ما يتحدث الناس به؟ فقالت: يا بنية هوِّني على نفسك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقلت: سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا؟ قالت: فبت تلك الليلة حتى أصبحتُ لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت فدعا رسول الله ﷺ عليَّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم في نفسه من الود لهم، فقال أسامة: أهلك يا رسول الله ولا نعلم إلا خيرا، وأما عليٌّ فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وسل الجارية تَصدقك، فدعا رسول الله ﷺ بَرِيرَةَ، فقال: «يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟» فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام على العجين فتأتي الدَّاجن فتأكله، فقام رسول الله ﷺ من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبيّ بن سَلول، فقال رسول الله ﷺ «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي»، فقام سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله أنا والله أعذِرُك منه إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية فقال: كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أُسيد بن الحضير فقال: كذبت لعمر الله والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيَّان الأوس والخزرج حتى هموا ورسول الله ﷺ على المنبر فخفضهم حتى سكتوا وسكت، وبكيت يومي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح عندي أبواي، وقد بكيت ليلتين ويوما حتى أظن أن البكاء فالق كبدي، قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن كذلك إذ دخل رسول الله ﷺ فجلس ولم يجلس عندي من يوم قيل لي ما قيل قبلها، وقد مكث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد ثم قال: «يا عائشة لقد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب الله عليه»، فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قَلَص دَمعي حتى ما أحس منه قطرة، وقلت لأبي: أجب عني رسول الله ﷺ قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله ﷺ فيما قال، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ قالت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، فقلت: والله لقد علمت أنكم سمعتم ما يتحدث به الناس ووقر في أنفسكم وصدقتم به ولئن قلت لكم إني بريئة، الله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم إني لبريئة لتصدقني، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف إذ قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}، ثم تحولت على فراشي وأنا أرجو أن يبرئني الله، ولكن والله ما ظننت أن ينزل الله في شأني وحيا يُتلى ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم بالقرآن في أمري ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله ﷺ في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله عليه الوحي، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شات فلما سُرِّي عن رسول الله ﷺ وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي: «يا عائشة احمدي الله فقد برأك الله»، فقالت لي أمي: قومي إلى رسول الله ﷺ فقلت: لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مّنْكُمْ} (النور: 11) الآيات، فلما أنزل الله عز وجل هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه -: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعدما قال لعائشة، فأنزل الله عز وجل: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى} إلى قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22)، فقال أبو بكر: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه، وكان رسول الله ﷺ سأل زينب بنت جحش عن أمري فقال: «يا زينب ما علمت ما رأيت؟» فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرا، قالت: وهي التي كانت تُساميني فعصمها الله بالورع، اهـ.
هذه قصة الإفك وقد ظهر أن المنافقين قد افتروها وعلى رأسهم عبد الله بن أبي لشدة حقدهم على رسول الله فنسبوا إلى عائشة، وهي من أشرف بيت، ما هي بريئة منه ليلوثوا سمعتها الطاهرة النقية، ولكن الحق تعالى برأها من كل سوء وأعلى قدرها فطمأن زوجها رسول الله وأبوها وأمها وجميع المسلمين، وإن كان هذا شأن الحاسدين في كل زمان فإن الله عز شأنه لا بد أن يكلأ عباده الصالحين ويرعاهم وينصرهم على القوم الظالمين.