سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم/مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن عمر: كان بناء المسجد على عهد رسول الله ﷺ وسقفه جريد وعمده خشب النخل فلم يزد فيه أبو بكر شيئا فزاد فيه عمر وبناه على ما كان من بنائه ثم غيره عثمان وبناه بالحجارة المنقوشة والفضة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه ساجا وزاد فيه.
وفي «الصحيح» في ذكر بناء المسجد: وكنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فرآه النبي ﷺ فجعل ينفض التراب عنه ويقول: «ويح عمار تقتله الفئة الباغية».
وروى البيهقي في «الدلائل» عن سفينة مولى رسول الله ﷺ قال: لما بنى النبي ﷺ المسجد وضع حجرا ثم قال: «ليضع أبو بكر حجره إلى حجري ثم ليضع عمر حجره إلى جنب حجر أبي بكر ثم ليضع عثمان حجره إلى جنب حجر عمر»، فقال رسول الله ﷺ «هؤلاء الخلفاء من بعدي».
وعن مكحول قال: لما كثر أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: اجعل لنا مسجدا، فقال: خشبات وثمامات عريش كعريش أخي موسى صلوات الله عليه، الأمر أعجل من ذلك، ورواه رزين وزاد فيه: فطفقوا ينقلون اللبن وما يحتاجون إليه ورسول الله ﷺ ينقل معهم الخ (الثمامات ما يبس من الأغصان).
وكان الذين أسّسوا المسجد جعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع وجعل قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، باب في مؤخره وهو في جهة القبلة اليوم وباب عاتكة الذي يدعى باب عاتكة ويُقال له: باب الرحمة، والباب الذي كان يدخل منه رسول الله ﷺ وهو باب آل عثمان اليوم، وهذان البابان لم يغيرا بعد أن صرفت القبلة، ولما صرفت القبلة سد رسول الله ﷺ الباب الذي كان خلفه وفتح هذا الباب ومحاذيه هذا الباب الذي سد.
ولما بنى رسول الله مسجده، بنى بيتين لزوجتيه عائشة وسودة رضي الله عنهما على نعت بناء المسجد من اللبن وجريد النخل، وكان لبيت عائشة مصراع واحد من عرعر (شجر السرو) أوساج، ولما تزوج رسول الله نساءه بنى لهن حجرا وهي تسعة أبيات وذلك في أوقات مختلفة، وحجر أزواج النبي ﷺ ليست من المسجد ولكن أبوابها شارعة في المسجد.
وكان رسول الله ﷺ يخطب إلى جذع يتكىء عليه فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟ قال: «إن شئتم»، فجعلوا له منبرا، ولما فارق رسول الله الجذع وصعد المنبر، حنَّ الجذع وسمع له صوت كصوت العشار، فقال النبي ﷺ «ألا تعجبون من حنين هذه الخشبة؟» فأقبل الناس عليها فسمعوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم فنزل إليهم رسول الله ﷺ فضمه فسكن.
وفي «صحيح البخاري» عن ابن عمر قال: كان النبي ﷺ يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحوَّل إليه فحنَّ الجذع فأتاه فمسح بيده عليه.
ولا شك أن حنين الجذع من معجزاته ﷺ وحديث الجذع مشهور رواه من الصحابة بضعة عشر، وكان المنبر من خشب الأثل ومن درجتين وله مجلس.
وذكر ابن بطوطة في رحلته «الجذع» فقال:
دخلنا الحرم الشريف وانتهينا إلى المسجد الكريم فوقفنا بباب السلام مسلمين وصلينا بالروضة الكريمة بين القبر والمنبر الكريم واستلمنا القطعة الباقية من الجذع الذي حنَّ إلى رسول الله ﷺ وهي ملصقة بعمود قائم بين القبر والمنبر عن يمين مستقبل القبلة، وقال عند ذكر القبر الكريم:
وفي الحديث: أن رسول الله ﷺ كان يخطب إلى جذع نخلة بالمسجد فلما صنع له المنبر وتحول إليه، حن الجذع حنين الناقة إلى حوارها، ورُوي أن رسول الله ﷺ نزل إليه فالتزمه فسكن وقال: «لو لم ألتزمه لحنّ إلى يوم القيامة». واختلفت الروايات فيمن صنع المنبر الكريم، فرُوي: أن تميما الداري رضي الله عنه هو الذي صنعه، وقيل: إن غلاما للعباس رضي الله عنه صنعه، وقيل: غلام لامرأة من الأنصار، وورد ذلك في الحديث الصحيح وصنع من طرفاء الغابة، وقيل: من الأثل وكان له ثلاث درجات فكان رسول الله ﷺ يقعد على علياهن ويضع رجليه الكريمتين في وسطاهن، فلما ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه قعد على وسطاهن ووضع رجليه على أولاهن، فلما ولي عمر رضي الله عنه جلس على أولاهن ووضع رجليه على الأرض، وفعل ذلك عثمان رضي الله عنه صدرا من خلافته ثم ترقى إلى الثالثة، ولما أن صار الأمر إلى معاوية رضي الله عنه أراد نقل المنبر إلى الشام فضج المسلمون فلما رأى ذلك معاوية، تركه وزاد فيه ست درجات من أسفله فبلغ تسع درجات.
ولما حج المهدي بن المنصور العباسي سنة 261 أراد أن يعيده إلى ما كان عليه، فأشار عليه الإمام مالك بتركه خشية التهافت فتركه، ويقال: إن المنبر الذي صنعه معاوية ورفع منبر النبي ﷺ عليه، تهافت على طول الزمان وجدده بعض خلفاء بني العباس واتخذ من بقايا أعواد منبر النبي ﷺ أمشاطا للتبرك ثم احترق هذا المنبر لما احترق المسجد في مستهل رمضان سنة 654م أيام المستعصم بالله واشتغل المستعصم عن عمارته بقتال التتار فعمل المظفر صاحب اليمن المنبر وبعث به إلى المدينة سنة 656م فنصب في موضع منبر النبي ﷺ فبقي إلى سنة 666م.